0
كمْ كانَ خسرو مُسْرفاً في أُعطياتهِ يومَ أقطعَ قريةً لخَصيّهِ.
سَيحارُ، خَوفَ الكُفْرِ، في نُطْقِ اسْمِها الفُقَهاءُ و الخُطَباءُ بلْ حتّى النُحاة، فَغيّرَ النُسّاخُ مَبنى لفْظِها، لتكونَ دارَ الحربِ والغُلمانِ حينَ يُزاحِمونَ، تَغنّجاً، قيناِتها، وتكونَ داراً للموالي الواقفينَ تدافعاً ليمرّوا من تحت السّيوفِ مُصلّبين ببابِها, وتَكونَ مُنْحدرَ الخَليفةِ كي يَنامَ بمأمنٍ في الجانبِ الغربيِّ مِنْ "حِدّاقِلَ"* السّاري حثيثاً، حالماً بإمارةٍ شِيدتْ على سرٍّ يُطاردهُ الملوكُ مُطارَدينَ بلَعنةِ الصّنمِ الغَضوب.

1
نواحُ أهلِ المدينةِ
على أمسٍ مريرٍ،
عَكّرَ لونَ الماءِ
وأسّنَ فيضَه.

2
تغصُّ دجلةُ بالعَبراتِ،
كَفهِرتْ جِسورَها،
وأبّدتْ غمّها
مَع مَصيرِ المدينةِ المعقودِ بصياحِ الطَّيطوي، يرافقُها أنّى التفتتْ.
مُطوّقةٌ جهاتها بأبوابِ "زَنْدَوَرْدَ"**، يتَحسّرُ عليها مَعشرُ الجنِّ في خرائبِ "واسط".

3
كانتْ المدنُ تشبهُ النساءَ، وبغدادُ غانيةً لهثَ على صَدرِها طُغاةٌ نادرون.
سَاقاها منفرجانِ،
فتيّسرَ ماؤها للناكحينَ؛
تناوبوها:
عبّاسيونَ يُرهبونَ ورثتَهم بسملِ عيونِهم اللاّمعةِ طمعاً بعرشِ السُّلالةِ،
سُكارى براحِ& منهوبٍ،
فاطميّونَ يستنشقونَ في لِحاهم عِطرَ نبوةٍ مخضّبةٍ بدمٍ غزير،
بويهيّون يَنزلونَ من الجبالِ مُتنازعينَ المُلكَ في حِضنٍ يَتهتّك،
سَلاجقةٌ يتبارونَ بحرقِ قبورِ السّابقينَ تسليةً عن ضجرِ الظهيرة،
مَغولٌ يحرثونَ الأزقةَ بمخالبِهم الحديدِ فاسحينَ الطريقَ كي تنعقَ البومةُ في الخراب،
صفويّونَ يُمذهبونَ الحرثَ والنسْلَ مع الخصومِ بأرواحِ تابعينَ أبديّين،
عثمانيّونَ يتمرّنونَ بأجسادِ العامّةِ لتعلو تلولُ اللحمِ في الجوار،
انكليزٌ يُطلقونَ الحواشيَ الآدميةَ لتمهّدَ السّبيلَ،
حجازيّونَ مترددونَ في القدومِ كأنهم ينزلونَ القبرَ المدمّى مطوقينَ بهالةِ الندمِ،
جمهوريّون يحرفونَ القطارَ نحوَ الأراضي البُور،
قوميّون غاضبونَ من أروماتِ الجوار،
شيوعيّون ينوحونَ، حيناً، على ثورةٍ مذبوحةٍ في ركنٍ قصيٍّ من كرةِ الأرضِ، ويبتهجونَ بنصرٍ بعيد،
بعثيّون يكملونَ فتكتَهم الكبرى، مكشّرينَ عن أسنانٍ ذهبٍ سلبوها من عابري السبيلِ،
أميركيّونَ يشيّدُون أسوارَ الغفلةِ، ويتركونها تعلو بأيدي المقوِّضين،
معمّمونَ يتغامزونَ، متبادلينَ الألقابَ وألوانَ وتواريخَ الحُمولاتِ العائلية،
وحاسرونَ يمسحونَ العرقَ الصيفيَّ عن صلعاتِهم ووجهوهِم بمناديلِ الغبار.

4
كلُّ من مرّ بخَيلهِ ورِجْلهِ له حصّتُهُ من اللُّهاثِ على صَدرِ بغدادَ الرطبِ.
أسوارُها تتهدمُ،
بيوتُها منهوبةٌ،
حَدائقها القُرعُ مرعىً مفضلٌ للهاربِ من كلابِ ودوابِ السّادَة،
مساجدُها تَنعقُ فيها غربانُ الطوائفِ،
كنائسُها مسوّرةٌ بأكاليلِ الشّوكِ،
أطلالُها تئنُّ تحتَ سنابكِ الفَرهودِ،
مزاراتُها استراحاتُ نخّاسينَ يبَيعونَ بالفضائحِ عرضَها المنتهك.
صَوباها يَتباريان بذبحِ الرّقابِ الطّريّة،
فضجّ صغارُ براثا، في لحودِهم الضيّقةِ، من نيرانٍ يتناهبُ قُدسيتَها شبّانُ العَسسِ، وفاضتْ بئرُه حينَ هربتِ العذراءُ بعجيبتها الداميةِ،
شَقّوا التمائمَ حولَ زنودهم فعثروا على طَلاسمَ مائتة.
أحرقَ الجندُ بساتينِ "كلواذا" مُقدّمين لكبيرِهم مالم يذقْهُ الخليفةُ و ولْدُهُ من أَبكارِها،
فجفَّ نهرُ عيسى كمداً.

5
بغدادُ عاريةٌ، تُكسى بثُمالِ رغباتٍ ظّلتِ الطّريقِ.
عيّاروها هتّافونَ ودفّافونَ يُدَوزنُونَ نغماتِهم على خُطى كلِّ مالكٍ جديدٍ،
عيونُ سابلتِها مسبولةٌ،
والتوّابونَ المستجدّونَ يرمّمونَ، بأَحجارِ اللغوِ، خَرابَها.

&

*نهر حِدّاقِل: اسم عبري من أصل سومري وهو نهر دجلة كما& كما ورد في سفر التكوين: " "وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِى جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابعُ الْفُرَاتُ" (سفر التكوين 2: 10-14).

**ورد في تاريخ الطبري ومعجم البلدان أن النبي سليمان بن داود بنى مدينةَ "زَنْدَوَرْدَ" قرب واسط واتخذت الشياطين لها خمسة أبواب من حديدٍ لا يمكن للناس اليوم صنع مثلها فنصبها عليها، فلم تزل الى أن بنى الحَجاّجُ مدينة واسط فنقل الأبوابَ وصيّرها عليها، فلما بنى المنصورُ بغدادَ أخذ تلك الأبوابَ ونصبها على المدينة.
&