&كان النادل يتحرك اكثر مما يجب .. اكثر بكثير مما تقتضيه الضرورة، انه مثلاً عندما يضع منفضة السكائر يطقطق أصابعه.. وبحركة متواصلة ينتقل الى مائدة اخرى.. يمسحها بخفة ويحمل الفضلات.. بسرعة متعبة، وبرمشة عين يوزع الاقداح، ويذهب مسرعاً.. وما هي الا ثوان حتى تجد ان المائدة امتلأت بزجاجات الخمر والنبيذ الرخيص، وفوق هذا كله يحني رأسه ويؤشر، انه سيأتي حالاً..& ويقفز الى الزبائن الجدد، مبتسماً.. كاشفاً عن اسنان منتظمة،غير نظيفة،ولكنها مقبولة، وبعد لحظات نجده يوزع الطلبات و..الابتسامات.. ويوعدهم بهزة من رأسه.. ان رقبته ابداً.. لا تتعب.. وعيناه كذلك لا تملان من النظر ولاسيما ان مشرب المرايا رواده.. مواظبون بانتظام على ارتياده، ونادراً ما يحدث ان يثور احدهم بوجهه الاحمر ذي الشارب الرفيع.. لكنه كان يقابل كل ما يحدث بهذه المجموعة من الحركات السريعة المتعبة.. وخاصة لمن كان يتتبع كل ما يبدر منه.. ولم يكن الضوء خافتاً الى الحد الذي يستدعي معه النظر بتلك الأجفان المفتوحة على اتساعها، كما لم تكن، حركة الزبائن المتوترة مناسبة لتلك الجمل والتي غالباً ما يفهم الجزء الاخير منها.. الجميع كان يدخن، حتى الفتيات الصغيرات، واذا تمعنت في طريقة تدخينهن، تشعر اذن ان الدنيا بخير، وان كل الامور تجري بشكل انسيابي، مثل اية مجموعة شمسية اخرى، كان الدخان في هذا الشتاء البارد يخرج من فتحات النوافذ الصيفية، والساحبات الكهربائية، ومن تحت باب المشرب الرئيس، وكان ثمة دخان كثيف يخرج من مدخنة المطبخ، ومن السماء.. كان المشرب يبدو كوحش ضخم.. يدخن ايضاً .. ولم يكن هناك ما يبرر كل ذلك الدخان.. صحيح انه عندما يكون الواحد منا.. مرتدياً اقمشة ثقيلة، وحذاءً ضخماً، ثقيلاً، وقفازاً من الصوف.. وصحيح ان سيكارة واحدة تبدو رائعة حقاً، في ذلك الجو.. لكن هذا لا يعني مطلقاً اننا لا نبدو كأقمشة حزينة.. تتصاعد منها الابخرة.. كأقمشة تحترق والحقيقة إن ما يحدث في مشرب المرايا.. يمكن له أن يحدث في أي مشرب آخر.. وأكثر الذين يختلفون اليه.. ينصرفون وهم لا يتذكرون كيف وصلوا الى البيت.. ومن أقلهم اليه.. انهم وبوجه آخر لا يتذكرون الجزء الاخير من جلستهم.. ولا يفهمون الجزء الاخير، من كل ما كتب له ان يقال، وأمور اخرى كثيرة لا يليق بها ان تحدث.. الضحك غير المبرر.. التجهم غير المبرر وفقدان التوازن المبرر تماماً مع الكميات الخرافية من المشروبات التي يبتلعونها، فالنساء والرجال.. يبدون كراقصين من النوع.. الرديء، وكلماتهم كانت لا تخلو هي الاخرى من الميوعة.. واحداهن كانت تلوك باللبان وهي تقول باصرار لين رداً على احدهم.. وهو.. السيد عازف البيانو.. الذي تأخر لاكثر من ساعة:-
-&لا يمكن لسائق السيارة الحكومية أن يبكي من المرارة لأن ثمة شعورا راوده بلا جدوى.. نقل هؤلاء البشر.. الذين كما يعتقد هو.. لا هدف من وراء مجيئهم ورواحهم.
