&
ايّ وطن انت ايها العراق السامي العريق الموغل في جذور التاريخ والمعبأ بالمبدعين علما وأدبا وفنّا !!&
رغم كلّ هذا الخراب العائم بين ظهرانينا واتساع الإهمال والغفلة واللامبالاة ونسيان ابتكارات وأعمال أولاده المبدعين النابهين من الجهات الثقافية المعنية ؛ ولا اخفي لو قلت ان هناك من يعمل على تحديد نسل هؤلاء ويهدف الى القضاء عليهم ، لكن هذه البلاد مازالت حبلى بالمتميزين ومبتكري الفن الجميل فالحياة هنا رغم كل شيء لاتعقم أبدا&
دعيت يوم الجمعة 19/ 2/ 2016 الى المركز الثقافي البغدادي لزيارة معرض لفنان موهوب مبتكر لم يسبقه احد في اتخاذه من الدخان المتطاير من نيران الشموع واللهب الظاهر أدواتٍ لرسم لوحاته بدلا من الريشة والاقلام والألوان المألوفة المتعارف عليها&
انه الرسام العراقيّ مهدي المعلّم ، المولود عام /1971 وتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة / فرع الرسم ، يعمل الان معلما للرسم في احد أحياء بغداد الشرقية ، دائب الحركة والنشاط الفني فهذا المعرض الذي زرته هو المعرض الخامس له وهو يحوي قرابة الأربعين لوحةً مرسومة مما تنفث الشموع من أدخنة ولهب متصاعد ، ودُعي الى الولايات المتحدة قبل بضع سنوات وأقام هناك معرضه الثالث وحاز على شهادة الإبداع الدولية التي منحتها له جامعة هيوستن
سألته : من اين أتتك فكرة استخدام دخان الشموع ولهيبها لتكون أدواتك في تجسيد لوحاتك ؟
أجابني انه يعيش كأقرانه المواطنين العراقيين في غالبية لياليهم في الظلمة بسبب الانقطاع المستمر للطاقة الكهربائية وكثيرا ما ألجأ لإشعال الشموع للحصول ولو على قدر ضئيل من الإنارة ولفت نظري هذا الدخان المتطاير امام ناظري وفكّرت في ملاحقته واصطياده والاستعانة به في التعبير عن الحالة التي تتصارع بداخلي وأطرحها وأضمها في لوحاتي ، وأكون صريحا معك اني كنت في حالة مرضية شديدة وطريح الفراش سنوات طوال حتى كدت يائسا من الشفاء وراودتني الكثير من الأفكار على عبثية ما أرسم &وفعلا أقدمت على إحراق قسم من لوحاتي اذ صاحبتني حالة نهلستية لم استطع تجاوزها نظرا لأوضاعي الصحية الصعبة المدمرة اضافة الى ما يحيق ببلادي من تدمير متعمّد لأنهاء وجوده وكنت ارى مظاهر الحرق وتصاعد الدخان والسخام واللهب الحارق وهو يأتي على لوحاتي ويحيلها الى رماد وسرعان ما حفّزني هذا الفعل المدمّر من الحرق والدخان الهائل واللهيب المتصاعد لأخذ ثأري منه وأحيله إبداعا ورسومات مبهرة بدلا من ان يكون رمادا بخسا وهكذا بدأ مشواري الفني&
قال لي ان تلك الفكرة ليست جديدة على أجدادنا البابليين والاشوريين والسومريين حيث رسموا على جدران المعابد والبيوت وكانوا يطبعون كفوفهم المليئة بسخام بقايا آثار النار الناتجة من المواقد وأثافيّ الطبخ &وقد ظهرت بعض رسوماتهم على الجدران على اشكال مختلفة على هيأة &لوحات منها متجانسة ملفتة وقد اهجس انها ربما تكون جينات وراثية رسخت في داخلي من الحقب الاولى لبلاد أوروك العريقة المنبت والمحتد في الحضارة &
دعاني الى مشغله ليُريني كيف يقوم برسم لوحاته ؛ فقد عزل غرفة من بيته لتكون مرسما له وقد ادهشني حقا جهده وطريقة رسم واصطياد خيوط الدخان فكان ينام على ظهره ويضع وسادة تحت رأسه ويُدني طاولته الكبيرة لتكون أعلى رأسه تماما ويلصق اوراق اللوحة تحت الطاولة مُشعلا شمعته وعجبت كبف يحاصر الدخان حتى يلامس اللوحة ويضعه لصيقا بمكانه الصحيح &لمسات ساحرة في اللوحة في طرائق غير مسبوقة ولا أظنها استخدمت من قبل ايّ فنان عالمي
لا يكتفي فنانو العراق بمواصلة مساعيهم لبثّ الجمال ونشر المظاهر الفنية الراقية بل يسعون الى الابتكار والابداع والتجديد رغم الظروف الاستثنائية وهذه هي سمة الشعوب الحيّة ، فكل هذا الركام وتلك الأنقاض والخراب الواسع فان هناك لقىً متجددة وأثرية لاتريد ان تطمر وهناك أيادٍ تخرجها &ولو كره الكارهون فمازالت الحياة هنا تريد ان تعبّد الطريق نحو الإيجاب ومعنى ان نكون ضوءا وبصيصا رغم كل هذه العتمة الشاسعة&
&
&