غيب الموت، قبل ايام، احد اشهر المعماريين الهنود، واحد معماري العالم الثالث المبدعين: المعمار والمنظر والمخطط والناشط المدني : "جارلس مارك كوريّا" Charles Correa (1 أيلول <سبتمبر> 1930- 16 حزيران <يونيو> 2015)، هو الذي درس العمارة في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، وكذلك في جامعة "ميشغان" بالولايات المتحدة. كما درّس هو ايضا العمارة بعد تخرجه في جامعات عديدة، سواء في الهند ام في خارجها، بضمنها معهد "ام. اي. تي" الشهير الذي تخرج منه سابقا وكذلك في هارفارد وفي جامعة لندن وجامعة كمبردج البريطانيتين. حائز على جوائز تقديرية عديدة جراء اعماله التصميمية المميزة والرائدة، التى عدت فخر العمارة الهندية وفخر عمارة العالم الثالث، التى من خلالها تم الاعتراف بعمارة ذلك العالم النامي دولياً، ورد الاعتبار لهذا المنجز الحصيف، الذي لطالما كان ينظر اليه بصفته "منجزا هامشياً".
ادناه، وبمناسبة رحيله،& مقاطع من دراسة مطولة عن عمارة "جارلس كوريا" اعددتها في وقت سابق بالثمانينات.
عندما شارف بناء مدينة " نيودلهي " على النهاية ولد "جارلس كوريا" (1930)، وبهذه المفارقة التاريخية فان نوعين من أساليب التفكير المتباين والمحتدم ، قد تم تكريسهما واكتمالهما بصورة واضحة في الأوساط الاجتماعية والثقافية الهندية حينذاك. فلقد أريد لنيودلهي، غب تأسيسها (1911) أن تحقق المثل الأعلى لعظمة الإمبراطورية البريطانية. وطلب من مصممها " أدوين لاجنس" (1869- 1944)& Edwin Lutyens المعماري المعروف بتصاميمه لقصور وفيلات ضواحي لندن - أن يحول مدينة "نيودلهي" إلى "روما: انكلو - هندية": فخمـة ومهيبـة في آن! وبموازاة هذا الأسلوب في التناول كان ثمة نهج آخر يتفاعل بجانبـه ، ويتجلى ثقافياً في نبذ طريقة الأسلوب الأول، معتمدا على ضرورة تبيان الخصائص المحلية لتجسيد الذات الوطنية وديمومتها، ولئن استحالت بدايات الأسلوب الثاني في العمارة إلى ممارسة نهمة للاستنساخات النصية والشكلية لعناصر عمائر الفترات الماضويـة، مواكبة في هذا المجال مقتضيات وخصوصية حركـة التحرر الوطني التي كان يقودها المهاتما غاندي فان تجذير هذا النهج وجدليته لاحقاً كان لا بد وان يفضيا إلى منسوب تفكيري اكثر منطقية وواقعية وهو ما حدث فعلاً بعد الاستقلال (1946) .
في مثل هذه الأجواء المفعمة بالنقاش والصراعات بدأ "جارلس كوريا" شأنه شأن زملائه الآخرين، بتلمس طريقه نحو مهنته المستقبلية المفضلة ، وعندما عاد في& منتصف الخمسينات إلى الهند بعد إكماله لدراستـه الأوليـة والعليا في العمارة من الولايات المتحدة ، كان هاجس تقصي وإيجاد لغة جديدة للعمارة الوطنية طافحاً في الأوساط المعمارية العالمية وقتذاك، بالضد "هذه المرة"‍! من هيمنة وشمولية أسلوب " الطراز الدولي" . ربما أدرك "جارلس كوريا" عبر دراسته الأكاديمية الرصينة وتطبيقاته العملية القصيرة في مكتب "مينورو يماساكي Minoru Yamasaki " بأمريكا، بأن "عمارة المتعة البصرية" التي كان مولع بها "يماساكي" في تكويناته، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هاجسه الحقيقي وغايته الأخيرة ، ومما عزز في تأكيد قناعاته التي يصبو إليها، التطبيقات الجريئة التي كان يجريها لو كوربوزيه (1887-1965) في جانديغار Chandigarh& (1952) ومحاولات زملائه الهنود الآخرين أمثال "حبيب رحمان" و "جاي راتان بهالا" و"دوشي " و "ب. ماتهور" وغيرهم .
