بيروت: شهدت اليابان على مدى تاريخها الحديث منذ أكثر من نصف قرن سلسلة فضائح ارتبطت بأسماء سياسيين كبار، وهزت المجتمع الياباني، منها فضائح فساد مالي أو بيروقراطي، وفضائح جنسية وحالات تجاوز على قوانين الانتخابات.
تاريخ وسياسة مقارنة
خصص ماثيو م. كارلسون وستيفن ر. ريد لهذا البلد ومغامراته مع الفساد كتابًا يحمل عنوان "الفساد والفضائح السياسية في اليابان" Political Corruption and Scandals in Japan (204 صفحات، منشورات جامعة كورنيل)، وهذا كتاب يجمع بين التاريخ والسياسة المقارنة، ويركز على القضايا التي برزت إلى السطح وانتشرت تفاصيلها في وسائل الإعلام ثم على جهود الإصلاح التي بذلت على مدى عقود لوضع حد لهذه الممارسات.
يرى الكاتبان أن ممارسات الفساد وفضائحه بدأت في اليابان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واعتبارًا من عام 1948، عندما تشكلت الطبقة السياسية في البلاد ثم رسخت وجودها من خلال هذه الممارسات، ما أثر في العديد من الانتخابات الوطنية في الأعوام 1949 و 1955 و 1967 و 1976 و 1990، ثم في عام 1993، فيما كانت جهود الإصلاح في تلك الفترة ضعيفة ومن دون تأثير كبير في مجريات الأمور.
لوكهيد وركروت
كان من أهم الفضائح التي شهدتها البلاد فضيحة لوكهيد في عام 1979 عندما تم الكشف عن تسلم سياسيين كبار رشاوى لشراء طائرات. وأظهرت التحقيقات اللاحقة أن القضية بدأت في عام 1976، وأن شركة لوكهيد دفعت ما يقارب من مليون ونصف مليون دولار لرئيس الوزراء تاناكا كاكوي الذي استقال من منصبه في إثر ذلك، ثم أدين بتهمة الفساد في الثمانينيات من القرن الماضي، لكنه لم يسجن ولم تنته القضية إلا بوفاته في عام 1993.
تذكر المحاضر القضائية أن التحقيق في هذه القضية شمل 460 شخصًا، وكشف عن تورط 17 من أعضاء البرلمان الياباني فيها. من الفضائح الكبيرة الأخرى ما يدعى بفضيحة ركروت، وهي شركة موارد بشرية وإعلانات مبوبة مقرها طوكيو، وقام مديرها بتزويد رجال مال وسياسيين بمجموعة من الأسهم في شركة كوزموس التابعة لها قبل عرض أسهمها للتداول في سوق الأوراق المالية في عام 1986، وبعدها ارتفع سعر الأسهم بشكل كبير ومفاجئ وحقق مالكوها أرباحًا هائلة تقدر بـ 66 مليون ين لكل منهم.
من الضالعين في هذه القضية رئيس الوزراء نوبورو تاكيشيتا، ورئيس الوزراء السابق ياسو هيرو ناكاسوني، وشخصيات أخرى رفيعة المستوى.
تطوير ضوابط الشفافية
يركز الكتاب على تحليل قضايا الفساد وتطور أنواع الفساد وتغير أشكاله على مدى عقود، والإصلاحات التي تم إدخالها لوقف هذه الممارسات، أهمها إصلاحات عام 1994 مع تطوير ضوابط الشفافية.
من الأمور التي ركز عليها الكتاب شرح أنواع الفساد، وهي ثلاثة ثم تعريف كل واحد منها وتحليل دوافعه والظروف التي تؤدي إلى استشرائه، ثم تحديد الأوساط التي تنتشر فيها ممارسات الفساد والوسائل المستخدمة.
قضية لوكهيد مثلًا كشفت عن فساد مالي وسوء استغلال السلطة، لكن حالات فساد سياسي لاحقة بينت مساعي جماعات مالية كبرى لشراء نفوذ من خلال توزيع منافع ورشاوى ومبالغ مالية وبطرق شرعية وغير مفضوحة أحيانًا، أي أن الهدف من هذه الجهود فتح منافذ لأطراف من خارج الوسط السياسي للدخول إلى الوسط.
تسعى هذه الجماعات من خلال الرشاوي لضمان موقع في عملية صنع القرارات السياسية في البلاد، بما يضمن مصالحها بشكل عام. يشير الكاتبان إلى أن عدد الضالعين في مثل هذا النوع من الفساد فاق كل التوقعات.
بشكل غير منظور
هناك أيضًا ما يدعى بالفساد البيروقراطي ويقوم على إفساد مسار العملية الإدارية من خلال التبذير أو انعدام الفعالية. وعادة ما يتم كل شيء بشكل متكتم وغير منظور. حتى لو تم الكشف عن فضيحة من هذا النوع، فعادة ما لا تحظى باهتمام كاف من الرأي العام عكسا لفضائح الفساد السياسي التي يمكن أن ترفع مبيعات الصحف.
في معرض الحديث عن الصحف، لاحظ الكاتبان أنها حوت الكثير من الأخبار والمتابعات لفضائح من أنواع مختلفة تم الكشف عنها اعتبارًا من نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنها ما يتعلق بتحرشات واعتداءات جنسية أو بعلاقات جنسية غير مشروعة يقيمها سياسيون مهمون أو عمليات تمويل غير قانونية لحملات انتخابية.
لاحظ الكاتبان أن السياسيين الذين يتم فضح علاقاتهم خارج إطار الزوجية عادة ما يستقيلون من مناصبهم وحتى من أحزابهم على الرغم من أن إقامة مثل هذه العلاقات لا تخرق القانون، لكنها تضع الضالع فيها في دائرة ضوء مشينة ومخجلة.
فساد لا ينتهي
أما عن قضايا التمويل غير القانوني فيُنبه الكاتبان إلى أن مثل هذه الانتهاكات واردة في اليابان، لأن القيود القانونية المفروضة على المشاركين في الحملات الانتخابية هناك أشد من مثيلاتها في أي مكان في العالم، ثم لأن التنافس بين الأحزاب مرتبط بمستويات فساد عليا في البلاد.
نذكر أخيرًا أن هذا الكتاب لا يسعى إلى عرض مساوىء الأوساط اليابانية وفضائحها، لكنه يرمي إلى شرح هذه الممارسات والظروف التي لازمتها وسهلتها مع عرض كل أنواع الإصلاحات السياسية التي حاولت السيطرة على ممارسات الفساد والقضاء عليها على مدى هذه العقود. يتوصل في النهاية إلى أن أسباب الفساد السياسي في اليابان ونتائجه لا تختلف كثيرًا عن نظيراتها في ديمقراطيات راسخة أخرى في العالم، وأن الفساد في النهاية أمر لا يمكن القضاء عليه قضاءً ناجزًا.
أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن موقع "جاي ستور". الأصل منشور على الرابط:
https://www.jstor.org/stable/10.7591/j.ctt1w0dcqp
التعليقات