علق الموظف النزيه، وهو أرجحهم عقلاً كما أوحت بذلك ربطة عنقه القديمة:أن يبكي من المرارة فهذا شيء يعنيه وحده، ناهيك عن انه لا يضر احداً، لكن لا يمكنه ان يرفض توصيله، والتوقف حيث مناطق الوقوف.. ان الوصول لدائرتي مثلاً..
&& على حين قاطعته صاحبة اللبان.. بلا مبالاة.. وهو لم يجد في ذلك حرجاً.. إذ عدل عن رغبته في ان يتقدم بمقعده نحو المائدة وأنهمك في تعديل رباطه المشدود على رقبة طويلة:من غير المعقول، ابداً أن نخرج عن خطنا العام لسبب مزاجي خاص.. فالخياطة لا يمكن ان تخيط جزءاً من جسمها وقت النحس، وأيام الفقر.. كما وإنه من غير المعقول أن يحطم سائق القطار عربته المحملة بالاحذية المستهلكة.. او اية بضاعة مستهلكة اخرى.. أنا اعتذر.
علقت امرأة اخرى بالغت في زينتها كثيراً:انه يريد ان يرفض.. يبكي سني حياته التي انقضت على سكة حديد.. لم يكن هو عاملاً مهماً في هذا الاختيار.. هذا غير معقول مثلما نقول ان الخباز يحرق نفسه، لأنه اولاً قضى عمره قريباً من النار، وثانياً لأنه يشبع البشر، الذين فقد الايمان بهم..
وابتسمت وهي تنظر الى الآخرين.. بينما طفرت من الآخرين ضحكات متواصلة.. ضحك لا أبالغ كثيراً.. اذا قلت ان الاصوات الاخيرة منه غير مفهومة ايضاً، كان الشاب وقبل ان تلفظ تلك الاصوات انفاسها الاخيرة يدقق النظر في وجه السيدة التي ظلت صامتة.. بتحفظ.. كانت تبرز من ذقنها ثلاث شعيرات سود قصيرة.. حقاً كما تصور الشاب ان المرأة تعاني من هذه المسألة، وقد تصبح بمرور الوقت هماً.. خفيفاً، تفاجئ به، حين تريد الخروج بسرعة.. هماً دعاه الى الضحك المبطن.. ثم تحول الى السيدة التي وضعت على وجهها.. كل ما تملك من زينة.. كما تصور.. وارتدت كل ما لديها من ملابس شتوية وعلقت هنا.. وهناك كل ما اقتنته من حلي.. وفي النهاية تخيلها ترتدي جوربين من الصوف.. انها امرأة اسطورية حقاً، أكلت كل الصحون الصغيرة، وقطع الخبز المحمرة، وهي تهز رأسها بالرفض لفكرة حرق الخباز لنفسه!
تنحنح الذي تأخر قبل أن يقول:-
-&يشعر وهو يوصلك الى مكان عملك، إنه خادمك.. يشتغل بمعيتك.. تصيبني المرارة أحياناً، وأحس ان لا فائدة من الأخذ والرد معه.. أنهم لا يستطيعون ابداً التنصل من هذا الاحساس الذي ترسب لسنين طويلة في أنفسهم، ولا فائدة ايضاً من التحدث عما يفعله الاخرون.. أو ما أفعله أنا مثلا ، إنه.. واجبي، امام الدولة.. وهو عملي الذي اخترته وليس قدراً.. أرجوكم إنه ليس قدراً أن يخدم أحدنا الآخر بقدر ما هو مسؤولية الفرد إزاء ضميره، وأمام شرف المهنة، والوظيفة.. فالعلاقات الانسانية الرائعة تفرض عليّ أن لا اتنصل من واجباتي امام الله على الاقل!.. وكلما احسست بارتباطي بهؤلاء الناس الآخرين.. اذن فمن الشرف أن اخدمهم.
