&
في ربيع عام 1941، فارّا من نظام فيشي، ومن النازييين الذين آحتلّوا بلاده،كان أندريه بروتون، "عرّاب السّورياليّة" في جزر "المارتينيك"، وتحديدا في عاصمتها "فور-دو-فرانس". وكان يتجوّل في الشوارع بحثا عمّا يمكن أن يتيح له اكتشاف ما لم يكن قد اكتشفه بعد.وقد أبهجته الأسواق الباهرة، وموسيقى الأصوات الزنجيّة المعدنيّة،والنساء اللاتي وصفهنّ صديقه بول ايلوار بأنهن "الأجمل في العالم والأكثر فتنة". وفي إحدى المكتبات الصغيرة عثر على العدد الأوّل من مجلّة "مدارات" التي يشرف عليها شاعر زنجيّ لم يكن قد سمع باسمه من قبل. ولم يكن هذه الشاعرغير ايمي سيزار!
بعد أن تصفّح المجلّة، وقرأ البعض من النصوص المنشورة، كتب "عرّاب السورياليّة" يقول:”لم أصدّق عينيّ. فالذي كان منشوا هناك كان من صنف ما يجب أن يقال. ولم يكن الأفضل فقط، وإنما كان من الصنف الأرقى. كل تلك الظّلال المتغضّنة يمزّق كلّ واحد منها الآخر، ثمّ تتشظّى. كلّ تلك الأكاذيب، كلّ تلك الاستهزاءات تتساقط فتاتا. وهكذا فإن صوت الانسان يُسْمع وهو غير مكسّر.،ولا مغطّى، وإنما هو ينتصب مثل سنبلة الضوء ذاتها...ايمي سيزار...كان ذلك هو إسم من يتكلّم!”...
وكان النصّ الذي نشره ايمي سيزار في مجلة "مدرات" يحمل عنوان:”دفتر العودة إلى الوطن"، وفيه كتب يقول:”نحن الآن واقفان... بلدي وأنا. شعرنا للريح، ويدي الصغيرة الآن في قبضته الضخمة والقوّة ليست فينا، لكنها فوقنا، في صوت يثقب الليل، والجلسات مثل إختراق زنبور مريع، والصوت يقول إن أوروبا لقّمتنا الأكاذيب على مدى قرون ونفختنا بالأوبئة. ذلك انه ليس حقيقيّا أن عمل الإنسان انتهى، وأنه لم يعد لنا ما نفعله في العالم، وإننا نتطفّل على العالم، وأنه يكفي أن نكون في مستوى مسار العالم غير أن عمل الإنسان بدأ للتّوّ. وعلى الإنسان أن يغزو كلّ محرّم وساكن في رؤيا حماسته، وليس هناك عرف يحتكر الجمال، والذكاء، والقوّة، وأن هناك مكانا للجميع لموعد الغزو ونحن نعرف الآن أن الشمس تدور حول كوكبنا مضيئة القطعة الصغيرة التي ثبّتتها إرادتنا وحدها، وأن كلّ نجمة تهوى من السماء هي وصيّتنا التي لا نهاية لها".
وكان إيمي سيزار قد كتب هذه القصيدة بعد أن غادر المدرسة العليا في باريس حيث كان يدْرُس ليعود إلى بلاده. وهي تضعنا بحسب تعبير أندريه بروتون في قلب الصراع الدائر بين البلدان المستعْمَرَة، والبلدان المولّى عليها. وفيها تصوير لشعب يعيش الفقر، والجهل بسبب الهيمنة الإستعمارية، وظلم "حفنة من شاربي الدماء البشريّة". وخلف كلّ هذا هناك الجرح المفتوح دائما، جرح الإستعباد الذي أخضعت له الشعوب الإفريقيّة على مدى قرون مديدة.
وبعد أن قرأ "دفتر العودة إلى الوطن"، حرص اندريه بروتون على الإلتقاء بايمي سيزار ليجده شبيها ب"مرجل بشريّ في أقصى درجات فورانه. وهو زنجيّ يمتلك شوارد اللغة الفرنسيّة. وهو يقودنا إلى عالم لم يتمّ اكتشافه بعد معدّا لكلّ تلك العلاقات التي تسهّل علينا السير تحت النيران. وهو زنجي لكنه يعبّر عن الإنسان في أيّ مكان، وفي أيّ زمان مثل كلّ الشعراء الكبار"...
**
ولد ايمي سيزار في جزرالمارتينيك عام 1913. بعد حصوله على شهادة الباكلوريا، سافر إلى فرنسا في خريف عام 1931. وقبل ذلك كان متشوّقا إلى رؤية باريس التي كان قد قرأ عنها الكثير. وكان مفتونا بشعرائها وكتابها ومفكريها. وقد دامت الرحلة في البحر ثمانية أيام. وفي باريس ارتبط ايمي سيزار بعلاقة صداقة وطيدة مع ليوبولد سيدار سنغور الذي كان قد جاء هو أيضا إلى باريس قادما اليها من السينغال لمواصلة تعليمه العالي. وفي ما بعد كتب صاحب "دفترالعودة الا الوطن" يقول:”كان من الطبيعي أن يصبح سنغور صديقا حميما لي في وقت وجيز للغاية. فقد كان زنجيّا مثلي. وكان حديثنا يدور حول التجارب التي قام بها كلّ واحد منّا. وكان هو إفريقيّ، وكنت أنا مارتينيكي. مع ذلك كانت لنا نقاط لقاء. وكانت لنا تساؤلات وشكوك حول العديد من القضايا الأدبيّة وغير الأدبيّة. كل واحد منّا كان يتعلّم من الآخر. والجواب كان دائما إفريقيّا".
