في كتابه "بيتهوفن لعصر لاحق"، يُدخل إدوارد دوسنبير القارئ تعقيدات هذه القطع الرائعة، موضحًا تاريخ كتابتها، وشارحًا التحديات التي تطرحها على العازفين والجمهور، بأدنى قدر من اللغة التقنية المتخصصة.

إيلاف: أصبحت رباعيات بيتهوفن الوترية الستة عشر التي استغرق تأليفها ربع قرن من أكبر منجزات الفن الغربي. وإذ استُقبلت في البداية برهبة وحيرة، فإن صاحب الرباعيات وصفها بأنها "موسيقى لعصر لاحق"، في إشارة إلى أن بناءها وأهدافها لن تُفهم إلا بمنظار الأجيال المقبلة.

ما حل زمن بيتهوفن بعد

هذا ما حدث، فهي حتى اليوم يمكن أن تبدو معقدة وانطوائية، لا يمكن الاقتراب منها. لكنها ما زالت تحوز إعجاب كثير من الباحثين والخبراء الذين يستمعون مبهورين إلى عبقرية صاحبها على الأوتار. 

لعصر لاحق
إدوارد دوسنبير، عازف الكمان الأول في رباعي تاكاتش، الذي بدأ في المجر قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة، يأخذنا في كتابه "بيتهوفن لعصر لاحق" (Beethoven for a Later Age والذي يبلغ عدد صفحاته 272 صفحة؛ دار فابر، 10.79 جنيهًا إسترلينيًا) داخل تعقيد هذه القطع الرائعة، موضحًا تاريخ كتابتها وشارحًا، بأدنى قدر من اللغة التقنية المتخصصة، التحديات التي تطرحها على العازفين والجمهور.

وإذ يركز دوسنبير في فصول كتابه السبعة على رباعي واحد، فإن تحليله للموسيقى يتضمن قدرًا من السياق التاريخي. ويلاحظ الكاتب والناقد الانكليزي روبرت كريستيانسن أن هناك وصفًا لشخصية فالشتافن أغناتس شوبانتسيغ، عازف الكمان الفذ، الذي أوحى لبيتهوفن بتأليف بعض من أكثر أعماله الموسيقية الوترية انشحانًا وأصعبها تقنيًا، وشخصية الكونت الروسي الأنيق رازوموفسكي، الذي يقف وراء تأليف الثلاثية رقم 59.

شبح وعقل
كان بيتهوفن مستعدًا لمجاراة الذوق العام في البحث عن ربح سريع، كما يبيّن عمله "انتصار ولينغتون"، لكنه في الرباعي الوتري يتواصل مع نفسه، معزولًا ومحبَطًا بسبب الصمم الذي أصابه. لا يتبدى هذا بحدة كما يتبدى في خاتمة عمله رقم 130 التي اقتُطعت لاحقًا لتكون قطعة منفصلة.

يشعر دوسنبير بالرعب من هذه القطعة التي تتحدث موضوعاتها عن شبح يهدد ويلاحق، وعقل يضمر. هدف دوسنبير الثاني، وربما الأكثر جرأة، هو إماطة اللثام عن شيء من الديناميات الشخصية لرباعي تاكاتش نفسه، الذي يعتبر واحدًا من أفضل ثلاثة رباعيات وترية في العالم اليوم.

وكان دوسنبير المولود في إنكلترا انضم إلى الرباعي ليحل محل العازف الكاريزمي المجري غابور تاكاتش ناجي، الذي أسس الفرقة قبل نحو 40 عامًا في بودابست.

وما زال عازف الكمان الثاني الأصلي وعازف التشيلو الأصلي، وكلاهما رجلان مجريان، عضوين في الفرقة. ولم تظهر عازفة الكمان الأميركية الحالية إلا في عام 2005. ومنذ منتصف الثمانينيات يعمل الرباعي في جامعة كولورادو، ويقدم 100 حفلة موسيقية سنويًا، ويمضي ستة أشهر في السفر.

الارتباط العبء
هذه هي الحقائق العارية. لكن ما هو نوع الانسجام الذي يمكن أن يُعزا إليه نجاح الرباعي تاكاتش؟. يقول فيكرام سيث في روايته "موسيقى متساوية" إن الرباعي الوتري يعمل بين "الزواج" و"الشركة" أو كأنه "مفرزة تحت النار" أو"جماعة كهنوتية تحترم نفسها وتدمّر نفسها".

لكن دوسنبير يلتزم جانب الصمت في هذا الشأن. ورغم أنه يشير بشكل سريع إلى العلاقة الودية بين أعضاء الرباعي فإن هناك مؤشرات تقول إن شيئًا ما يغلي تحت السطح، ويرفض دوسنبير التعامل معه في العلن.

يعترف دوسنبير بأن قوة ارتباط أعضاء الرباعي اجتماعيًا وموسيقيًا تشكل عبئًا عليه. ويكشف بطريقة غير مقصودة أنهم لا يجلسون بجانب أحدهم الآخر خلال السفر جوًا، لكن انضمام امرأة إلى الرباعي يعني أنهم بدأوا يتناولون وجباتهم معًا في أحيان أكثر.

ويقول دوسنبير في الكتاب: "للحفاظ على بيئة عمل ممتعة، فإننا جميعًا نمارس درجة من ضبط النفس العاطفي، حيث نمرر أفكارنا ومشاعرنا في مصفاة عندما نقيس ما يُفضَّل أن يبقى غير منطوق به".

التحدي الدائم
في هذه الأثناء، نكاد لا نعرف شيئًا عن حياة أعضاء الرباعي الوتري خارج عالم الموسيقى. (لا تظهر زوجة دوسنبير وابنه في الكتاب إلا بشكل عابر). ويتساءل كريستيانسن في مراجعته كتاب دوسنبير: "هل هناك أوقات يريد أعضاء الرباعي أن يخنقوا أحدهم الآخر؟، ما هي السلطة اللاشعورية التي يحملها موقع دوسنبير بوصفه عازف الكمان الأول؟". ويضيف أن مثل هذا الأسئلة لا يجد إجابات عنها في الكتاب.

لكن عمل الرباعي الوتري ليس مسألة بسيطة، حيث يقود عازف، والآخرون يتبعونه، ولا هو حتى مسألة ديمقراطية. إذ يجب التوصل إلى شيء أبعد من رأي الغالبية أو التوافق أو الحلول الوسط إذا أُريد للموسيقى أن تأتي حية.

تكون وحدة الروح الموسيقية هي الهدف، فيما تتسم نوتة كل عازف بأهمية بالغة. والعثور على خيط متين ومرن في آن يقود من المقدمة إلى الخاتمة إنما هو تحدٍ دائم الحضور، وكذلك اجتناب الدقة التي تنقض العفوية.

اللغز بلا حل
يكتب دوسنبير مؤكدًا: "إن خطر فقدان السيطرة يكمن في قلب أي لقاء حيوي مع أحد رباعيات بيتهوفن المتأخرة".

في البروفات يتكلم أعضاء رباعي تاكاتش بالانكليزية وحدها تقريبًا على ما يبدو، ولا يوجد اتفاق بين الناطقين بالمجرية. ولكن لغة الجسم وتعابير الوجه أهم من الكلمات. ولاحظ مراقب مخاطبًا أعضاء الرباعي "أنتم تبدون وكأنكم لا تعرفون ما تفعلون".

إن اللمحة التي يتيح دوسنبير لنا إلقاءها على عمل الرباعي لمحة فاتنة، ولكن الكيمياء التي تجعل الرباعي تاكاتش يعزف بهذا المستوى الرائع من الأداء تبقى لغزًا بلا حل.