أصيلة: بعد موضوع وضعية القارة الإفريقية في علاقتها بالعالم، شكلت ندوة "الشعبوية والخطاب الغربي حول الحكامة الديمقراطية"، ثاني ندوات منتدى أصيلة الـ 39.
وبحث المشاركون في الندوة مساء أمس الأربعاء بمكتبة الأمير بندر بن سلطان الإشكاليات المرتبطة بصعود التيارات الشعبوية وأثرها على تركيبة واتجاهات النظام الدولي، والبحث عن سبل لتفعيل الحكامة، والتشجيع على المشاركة السياسية، بما يقوي الاندماج الاجتماعي، ويساعد على امتصاص الخطابات الإقصائية.
وقال محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة ووزير خارجية المغرب الأسبق إن موضوع الندوة يطرح بقوة جملة من التحديات الفكرية على النخب، وهي الأسئلة التي لم تعد تقبل الاستكانة والتعاطي المتمهل والمزاجي معها، و أبرز أن الشعبوية لم تعد مجرد أفكار مبعثرة، خارجة عن الانسياق الفكري المعروف، تتساكن وتتعايش مع الآراء المخالفة لها في المجتمع الواحد، بل إنها تسعى إلى اقتحام معاقل السلطة، وادعاء القدرة على تنظيم مغاير للمجتمع.
وأضاف بن عيسى قائلا"في هذا السياق، أتساءل معكم: ضمن أية خانة فكرية وسياسية نصنف تجارب الاحتجاج أو الحراك الذي عرفته بعض المجتمعات العربية والأفريقية والأوروبية؟ هل هو مجرد مطلب ملح لتحقيق العدالة الاجتماعية ورد الاعتبار والكرامة للمواطن بإشراكه في تدبير أموره؟ أم تقف خلفيات وأجندات سياسية يجهلها المحتجون أنفسهم؟
وأكد بن عيسى أن مواقف الغرب متباينة من التيارات الشعبوية داخله، لكنه قادر على احتواء غلوها وحماستها، بالنظر إلى مناعة مؤسساته الديمقراطية وقوة اقتصاده وتعايش وتقبل المجتمع الأفكار المتطرفة، وهو جانب من واجهة الديمقراطية خاصة بالغرب، تقبل دخول أحزاب شعبوية إلى البرلمان، بينما الوضع مختلف في المجتمعات الساعية إلى الديمقراطية.
وأضاف وزير خارجية المغرب الأسبق قائلا "يخطأ الغرب في تشخيص وتقييم الأوضاع فيها، حينما يطالب بتطبيق معاييره في التعاطي مع النزعات الشعبوية التي تحركها الأمية والغرائز والعنف الأعمى، وهذا ما حدث فيما سمي بـ(الربيع العربي)، وهنا أود الإشارة إلى سمات خطيرة لا شك أنها اندست في صفوف الحراك الشعبوي في مجتمعات عربية، تتجلى في استقواء الحراك بالخارج ما يدفعه إلى التصلب في المواقف، بل الأخطر أن ذلك يشجعه على الاقتراب من المنظمات المتطرفة، فيسقط دون أن يدري في قفص الإرهاب المدمر".
من جهته، أفاد ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير الخارجية والتعاون الإسباني الأسبق أن الشعبوية لها وجهان وطني ودولي، لذا وقع الاختيار على عنوان الندوة، وبالتالي طرح التساؤل التالي: "كيف يمكننا أن نفهم تأثير الشعبوية على الصعيد الوطني دون أن يكون هناك علاقة بالأحداث التي تحصل على المستوى العالمي؟ الشعبوية تؤثر بشكل كبير في الطبقات السياسية سواء في اوروبا او العالم الإسلامي، وأتذكر حينما كنت وزيرا للخارجية، كان المثل يضرب بهوغو تشافيز في الشعبوية بأمريكا اللاتينية ".