وبسبب تحمّسه للثقافة الزنجيّة، أسس إيمي سيزار مع البعض من أصدقائه مجلة "الطالب الأسود”. وكان الهدف الأساسي من هذه المجلّة هو إحياء الذاكرة الإفريقية، وإزاحة الغبار عن التراث الإفريقي، الشفوي منه بالخصوص.،وفضح الجرائم الإستعمارية. ومتحدثا عن أهداف المجلة، كتب إيمي سيزار يقول:”ما كان يعنيني هو الهويّة الزنجيّة. أنت السينغالي، أنت الكونغولي، أو أنت الكمروني، ما الذي يجمع بينكم؟ المسألة اللغوية لا تهمني. ما يهمني هو الهوية. وأنا لم أرغب في أن أجعل من اللغة الفرنسيّة نظريّة. وكان هناك أنجلو ساكسونيّون، وأمريكيّون لهم أدب زنجيّ يكتبه زنوج مثل لانغستون هوغس، وريتشارد رايت. وبالنسبة لنا نحن الأفارقة الذين يتكلمون الفرنسيّة، فإن ذلك كان يمثّل اكتشافا مدهشا. فالذين وضعوا الأسس الأولى كانوا الزنوج الأمريكيّون!”.
خلال السنوات التي أمضاها في باريس، ابتكر ايمي سيزار مع ليبولد سيدار سنغور ما أصبح يسمّى ب"الحركة الزنوجيّة" التي كانت ثمرة تأثيرات عدّة منها اكتشاف الفنّ الزنجي، وظهور موسيقى الجاز، وبروز أفكار سياسية وإيديولوجيّة تدعو إلى الوحدة الإفريقيّة. و وكان يمثّل هذه الأفكار زعماء سياسيّون من أمثال جورج بامدور، وكوامي نكرومه. وكان الهدف الأخير من "الزنوجيّة" هو إعادة الإعتبار للحضارة الإفريقيّة، وجعل الزنوج يعُون بأوضاعهم وبمكانتهم في العالم.
وبعد تخرّجه من المدرسة العليا، وكان ذلك في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، عاد إيمي سيزار إلى "المارتينيك" ليعيّن مدرّسا في المعهد الثانوي في "فور-دو-فرانس". وفي عام 1941، أسس مجلة "مدارات" لتصبح ناطقة باسم الشعراء الأفارقة الطلائعيين. وعند إنتهاء الحرب، دخل إيمي سيزار عالم السياسة من بابه الواسع. فقد تمّ إنتخابه نائبا عن الشيوعيين. وعن ذلك يقول:”في عام 1945، ومن دون رغبتي، جعلني الشيوعيّون ناطقا باسمهم. وفي ذلك الوقت كنت شابا متعاطفا مع اليسار. غير أني لم أكن أعرف الشيء الكثير عن الشيوعيّة”. وفي بلديّة "فور-دو-فرانس" التي أصبح رئيسا لها، قام إيمي سيزار بأعمال جبّارة من أجل تحسين أوضاع سكان المدينة الفقراء. وبفضل أعماله الإصلاحيّة تلك ، أصبح زعيما شعبيّا بأتمّ معنى الكلمة. وأمام المسؤولين السياسيين الفرنسيين الكبار، كان إيمي سيزار يطالب بصوت عال بضرورة إحترام خصوصيّة البلدان، والمناطق التي ظلّت تحت الحكم الفرنسي. وفي الكتب السياسية التي نشرها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كان يؤكّد على الخصوصيّة المذكورة، وعلى "الزنوجيّة".وكان يقول:”نحن لا نولد زنوجا، بل نصبح زنوجا ". وكان يقول أيضا:”ولدتّ زنجيّا، وزنجيّا أموت".وكان موطن بلاده يبدو له إفريقيّا هُجّر واقتلع من جذوره بالقوّة. لذا هو بلا لغة ولا تاريخ ولا دين. وهو يعيش في ذلك البيت الوسخ الواقع في شارع ضيّق:”بيت صغير يأوي في أحشائه التي من ألواح متعفّنة، عشرات من الفئران، وصخب إخوتي واخواتي". وقد حازت أشعار ايمي سيزار على تقدير وإعجاب كبار الشعراء والكتاب الفرنسيين. وكان جان بول سارتر يصف هذه الأشعار ب"الزهرة السوداء هائلة الحجم". وكان بروتون يصف سيزار ب"الشاعر الأساسي" قائلا بإن "كلماته جميلة تشبه الأوكسيجين الذي يولد للتوّ". أما هو فكان يجيب أصدقاءه وأعداءه من الغربيين قائلا:”لأننا نكرهكم أنتم وعقلكم، نحن نطالبكم بجنون مبكّر، وباختلال عقليّ متوهّج، وبتوحّش فظّ. تلاءموا معي، أما أنا فلا أتلاءم معكم!”.وحتى نهاية حياته المديدة(95 عاما)، ظلّ ايمي سيزار حريصا على أن يكون "فم البؤساء وألأشقياء الذين لا أفواه لهم، وصوتهم، وحرية اللاتي هوَيْن في سجن اليأس".