ثمة ميزة جوهرية يمكن تلمسها في أعمال "جارلس كوريا" العديدة . وهذه الميزة تكمن في مقدرته الفائقة على استنباط مقياس إنساني لمبانيه. وهو، بهذا الصدد، يقف بالضد من غايات ومرامي عمارة الثقافات المختلفة التي شيدت باعتباط ظاهر، على الأرض الهندية، تلك الغايات التي تتوخى سحق المشاهد واستلابه وهيمنتها الكاملة عليه و تكريس الإحساس بالتغريب. من هنا، ادرك& "جارلس كوريا" أهمية عنصر المقياس المنتخب، عبر ولعه بالتوظيف الحاذق للتكوينات الأفقية الممتدة وشغفه بأسلوب التداخل الفضائي فيها . ويبدو لنا بأن تركيز الاهتمام على هذا الجانب مرده رغبة المعمار في تأكيد شعور الاحترام والتكريم العميقين الذي يكنهما إلى معاصريه : سليلي& شتى أنواع القهر والظلم والتعسف. إن مبنى المتحف التذكاري للمهاتما غاندي في أحمد آباد و متحف الفنون الشعبية في نيودلهي و "كيدادي دي غوا"، وحتـى في الأبنية المتعددة الطوابق مثل مركز L.I.C& كلها وغيرها من التكوينات تعكس توق المعمار وحرصه في تكريس الإحساس بألفة العمارة التي يخلقها وانتمائيتها للمتلقي..وللمكان .
يولي " جارلس كوريا " قدراً كبيراً من الأهمية إلى رسم مسارات الحركة، ويجعلها عنصراً أساسياً في صياغة فضاء التكوينات المعمارية التي يبدعها. وهذا الاهتمام "بالحركة" ومساراتها لا يقتصران على ادراكهما داخل الحيز المحصورفي المبنى؛ وإنما يتعداه ليضحى باعثاً جوهرياً في ترتيـب وتنظيم النسيج الكتلوي لمجمعاته. ومن خلال العناية بهذا الجانب يعود "كوريا" بنا إلى جذور تقاليد شائعــة ومعروفة في العمارة الهندية فهو يرى ".. في معبد هندو Hindu الصرحي الواقع في جنوب الهند، لم يكن همّ المصمم وغايته هناك& تقتصران على تمرين في ممارسة تجميع أبنيـة مزارات وأضرحة …"وانما تأكيد على جانب آخر مهم ورئيسي هو خلـق "حالة الاغتســال المساري Pedestrian path - كما يسميه كوريا - بين الفضاءات المقدسة الواقعة بينهما". وهو ما نلاحظه من اهتمام وولع كبيرين لدى "كوريا" في توظيف هذا التقليد المعماري المميز والفريد.
يظل هاجس الاستجابة للاعتبارات المناخية عند " جارلس كوريا " من الأمور التي تسهم اساساً في صياغة مفردات العمل المعماري الذي يمارسه . وهو في هذا الشأن يذهب بعيداً في مصارحة مغالية لأهمية الظروف المناخية في عمارته معترفاً بصورة مقنعة بأن "الشكل يتبع المناخ"، وليس " الشكل يتبع المضمون " كما نادى به سابقاً الوظيفيون، وعلى رأسهم& رائد "الوظيفية": <لويس سوليفان> قبل نيف وقرن من السنين! ولعل في دراسة بعض نماذج تصاميمه (المنفذة أو غير المنفذة منها)، تعطينا إمكانية الاحساس بحضور "سبيكة" المصادر المتينة التي يعتمدها ويطوعها هذا المعمار المجدد. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى مزار "غاندي سمارك سانغراهاليا 1958- 1963 Gandhi Smarak Sangrahalaya& في سابارماتي اشرام بأحمد آباد ، وهو متحف تذكاري " للمهاتما غاندي " شيد تخليداً لسكنه في اشرام من 1917 وحتـى 1930، وبدء مسيرته البطولية نحو داندي Dandi، كما أن المتحف معني في المساهمة بنشر تعاليم "المهاتما" وذيوعها، وقد تم افتتاحه من قبل "جواهر لال نهرو" سنة 1963.
يعتمد "جارلس كوريا" في تكوينات "سانغرا هاليا"، وتعني "بيت الناسك" على وحدة قياسية هي بمثابة خلية - جناح بأبعاد 6 م × 6 م ، ويصل عددها في التكوين إلى (51) خلية . حاول المعمار أن يستخدم في بناء الخلية الواحدة ذات المواد الإنشائية المألوفة والشائعة في العمارة الشعبية: الجدران الآجرية والسقوف الهرمية المصنوعة من القرميد والأرضيـة الحجرية والأبواب الخشبية. العنصر الوحيد والجديد الذي أضافه هي الجسور الخرسانية الرابطة بين هذه الخلايا والتي تعمل بمثابة مزاريب للأمطار أيضاً. ولقـد تعمد المعمار على اقتصار هذه المواد المألوفة والمتواضعة في تنفيذ مبناه مجارياً في ذلك ومتقرباً من طروحات " غاندي " الفلسفية البسيطة ، ولهذا فان أشكال الخلايا - الأجنحة المتسمة بعدم الحذاقة والمهارة المتقصدتين تبدو هنا اكثر من ملائمة ومناسبة . وعبر اقتران هذه الخلايا وتمازجها فإنها تخلق فضاءات صغيرة وكبيرة مفتوحة ومغلقة تستخدم كصالات للعرض وقاعات وأرشيف وإدارة& الخ…& .ويمكن أن تؤلف إحدى هذه الخلايا حوضاً تزيينياً وأخرى تنمو من سطحها الرملي الأشجار الغريبة، وثالثة مقتصرة على الصخور الحجرية، ورابعة مفروشة بسجادة الحشيش الأخضر، ومن خلال هذه المزاوجة في الترتيب فان المعمار تمكن باقتدار أن يخلق لنا تكويناً غنياً ومؤثراً بواسطة أسلوب التكرار لهذه الخلية الكتلوية - الفضائية. إن مخطط "سانغرا هاليا" المشتبك والمنسوج من الخلايا "المودولية" Modules& تكسب المبنى حالة مميزة شبيهة إلى حدٍ كبير بحالة التراكيب الحية من حيث النمو والانتشار، ما منح المبنى صفة الامتداد الزماني. وتبعاً لذلك فان بمقدور كل جيل - وفق رؤية المعمار - أن يضيف جناحاً أو أجنحة لمستجداته، معبراً في ذات الوقت عن تكريمه وتقديره الخاصين إلى "المهاتما".