وأشار موراتينوس إلى وجود توجهين يتقاطعان لا يمكن إهمالهما إن كانت هناك إرادة في التعامل مع الأسباب العميقة للحراك الشعبوي، خاصة ان هناك موضوعا حاسما يجعل المواطن يرفض الأحزاب التقليدية السياسية، وهو انعدام العدالة الاجتماعية، فالناس الذين يستفيدون من منافع النظام يشكلون كتلة، وهناك طبقات عاملة متوسطة، كانت منخرطة في الحياة العملية والسياسية، وفجأة اختفت ولم تعد تساهم في ضمان نوع من الرفاهية منذ سنة 2008.
وقال موراتينوس إن معظم المواطنين الغربيين يعيشون التهميش بسبب ابتعاد صانعي القرار عن الساحة، وحدوث ركود اقتصادي، مما ولد الخوف والقلق والحاجة إلى حماية مستعجلة،"الآن أصبح الكل يتحدث عن الهوية ونحن مطالبون بالحفاظ عليها، الشعبوية تجاوزت السياسة لتصل إلى الاقتصاد وتؤثر في التجارة واتفاقيات التبادل الحر.
من جهة ثانية، يضيف موراتينوس " هناك من يصب غضبه على المهاجرين ومشاكلهم، بدعوى أنهم يشاركوننا حقوقنا في مجالات عديدة، و يخصون أنفسهم بالثروة التي تعد حقا شرعيا لنا، وهو طرح متعدد الأطراف من شأنه أن يخلف أزمة جديدة ".
في سياق متصل، شدد محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي السابق للمجلس الوطني الانتقالي بليبيا( رئيس الوزراء) على كون المنطقة العربية تعاني من"ثقافة الصدى"، فأي مصطلحات تظهر في العالم الآخر، تجد موطأ قدم لها ويتم التعامل معها بأريحية، لتصبح مجاميعا تتحرك في شكل كتل في ظل فشل اقتصادي.
وزاد جبريل قائلا"في الحراك ولدى الدارسين، يستطيع الجميع أن يجزم بأن المجتمع أصبح يملك زمام الأمور في السنين الماضية سواء في شكل أفراد أو جماعات، وهو أمر في منتهى الخطورة إذا لم يكن هناك إطار لحركة الجماهير، مما يساهم في تكريس منحى الفوضى والتطرف، وبالتالي، فالنخبة العربية عليها دور كبير في اليقظة الشعبية والتي تحتاج إلى إطار فكري يرشدها، في ظل الاعتقاد السائد بممارسة التفكير أي ثقافة الصدى، وهو أمر سيجعل المواطنين في معاناة في السنوات القادمة".
وذكر جبريل انه " إذا لم نؤطر هذا الحراك، سنشهد توترا كبيرا بين الأمن والديمقراطية، فالأمن سيصبح احتياجا، ويصبح هنالك طلب حثيث لاستعادته ولو على حساب الحرية الشخصية، وبالتالي ظهور نموذج لدولة جديدة لعلها تحل المفارقة، و هنا أسوق مثلا بدولة الإمارات، حيث الديمقراطية وسيلة وليست غاية، عندما تستطيع الحكومات أن تحقق أكثر مما يطالب به المواطنون، حينها ينشأ شكل جديد من النخب الحديثة".
في غضون ذلك، تساءل الطاهر المصري، رئيس وزراء الأردن الأسبق قائلا"كيف يمكن للغرب الأوروبي والأميركي الذي امتلك ناصية الدفاع عن القيم أن ينتقل إلى تكريس حالة من الخوف بسبب التنوع الديني والعرقي، واعتبر أن الشعبوية ظاهرة تكررت نماذجها من طرف قادة معاصرين مخافة أن يطالهم اللوم والعتاب.
وأضاف المصري"إذا كان تكرار النماذج الشعبوية في بلادنا والعالم الثالث بات أمرا مألوفا، فإنها كمفهوم لا تزال قادرة على التستر وتأويل ملامحها بدعوى المقدس تارةًً، وباسم الإرهاب والتطرف، تارة أخرى".
وقال "ليس هناك عقيدة متماسكة أو إيديولوجية اسمها الشعبوية، لكونها تنسجم مع كل الإيديولوجيات الديمقراطية والفاشية، وهي أقرب لأسلوب سياسي من كونها عقيدة، الشعبوية رغبة عارمة في إعادة الملكية المشتركة للجميع بعد سيادة شعور بأن مدخرات الناس تنهب وباتت في مهب الريح".
