إيلاف من بيروت: في منتصف القرن العشرين، صارت الجراحات الفصية الدماغية التي طوّرها عدد من الأطباء، وبينهم إيغاس مونيز الحائز على جائزة نوبل في عام 1949، أكثر شعبية وإقبالًا. كان الهدف منها علاج مجموعة واسعة من الأمراض النفسية، واعتبرت خمسينيات القرن الماضي ذروة الجراحات النفسية، ساد فيها اعتقاد غير مثبت أن إزالة الفصوص الجبهية الكبيرة التي تميز الدماغ البشري عن دماغ أقرب أنسبائه، أي الثدييات العليا، أو تقطيعها ربما يخفف الآلام والأحزان والقلق والاكتئاب، وحتى الفصام، ناهيك عن الأفكار الخطيرة على المستوى السياسي.&
من هذا المنطلق، تنافس الجراحون النفسيون في الولايات المتحدة وأوروبا على القصّ والتقطيع، واعتمد كلّ منهم أسلوبه الخاص، فبرز وليام فريمان الذي استخدم مخرز الثلج لاختراق الدماغ عبر محجر العين، بينما اشتهر في بريطانيا وليام سرغنت الذي ادعى أن استئصال الفص الصدغي الإنسي من دماغ ربّات البيوت المكتئبات يضمن تمكّنهنّ من إنجاز الأعمال اليومية على أكمل وجه، بمرح أكثر. أما ويليام بيتشر سكوفيل فكان مختصًا في فتح الجمجمة وتقطيع الاتصالات الدماغية، وكأنّه يقطع قالبًا من الجبن. &
هذه هي الخلفية الأساس في كتاب "المريض هـ.م.: قصة من أسرار الذاكرة والجنون والأسرة" Patient HM: A Story of Memory, Madness, and Family Secrets &(440 صفحة؛ منشورات راندوم هاوس، 28 دولارًا؛ منشورات تشاتو ويندوس، 18.99 جنيهًا استرلينيًا)، وهو كتاب أخّاذ ألّفه لوك ديتريتش مركزًا على ثقافة طبية سمحت بتحويل الشاب هنري مولايسن الذي يعاني من الصرع إلى ما يعرف بالمريض هـ. م.، "أهم مريض في تاريخ علم الدماغ".&
مصائب قوم فوائد قوم.
في عام 1953، عندما كان مولايسن في عقده الثاني، كان يعاني داء صرع مستعصٍ ومدمّر، فأخضعه ويليام بيتشر سكوفيل لجراحة تجريبية أزالت منطقة من دماغه، ما أدّى إلى عجز عميق في ذاكرته. وعلى الرغم من تذكّره حياته قبل الجراحة، أصبح من بعدها غير قادر على الاحتفاظ بالذكريات الجديدة إلا لدقائق معدودة. ووفقًا لما كتبته بريندا ميلنر، أول عالمة نفس درست حالته، فبالنسبة إلى مايسون كان كل يوم يومًا جديدًا، مهما واجه من سعادة أو حزن، وكان الأشخاص الذين يرونه يوميًا مجبرين على التعريف عن أنفسهم في كل مرة يقابلونه.&
وفي 55 سنة باقية من حياته، مرّ المريض هـ. م. في عيادات أجيال من علماء النفس الذين حاولوا استكشاف تفاصيل فقدان ذاكرته، كما صار موضوع دراسة علماء الأعصاب الذين عملوا على تحديد دور المنطقة المستأصلة من دماغه في صنع الذكريات واستعادتها، علمًا أنّها كيان منحنٍ في عمق الدماغ، أطلق عليه اسم الهيبوكامبوس أو الحصين لأنّه يشبه فرس البحر.&
&
&
&
وترتّبت عن هذا الموضوع أوراق بحثية كثيرة وجوائز نوبل وروايات وأفلام، إضافة إلى مذكرات بعض الأشخاص الذين بنوا مهنتهم على مهاجمة دماغ مولايسن، مثل تلك التي كتبتها سوزان كوركين، الطبيبة النفسية التي أبقت هوية هـ.م. مجهولة أكثر من أربعة عقود، حتى وفاته في عام 2008. ومنذ نشر تفاصيل الجراحة وآثارها للمرة الاولى، تحوّل المريض هـ.م. إلى عنصر ثابت في كتب علم النفس.
بين الجد والحفيد
تجدر الملاحظة أن لوك ديتريتش ليس مجرد كاتب علوم يملك أسلوبًا أميركيًا منمقًا لا ترتاح له الأذن الإنكليزية البسيطة، بل هو أيضا حفيد ويليام بيتشر سكوفيل، الجراح الجريء والمغامر الذي استأصل الحصين، ومعه الذكريات، من دماغ مولايسن. إذًا، فهذا الكتاب الذي يحمل عنوانًا فرعيًا "قصة من أسرار الذاكرة والجنون والأسرة"، يصف وضعًا عائليًا غير مريح يستحق أن يُروى.&
نظرًا إلى طبيعة إصابات مولايسن، فإنّ هذه الشخصية المحورية بشكل ظاهري في القصة تبقى ظلًا فارغًا في 440 صفحة في الكتاب. فهو يبدو في نصوص المقابلات القصيرة مرتبكًا وبسيطًا، غير قادر على تلوين صورته الخاصة، أو حتى سرد تاريخه الخاص، حتى انّه ما عاد يستطيع تذكّر الأشياء التي حدثت له قبل الجراحة. أما من احتلّ مركز الاهتمام الحقيقي فهو الجرّاح ويليام بيتشر سكوفيل.&
ويعتبر سكوفيل محظوظًا لأنّ حفيده هو الكاتب، فقد نقل الحكواتي الماهر ديتريتش إنسانية جدّه أكثر مما قد يفعله مؤلف آخر، فذكر مثلًا كيف كان سكوفيل، الجرّاح الذي لا يتعب، يعود إلى منزله ليلًا ويؤلّف قصصًا رائعة لابنته (والدة الكاتب). وفي الوقت نفسه، أبقى صورة الجرّاح القاسي والمتهور والمغامر الذي يبدو أحيانًا غير مدركٍ المنهج التجريبي في عمليات جراحية جذرية على أعضاء لا تزال غامضة علميًا.