ردت التي ارتدت كل ملابسها وبعصبية:-
-&نحن نتحدث عن افتراض أن تؤدي واجباتك والتزاماتك.. لا على احساسك بالارتباط بهم.. ومدى ضعفه أو قوته.. إنك تحدثت في البداية بمنتهى الجمال.. لا أدري لماذا تغيرت..؟ فموزع البريد يجب ان يؤدي وظيفته ..& وهو بالتالي واجبه.. أما اذا داهمه الاحساس بتفاهة الرسائل .. فهذا لا يكفي أن تكون له حجة في عدم توصيلها الى اصحابها..
-&هذا صحيح.. هذا صحيح.. أنت محقة جداً، أنا مخطئ لهذا الانحراف غير المقصود عن الموضوع.. أن عملي كما تعرفون عازف بيانو.. وهو فيه من الاحساس والمشاعر مما يجعلني اخلط مثل هذا الخلط فأنا اقصد عملي.. عملي الذي اذا احسست بانه لم يكن هناك تجاوب معه.. أقصد بيني وبين الجمهور فهذا سيؤثر على سير المقطوعة.. أنا آسف، هذا ما اردته بالضبط.
تنحنح الموظف النزيه ذو الربطة القديمة، وحاول للمرة الثانية أن يزحف بمقعده قريباَ من المائدة وابتسم قبل ان يلتقط أ.. وكان يريد بذلك ان يشد اليه الانتباه .. وتوجه برأسه الذي كان يشبه الى حد كبير رأس النعامة.. وهو بأدبه الجم هذا يريد ان يوحي لك بأنه ليس من النعامات السائبة، هكذا تصوره الشاب.. باتت كل محاولاتهع في التقرب من المائدة بالفشل الذريع.. لكنه لم يبالِ بذلك كعادته.. نظر الجميع اليه وهو يقول بصوت متزن ثاقب مفهومة كل اجزائه:-
-&اسمح لي، لتطفلي .. أنا ضارب على الآلة الكاتبة كما تعرف، في دائرة حكومية مهمة.. أطبع الكتب الرسمية، التي يكتبها الخبراء الاختصاصيون.. ناهيك عن أهمية الدائرة.. اسمح لي.. كما أطبع الإجابات الرسمية بين الدائرة والشركات ذات العلاقة.. أطبع ما يكتبه ذوي الاختصاص.. وأحياناً تزدحم الدائرة بمئات البشر الغاضبين، غير المقدرين لجهودي.. لكن هذا لا يهمني.. أنا استمر في الضرب على آلتي الكاتبة.. ليس من حقي التوقف.. وأحدهم يعنفني على تأخير معاملته.. لكني أستمر.. أنت ايضاً تعمل في مشرب.. اسمح لي، أرجوك، أوشكت أن أنتهي.. أرجوك..
دفع بجملته الاخيرة بعد ان تململ اكثر الجالسين.. ورقبته كانت من الطول بحيث تمكن من أن يمد رأسه الى وسط المائدة.. وأن يفرض الصمت عليهم، وهو يستأنف:وأنت ايضاً، لا تستطيع أن تتوقف
الذي تأخر تساءل بعينيه، كطفل فقد لعبته، وبصوت كله رفض:أرجوك، كيف.. أنا فنان.. و.. أرجو أن تضع في رأسك هذا..
ابتسم النعامة صاحب (ناهيك) بعد ان حرك ربطة عنقه القديمة حركتين مرة الى اليمين ومرة الى اليسار ورد بصوت متزن:-أنا أقدر ذلك.. لكن فقط اسمعني.. أوشكت أن أنتهي.. أنت تعزف على النوتة.. اصحيح هذا ؟ ناهيك عن الأمور الاخرى.
عازف البيانو الذي تأخر أشر بلا تردد:-صحيح جداً.. لكن..