واقترح رئيس الوزراء الأردني السابق إنتاج معايير إنسانية متعددة في الخطاب الموجه لجماعات معينة، بحيث تكون هذه المعايير حدا فاصلا بين كل ما هو شعبوي، إضافة إلى تطوير مفاهيم محددة تجرم الخطاب الشعبوي الذي يتخذ من الإنسان وعرقه مادة للاستغلال.
في السياق ذاته، قال فيوك جيرميكش، رئيس مركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة ووزير خارجية صربيا الأسبق إن المؤرخين الجدد يصفون الشعبوية بالتوجه أحادي القطب، في ظل وجود قادة بأوروبا الغربية والشرقية كان لهم دور كبير في وجود هذا التيار السياسي، والذي له تبعات شبهها بالأعراض التي يصاب بها الجسد حينما يباغته المرض".
وأوضح ان "هذا التيار يخلق نقاشا على المستوى السياسي، وإذا ما غادرت بريطانيا على سبيل المثال أوروبا، فإنها ستفقد ميزاتها ومكانتها السابقة، عموما، نجد أن النظام الليبرالي أضحى ديمقراطية غير ليبرالية بدرجات متفاوتة، و أعتقد أن هذا الأمر سيتصاعد بفعل وجود أنظمة لديها التوجه نفسه وتنتمي إلى الاتحاد الأوروبي".
من جهته، اعتبر مصطفى حجازي، مختص مصري في الاستراتيجية السياسية، أن الحديث عن الشعبوية يأتي في سياقات كثيرة نعجز عن تصورها، لأن هناك عمرا إنسانيا جديدا ما بعد الصناعة والمعلوماتية، فالإنسانية تحيا في فترة من التيه والتخبط، ويأتي في سياق ذلك كل ما انتهت إليه الليبرالية.
وأكد حجازي على وجود نوعين من النخب، أولاها تتعلق بالحكم الجديد والتي ولدت في الشوارع، وأخرى تمثل الجزء غير المفكر في المجتمع، مما يشكل خطرا جديدا إذا اجتمعت النخبة بالكتلة غير العاقلة في المجتمع والتي تمارس الشعبوية، مشيرا الى ان "هناك ثنائية حكمت مجتمعاتناهي ثنائية القهر والفقر، والتي أصبحت غير قابلة للبقاء، كما أننا لم نستطع أن نطور كإنسانية تعريفاتنا لما بعد الصناعة والمعلوماتية، ما تحتاجه الإنسانية هو قلب نظام الحلم، بمعنى أن تسعى في البحث عن حلمها وتحمي نفسها إلى أن تستطيع رسم ملامح واضحة لهذا الحلم".
الطاهر المصري رئيس وزراء الاْردن الأسبق |
وقال أنطونيو دي أغويار باتريوتا، سفير البرازيل لدى إيطاليا والممثل الدائم السابق للبرازيل لدى الأمم المتحدة إنه لا يمكن الجزم بكون المواطنين يقبلون بالخطب التي تصدرها النخب السياسية، وبالتالي أضحى من الضروري فتح نقاش مع القائمين على السياسة، والتصدي لأطروحة أن الشعبوية لها علاقة بقضية كراهية الاجانب، وهو الموقف الذي تتبناه عدد من الدول.
وأشار باتريوتا بالقول"لا يمكن أن تكون استبدادية، استطاعت ان تجد لها توجها سياسيا، لكن يمكن أن نجد أشكالا من الشعبوية الاستبدادية في بعض الدول، مما يفرز الكراهية والعدائية للأجانب، ليبقى العدو الحقيقي للعالم هو وجود أشكال مختلفة من الخطابات، وبالتالي علينا أن نجد حلولا ولا نكتفي بما هو متوفر، في ظل التحديات المطروحة على الساحة من مكافحة الإرهاب وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي تبني خطابات سياسية تمكن من تقليص أخطار الشعبوية".
وأكد باتريوتا أن الشعبوية ليست ظاهرة سلبية، بل لها مزايا وإيجابيات، كما هو الحال في دول البرازيل وفنزويلا، واللتان استطاعتا أن تحققا العدالة الاجتماعية، وتفتح مجالا لعدد من الدول والمجتمعات التي أصبحت تتبنى نفس الخطاب.