وفي حال وجود فرضية وراء تقطيعه أنسجة الدماغ وحرقها، فهي لم تكن واضحة. كما أن قلّة منطقه في كثير من هذه الجراحات تقشعرّ لها الأبدان. وكذلك، في الصفحات القليلة الأخيرة، يوضح ديتريتش العنوان الفرعي للكتاب، من خلال تلميح فاضح إلى أن جدته، التي أمضت جزءًا كبيرًا من حياتها موضوعة تحت الرعاية، خضعت لجراحة فصية بيد زوجها سكوفيل قبل أن يطلّقها ويتزوّج من امرأة أصغر سنًا.&
انتقاد الأسلوب&
يتضمّن كتاب "المريض هـ.م.: قصة من أسرار الذاكرة والجنون والأسرة" مقابلات أجراها ديتريتش مع الذين درسوا حالة هذا المريض، ولا يزالون على قيد الحياة، بينهم ميلنر التي أصبحت الآن في العقد التاسع من العمر.
أما في المواضع التي وجد فيها المؤلّف نقصًا في البيانات، تجده يتأمّل حال الموتى بمن فيهم جده وجدته. كما يصف العمليات الجراحية بأدقّ التفصيلات تقريبًا. فضلًا عن ذلك، الكتاب مليء بالحوار الملفّق والافتراضات، كالملابس التي ربما ارتداها سكوفيل ومولايسن عندما التقيا للمرة الاولى، والسيارات التي قادها سكوفيل، أو حتى ما فكر فيه مولايسن حين كان يتحضّر للعملية الجراحية.
والأكثر احباطًا بعد هو أن الكتاب خالٍ من المراجع، لذلك لا وسيلة للتحقق من صحة الحوادث الملفقة، أو مصادرها الفعليّة. لكنّ هذه الاستطرادات ليست إلا إزعاجًا طفيفًا مقارنة بالمنعطافات غير المتّصلة التي يسلكها الكتاب في وصف إجازات المؤلف مع ابنته، وتجاربه في هواية مصارعة الثيران. وفي كثير من الأحيان، يضيّع ترابط حججه وتسلسلها في صفحات عديدة، أو حتى في فصول كاملة.&
في عهدة العلماء
بعد لحظات من وفاة مولايسن، تنازع الكثيرون للحصول على دماغه، فتم إرساله إلى جاكوبو أنيزي، الخبير في علم تشريح الأعصاب. لكنّ كوركن، لم تعتبر أن من حقّه القيام بذلك وطالبت بالحصول على الأنسجة. وبعد دراسة الدماغ، ما وجد أنيزي ضررًا في الفص الصدغي وحده، حيث أزال سكوفيل أنسجة المخ الحيوية، ولكن في قشرة الفص الجبهي أيضًا. وحين رأت كوركين تقرير أنيزي، أصرّت أولًا على أن تضرّر الفص حصل بعد التشريح. لكن أنيزي أبرز أدلة على تلف القشرة الجبهية قبل استئصال الدماغ، استنادًا إلى صور بالرنين المغناطيسي. كما أشار إلى أن الضرر كان واضحًا في فحوصات الرنين المغناطيسي التي أجريت تحت مراقبة كوركن في عامي 1992 و1993.
ويشير أنيزي إلى أن ذلك حدث في أثناء الجراحة، عندما رفع سكوفيل الجزء الأمامي من الدماغ للوصول إلى الفص الصدغي والمعقف واللوزة وقرن آمون (أو الحصين). ولتعقيد الأمور أكثر بعد، لفت ديتريتش إلى أن واحدة على الأقل من مشكلات الذاكرة لدى المريض هـ.م. كانت موجودة قبل الجراحة الفصية.
والآن، أصبحت الشرائح التي تحمل أجزاء دماغ هـ.م. في عهدة علماء الأعصاب، لكنّ هذا لا ينطبق على البيانات البحثية الأولية التي جمعتها كوركن خلال 30 عامًا، لأنّها أتلفت جزءًا كبيرًا منها قبل وفاتها.&
حان الوقت للمضي قدمًا
إذًا، إضافة إلى العقود الضارّة في ممارسة الطب، تظهر التقارير الشاملة في الكتاب كيف قامت الأنا والتقدير الذاتي بتغذية القرارات العلمية والأخلاقية المشكوك فيها، ليس في ذروة العمليات الدماغية فحسب، بل بعد فترة طويلة أيضًا.
وفي نهاية المطاف، تبيّن أن مأساة حياة المريض هـ.م. ازدادت عمقًا. ووفقًا للردود التي أدلى بها في الاستبيانات فهو، خلافًا لما كتب عنه، كان رجلًا حزينًا وحيدًا بلا أمل مستقبلي، ولا مشاعر غضب أو ذنب.
فتحت عملية مولايسن الفاشلة أبوابًا في دراسة إحدى أكثر قدرات الإنسان غموضًا، أي الذاكرة. لكنّ العلم مضى قدمًا، وآن الأوان بالتأكيد لمنحه، ودماغه، دفنًا لائقًا.
&
&
&
التعليقات