بلد أحبه كل من زاره أو عاش فيه
أديبان عالميان دفنا في المغرب تنفيذاً لوصيتهما
"الأجنبي الجميل" شاعر عراقي
رحل في المغرب نتيجة حادث مروري


يختتم الكاتب رحمن خضير عباس، كتابه "المغرب بعيون عراقية" بالقول إن هذا الكتاب هو مجرد تحية مودة إلى المغرب الذي ترفّق بِه وبثلة من أصدقائه وزملائه العراقيين أواخر سبعينيات القرن المنصرم، ومنحهم سقفا هادئا. وكان الكاتب قد أكد في مقدمته للكتاب أنه من الصعب عليه أن يجنّس الكتاب أدبيا، وهل أنه يدخل ضمن أدب الرحلة، أم ضمن أدب المذكرات أو الرواية والقصة، أم الخواطر، ويتركُ أمر ذلك لتقدير القارئ.
ولكننا ونحن ننتهي من قراءة هذا الكتاب الصادر عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية في مدينة فاس المغربية بـ ٢٣٤ صفحة من القطع المتوسط، نجد انه جاء عملا بانورامياً، أضاءت صفحاته انطباعات ومشاهدات جميلة وذكية، مفعمة بمشاعر الود والوفاء، تسنخلص عصارة التجربة الشخصية للمؤلف، الذي عاش في المغرب عقداً من الزمن، امتد من أواخر السبعينات إلى أواخر الثمانينات من القرن المنصرم.
لقد جاء الكتاب غنياً وحافلاً بمواده، التي يصعب التطرق إليها على نحو موسع في موضوع كموضوعنا هذا، ولهذا سنحاول الابتعاد عن التفصيل قدر الإمكان، والاكتفاء بالحديث عن بعض الجوانب المشرقة والبهية عن المغرب. ومع كثرة وتنوع الانطباعات والمشاهدات التي يضمها الكتاب، تبرز أمامنا ملاحظات عن المشهد اليومي للحياة المغربية، ببهائه وعَتمته، بثرائه وفقره. ومع غور المؤلف في المشهد المغربي المتنوع والعميق، نجده يؤكد لنا أن مشاهداته أخذت طابعاً تأملياً، وكأنه يرى المشهد عبر شرفة العمر الذي انفرطت حبّاته، في زوايا هذا العالم المكتظ بالمتناقضات.
لدى حديثه عن المدن التي مر بها، أو قطن فيها لفترة من الزمن، نجد كلماته تلامس روحها ونبضها، ودبيب الحياة فيها. وهكذا يحدثنا عن مدينة مراكش التي يراها عصية على الوصف، ومدينة تارودانت التي تختبئ تحت أسوارها، ومدينة وجدة البهية ذات المساجد والذكريات، ومدينة تازة التاريخ وذكرياته. ثم يتنقل بين مدن فاس والرباط وطنجة وأگادير وشفشاون والعرائش.
وبما أن الحديث عن المدن المغربية، لا يمكن أن يكتمل دون الحديث عن أسوارها، فإن المؤلف يصف لقارئه كيف أن هذه الأسوار تطوّق أعناق المدن كالقلائد، وكأنها مخطوطات نادرة تسجل تاريخ المدن، ويتحدث عن طبيعة ملامحها التي صمدت أمام العصور والأزمنة، و عن الدروب الضيقة والشوارع الفارهة. عن الحداثة والموروث. عن الأزياء التقليدية والأعراف والولائم والحفلات المختلفة. كما يتحدث عن الندوات الادبية والفنية، والمهرجانات الكثيرة التي تحتضنها المدن المغربية.
وإذا كانت الأرض أو المدن لا بد أن ترتبط بالإنسان، كان من الطبيعي أن يؤكد المؤلف حقيقة أن الناس يشكلون نسغ المغرب وجذوره وتاريخه، ثم يتحدث عن الإنسان المغربي، فنانا وقاصا ومُبدعا وشاعرا وعاملا وكادحا. كما يتحدث عن التقاليد و المقاهي المغربية، بوصفها من الظواهر المتميزة في المغرب، ومجالاتها وطاقاتها وحضورها في الحياة الاجتماعية.
وعندما يتحدث المؤلف عن الصالونات الأدبية في المغرب وطبيعتها وتأثيراتها، وبعض ملامح المشهد الثقافي بتوهجاته وانطفاءاته، لم ينس الحديث عن أديبين عالميين كبيرين أحبا المغرب وسكنا فيه ودفنا بين ثراه، أولهما الأديب الفرنسي جان جينيه الذي توفي في باربيس يوم 15 أبريل 1986 عن 67 سنة، وأوصى بأن يدفن في مدينة العرائش مدينته الأبدية التي تضمُّ مثواه الأخير. أما الأديب الثاني فهو القاص والروائي الأمريكي بول بولز الذي عشق طنجة، وعاش فيها منذ عام 1947 وحتى وفاته يوم 18 نوفمبر 1999 عن سن يناهز 88 عاما.
وقد كان المؤلف منصفاً ووفياً، عنما تحدث عن شاعر عراقي رحل في المغرب ودفن في أراضيه، وهو شاعر ترك بصمات شعرية جميلة، وكان حريصاً على أن يكون له صوته الخاص والمتيز، ولكنه لم ينصف حياتياً وشعرياً، لا في حياته ولا بعد مماته. هذا الشاعر هو مصطفى عبد الله، الذي اضطر بسبب مضايقات النظام العراقي السابق إلى الهروب من البصرة أواخر سبعينيات القرن المنصرم، باحثا عن ملاذ آمن في المغرب، وفي مدينة القنيطرة تحديدا.
لقد رحل الشاعر مصطفى عندما كان يستقل سيارة أجرة، مع ركاب آخرين كانت تقلهم من القنيطرة إلى الرباط، وشاء القدر أن تصطدم السيارة بشاحنة، ما أدى إلى وفاة جميع ركابها ومن ضمنهم الشاعر مصطفى.
وكان الشاعر الراحل، قد قال في قصيدة كتبها – قبيل الحادث – وكأنه يهجس موته:
" انا الأجنبيُّ، طويتُ الكتابْ
دخلت الحقيبة منتظرا أنْ يجيءَ القطارْ
انا الأجنبي، عرفت الحدود فرتبت لي وطنا من ورقْ،
إنّه علبة للسجائر
أنا الأجنبي الجميل،
وقفت مع الواقفين،
تزاحمتٰ، لكنني في المكان القليل أميلْ
لتعبر قبلي الحقائب، ويعبر قبلي الزمانْ،
ويعبر قبلي المكانْ
تعلمتُ أنٍ أنتظرْ.
واصنع لي وطنا في جواز السفرْ .."
ملبورن