بقلم علاء جمعة

هنالك شخصيات قل مثيلها تمر بالوجدان الانساني وتترك خلفها في صفحات التاريخ معالم لا يمكن محوها ، وما أن نلم بلقطات صغيرة من حياتهم حتى تراودنا رغبة التمرد الذي لم نمتلك الجرأة يوما قبلها لممارسته، هذا التمرد الذي غالبا مايكون العنصر الحاسم في صناعة ثقافة المجتمعات.... ومن تلك الشخصيات العظيمة الفنان الإنكليزي الأيرلندي المولد والذي لايمكن أن تختصر مسيرة حياته بمعزل عن مسيرته الفنية فكلاهما جموح النزعة الذاتية للتمرد لخلق معنى للحياة والوجود بكل الحواس والادراك المتاح للكون الذي يحيطه …
نعم الفنان فرانسيس بيكون واحد من أهم الرسامين في القرن العشرين, كانت لوحاته الفاضحة لصراخ الباباوات ومشاهد الصلب المخيفة وقطع اللحم المتدلية من الصليب والوجوه الملتوية لأصدقائه وعشاقه تدل على أنه فنان مهووسًا وموهوبًا، عبقريًا عاش حياته من أجل الفن فقط ولم يبال بغير ذلك حتى وفاته عام 1992 وهو في سن الثانية والثمانين .
رغم سعي المتاحف وقاعات الفن وحتى على مستوى الأفراد للحصول على نتاجه الفني، إلا انه وفي كثير من الاحيان كان يتلف اعماله لعدم قناعته بها ..كان يعهد بهذة المهمة لاصحابة ويؤكد عليهم حرقها بعد تقطيعها الى اجزاء صغيرة... واصحابة اغلبهم من اصحاب السوابق والسكيرين والمدمنين." .. كم كنت غبيا احمقا لاقوم بقطعها بالمقص الى اجزاء صغيرة ، او أن احرقها بدلا من احتفظ بها واخادعه بالقول بانني اتلفتها كما شاء هو.."كان هذا حديث احد اصحابه وهو يلعن ويشتم حظه في مقابلة له في احد بارات لندن العتيقة .. لكن احد أعظم أعماله وأكثرها إثارة للحيرة هو الاستوديو الفوضوي الذي شغله لأكثر من ثلاثين عامًا في لندن حتى وفاته والذي ابدع فيه أعظم أعماله الفنية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي..
عندما سأله صحفي عن الفوضى في مرسمه وكانت المرة الاولى التي يدخل فيها صحفي الى مرسمه، قال له بيكون " إنه نوع من مكب النفايات الذي لا يريده أي شخص آخر، لكن يمكنني العمل هنا وسط الفوضى وأشار الى بقع الطلاء على الباب وجدران المرسم وقال أنني أستخدم الجدران والأشياء لمزج الألوان عليها. ثم قال؛ لقد حاولت تنظيف المكان لكنني أعمل بشكل أفضل في الفوضى، لا أستطيع العمل إذا كان الاستوديو أنيقًا سيكون من المستحيل تماما بالنسبة لي,الفوضى بالنسبة لي تولّد المشهد…
هو لم يبالغ في كلامة ولم يصطنع او يتقمص الحالة وهناك أحداث تؤكد على ذلك ... بعد شجار وصراخ مع عشيقه جورج داير ، خرج بيكون من جناحه بالفندق الذي نزلا فيه معاً عشية الاحتفال بافتتاح معرضه الاستعادي الشامل عام 1971 في باريس.. اخذ يتسكع في شوارع المدينة وحاناتها وعاد قبل الافتتاح بساعتين الى الفندق فوجد عشيقه الذي تشاجر معه منتحراً في الحمام، وماذا فعل بيكون؟! ترك الجثة في الحمام واستبدل ملابسه وذهب لحضور الافتتاح واحتفل مع المحتفلين به وسكروعربد وعاد متأخرا الى غرفته...فهل نام قرير العين .. هل سأله لم هذا الانتحار أم عاتبه على توقيت هذا الموت ؟!..هناك أسئلة كثيرة .. لا أحد يعلم كيف كانت ليلتة تلك . إلا ان الكل
يعلم انه لم يُـبلّـغ عن الحادث حتى صباح اليوم التالي، هكذا بهذه الطريقة انتهت تلك العلاقة ..العلاقة التي استمرت لأكثر من عشرين عاما ؟
نعم !انتهت بهذا الشكل الفوضوي مثلما بدأت بشكل فوضوي في احدى الحانات لندن على مراهنة قمار .. كان العشيق جورج داير من اصحاب السوابق..قد خرج للتو من السجن بتهمة السطو المسلح .. لسنوات ظل مشهد تلك الليلة المرعبة يبرز في أعماله .. الفوضى التي كان يبحث عنها ظهرت آثارها لاحقا وانعكست في عدة لوحات رسمها عن تلك الحادثة (الموت في التواليت). وكل اللوحات توثق المشهد من زاوية واحدة لرجل يحتضر ومجال الرؤية باب الحمام مما يؤكد بانه اختزن مشهد الموت في تلك الليلة من على سرير الغرفة, وقد بيعت إحدى تلك اللوحات في مزاد كرستي نيويورك عام 2018 بمبلغ خمسين مليون دولار.
في بداية حياته عملبيكون كمصلح وصباغ للبيوت، ومتذوق طعام ، ومُقامر. فهو لم يبدأ الرسم حتى أواخر العشرينات من عمره مَـثله مَـثل فان كوخ وايضا لم يدرس الفن مثله.. وقد قال عن ذلك إن مسيرته الفنية تأخرت لأنه قضى وقتًا طويلاً في البحث عن المادة التي يمكن أن تحافظ على اهتمامه.

فنان تشكيلي