في تصميم "سانغرا هاليا" يدنو "جارلس كوريا" من أوج الملائمة بين الموضوعة الوظيفية وأهلية الغرض مع براعة حلول التعبير المعماري. وفي اعتقادنا، فان المعمار أدرك هذا المنسوب العالي من الطرح جراء التحليل العميق للموروث العمراني التقليدي ومزاوجته مع متطلبات الحداثة المعتمدة على الثقافة الواسعة التي يمتلكها المصمم/ ومعرفته ومواكبته الدقيقة والتفصيلية لنتاجات المعماريين الحداثيين. فوحدة التكوين المستعملة في "سانغرا هاليا" ما فتئت تظل بسيطة إلى أقصى حد، بيد أن الفكر النابع من أسلوب تجميعها هو الذي يسم التكوين العام بهذا القدر الكبير من المهارة والافتتان. ويتعين أن نشير، ايضاً، إلى تلك البساطة الآسرة الممزوجة بهاجس الاختزال العميق لأدوات اللغة المعمارية المنطوية عليها قـرارات "سانغرا هاليا" التصميمية. كما أن ولع المعمار الظاهر بخاصيـة التكوين هـذه ، جعلته يصطفي ذات المؤشرات المعمارية مستثمراً اياها في معالجات مبنى آخر هو مبنى "المجمع الإداري" (1965 -1968) ECIL Office Complex& في حيدر آباد، معبراً في هذا الاصطفاء عن عميق افتتانه وقناعته بصوابية حصيلة النتائج التي توصل إليها.
يولي "جارلس كوريا" اهتماماً خاصاً إلى العمارة الإسكانية ، فهو معني كثيراً في إيجاد نوع من السكن الجماهيري في ضوء ضوابط التقييس Standardization& وصولاً لتقصي حلول أكثر اقتصادية وعقلانية في هذا المجال . ففي معالجاته لمبنى TUBE Housing في أحمد آباد (1961-1962) والذي نفذ اثر فوزه بمسابقة معمارية نظمت سنة 1960 ، يقترح جارلس كوريا استثماراً أفضــل للفضاءات من خلال التباين الاستعمالي تبعاً لساعات اليوم . فالاستعمال الوظيفي للمكان نهاراً يختلف عنه في الليل ، وإذ يخلق في TUBE Housing شكلاً معبراً يقترب إلى النحتية المؤثرة فانه يرجح حيثيات هذا الاختبار الشكلي إلى ضرورات التهوية وإمكانية تسهيل حركتها.
في جميع أعمال "جارلس كوريا"، هذا المعمار المهم لإقليم بومبي - احمد آباد بالهند - يوجد ثمة تناغم وانسجام بين نشاطه المهني ورؤياه الديمقراطية فقد ظل عازفاً عن دعوات كثيرة ومغرية، قانعاً بإيجاد حلول ملائمة لمشاكل تخطيط مدينة "بومبي " الصاخبة والمزدحمة. ولقد استمر في هذا العمل المضني والمكلف لمدة عشر سنوات يعمل مجاناً. آملاً بأن تصاميمه سوف تقلل وتخفف من وطأة ظروف الحياة القاسية التي يعاني منها مواطني مدينة "بومبي" البسطاء. إن عمارته - الذكية والمعاصرة، تثبت مرة أخرى بأن تقصي السمات الوطنية وتوظيفها في الممارسات التصميمية لا يمر، بل ولا يمكن له أن يمر - عبر طريق الاستنساخات النصية للأشكال التقليدية المعمارية أو في محاولة إضفاء القدسية لهذه الأشكال وتمجيدها ، والتبجح بأنها - وحدها - ملائمة ومناسبة لكل العصور والأزمنة. فجارلس كوريا يطمح ان& تكون عمارته مرتهنة ببيئتها، من خلال تشكيل تكويني، يجتهد لأن نتلمس فيه حضور واع للمكان، واقتران هذا الحضور بسمات حداثية للغة التعبير الفني له. وبهذه الصيغة الإبداعية فان عمارته تظل تضيف شيئاً جديداً وطازجاً لمجرى العمارة العالمية مثرية بذلك الحضارة الإنسانية في هذا الخصوص.
د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي

&