أما تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، فتطرق في مداخلته إلى أن ما يعرفه النظام الدولي من تطور وتدهور أصبح يفرض طرح تساؤلا حول مستقبل الأجيال القادمة، مع العلم أن الشعبوية تعني فلسفة سياسية أو إيديولوجية أو خطاب سياسي يتم عن طريق توظيف الديماغوجيا والدعاية، وتتمثل أساسا في نشر المعلومات بطريقة موجهة بهدف دغدغة مشاعر الجماهير واستقطابها، وتستعمل من طرف الحكام أو الموجودين في المعارضة، للإطاحة بأولئك الموجودين في سدة الحكم.
وقال الحسيني "الشعبوية هي ثورة ضد النخبة، ولهذا نجد في مختلف الأحيان أنها تبدأ بالفقراء والبسطاء، لتنتقل إلى الطبقات المتوسطة، نحن اليوم نعيش رجوعا جديدا نحو التعددية القطبية، فعندما ننظر للمجتمع الدولي، نلاحظ أنه يعاني من موجة لم يسبق لها مثيل من الشعبوية التي خرجت عن سياقها الإقليمي، خاصة بعد وصول دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة ".
يوم جيرميكش وزير خارجية صربيا السابق |
وأفاد الحسيني أن أميركا تمثل أكبر نموذج للشعبوية لأنها تجاوزت كل المبادئ والمؤسسات بما فيها الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، برفع ترامب لشعار"أميركا أولا"، وهو ما تجسد من خلال الخطوات التي قام بها حينما قام بإغلاق الحدود امام بلدان إسلامية متعددة، وإخراج بلاده من اتفاقيات المناخ.
وقال الحسيني" النظام الدولي لم يكن محايدا على الإطلاق، فهو تعبير عن مصالح القوى المهيمنة ومع التدهور الذي يعيشه، نعيش معه نحن كذلك في أسوإ لحظات التاريخ، وهذا مرتبط بظاهرة الشعبوية، نحن بحاجة إلى نظام دولي جديد، يأخذ بعين الاعتبار توازنات القوى على المستوى السياسي والديمغرافي والاقتصادي والبيئي، وأول خطوة فيه تبدأ بتعديل ميثاق الأمم المتحدة الذي عفا عليه الزمن".
من جهته، قال بيرناردينو ليون غروس، المبعوث السابق للأمم المتحدة في ليبيا، ان الشعبوية سياسة تستهدف الفرد لكي تظهر ككيان حقوقي يحل محل الدولة، ويؤسس لسياسة نبذ العقل والتفكير، وهو ما يلاحظ حاليا، من خلال قوة الانفعالات والمخاوف بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، لتظهر أفكار جديدة وغامضة من دون توجهات واضحة، وبالتالي فهي ليست سببا لما يحصل وإنما نتيجة لعدة أزمات.
وأضاف غروس"التجارب تشير إلى وجود الشعبوية في أميركا اللاتينية وفي العالم العربي إبان حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وشهدنا تطورات جديدة لها في أميركا من خلال سياسة فرانكلين روزفلت ورونالد ريغان، لكن الشعب الأميركي كان دائما يبدي مواقف ليبرالية"، مشيرا الى ان الخلفية التاريخية "أثبتت فشل الشعبوية، وأنا متفائل على الرغم من سماعنا لأصوات متشائمة في هذا الموضوع، صحيح أن التهديدات والمخاطر موجودة لكن علينا بالتفكير والتدبر بوجود مؤسسات قوية".
وتحدث غروس عن سياسة ترامب الداخلية، وقال انها ستفشل لأنه لا يستطيع التعامل مع مؤسسات بلاده، التي تعارضه في كل تصريح أو عمل يعلن القيام به.
ويعتبر غروس أن المجتمع بحاجة إلى سياسة حقيقة كفيلة بإحداث تغييرات، على اعتبار أن التاريخ يشكل من دورات متصل. وخلص الى القول " اذا ركزنا على إنشاء المؤسسات وتطويرها، فهذا يعني أن النظام الدولي سيكتسب المزيد من القوة".
التعليقات