-&أنت تعزف على النوتة.. وأنا أضرب على الآلة الكاتبة.
-&هناك اختلاف أرجوك.. ضع هذا في رأسك.. أرجوك.
-&اسمح لي لا تذهب بعيداً.. أنت تعزف على نوتة كتبها المبدعون.. أو الخبراء.. كل من يلم بعمله.. دقائق عمله، وهو خبير أو متميز.. أو اختصاصي الى حد الابداع في مجال اختصاصه، فإذن ليس من حقك أن تتوقف، أنت مثلي.. لماذا تستنكف مني..!؟
-&أنا؟
-&لا يهم، ومثل سائق الشاحنة.. أو الطائرة.. أو القطار.. أنت لست مبدعاً حتى تعترض.. الخبراء من حقهم وحدهم الاعتراض أو التوقف!
امتلأ فمه بالزبدة وتجرع كأسه مرة واحدة، واشعل لفافة سحب منها نفساً طويلاً تصور الشاب أن صدره سينفجر:-
-&لكنك لا تستطيع أن تعزف على البيانو..
-&وأنت كذلك لا يمكنك أن تضرب على آلتي الكاتبة.
-&عملي فيه إحساس، ونبل.
-&أرجوك لا تستهين بعملي.. ولا تخطئ بحقه، فلا يوجد هناك عمل نبيل وعمل غير نبيل.. إنما هناك من يقدم خدمة كبيرة ضمن واجبه، الى الناس، كل الناس.. هذا هو النبل كما أفهمه..
كان النادل ما زال يتحرك أكثر مما يجب.. وبسرعته المتعبة.. وابتسامته .. إنها بالتأكيد من صميم عمله.. وهنا كانت الجدية التي تبديها الأجفان منطقية تماماً، إذ ان عازف البيانو الذي تأخر كثيراً، رفع قدح البيرة وضرب به ذا الربطة العتيقة! وعنفه قائلا:-اللعنة عليَّ، وعلى تأخري الذي حدث، وعلى هذا الموضوع العفن!.
وتوجه نحو النعامة قائلاً:أنت حاقد لئيم.. وصعلوك!
-&أنا صعلوك؟.. أنا أطبع مئات الكتب كل يوم.
بينما استمر عازف البيانو، غير عابئ به، لكنه لم يهتم.. كان ينفض عن ملابسه البلل:-
-&بإمكانهم إن.. يستبدلوك، هناك موظفون كثيرون.
-&وبإمكانهم ايجاد مئات العازفين، بدلاً منك.
وألتفت الى الجميع يطلب منهم الحكم.. لم يحاول ابداً أن يدفن وجهه في التراب كما تفعل النعامة. هكذا أحس الشاب.. ثم أستأنف ببراءة:-
-&يعد نفسه موهوباً، حتى لو كان ذلك فعلاً.. ناهيك عن الحقيقة، فليس من حقه إيقاف عجلة السلم الوظيفي، أو الطعن به من الخلف..!
قالت صاحبة اللبان ..& وبعصبية وهي تهز ردفيها وكأنك بها ثلاثة يصرخون:لم أسمع بموهوب يتصرف مثل هذا التصرف .. أن ابن الشارع يستطيع أن يفعل ذلك بسهولة جداً.. إذن ما الفرق بيــ..!
قالت المرأة التي ارتدت كل ما تملكه من ملابس:لقد كنت تتصرف في منتهى الجمال .. لا أدري لماذا تغيرت؟
فقد عازف البيانو رباطة جأشه وضرب المائدة بكفيه.. وشتم.. وسب.. ودفع النادل وهو في الطريق& الى الممر.. ولأول مرة يبتسم النادل بطريقة مختلفة تماماً.. وخرج عازف البيانو دون ان ينظر الى نفسه .. في المرايا..
وانه حتى لو فعل، فلا أظن انه سيفهم الجزء الأول .. ولا الجزء الأخير منها.