خرج سالم ذلك الصباح وهو يدمدم - كانت مرارة تعلو سحنته - مزاجه نعناع بمذاق الحنظل وعلى جانب رأسه خصله مغبرة من بقايا شعره تتدلى، كلما أعادها كي تغطي صلعته التي لونتها الشمس تعود متدلية كاشفة عن جرداء مثل شجرة توت جردتها العاصفة.

.. توقف مستفهما وتطلع من حوله .. ماذا يريد .. نعم تذكر..

.. أراد أن يشغل دراجته النارية، ركل عتلة التشغيل بقدمه مرات ومرات وهو يتذمر، كان يتكلم باستمرار كلمات غير مفهومة.. دائمًا يفقد قدرته على النطق بعد أن يفقد أعصابه، وبشكل أخرق عندما دار محرك دراجته قادها بغضب مسرعا..
.. ارتطمت الدراجة بجدار بيت أم خليل وتحطم مقعدها الجانبي (كانت دراجة ذات مقعد جانبي - طَّفْطَافَةُ - بثلاثة عجلات) .

.. هربنا جميعا باتجاهات مختلفة. . تجنبا لركلاته الرعناء..

خرجت سميرة بنت أم خليل تستطلع بعد سماع صوت الارتطام .. نهض سالم وهو ينفض ملابسه وبحركة سريعة قام بتدوير كتفيه كأنه كان يقود محراثا جنحت خيوله..
.. حاول أن يلملم ما تبقى من كبريائه أمام سميرة.

فهو منذ أن عجزعن قول كلمة مرحباً أغلق على نفسه كل الأبواب. . عاقب نفسه خلال فترات شديدة التأتأة مر بها، تقلبات بالنطق رافقته منذ الطفولة ونتيجة لهذا الاضطراب الداخلي تكونت شخصية مرتبكة.. كان الجميع يسخر منه سراً..لان تصرفاته كانت أكثر تأتأة من كلامه، لا أحد يهابه ولم يحظ باحترام حتى إخوته.. تقدم به السن وهو يكافح دون خطة حقيقية.

كان اكبر إخوته الذكور وأراد أن يصبح رب الأسرى ، تخيل نفسه يغلق إحدى عينيه ويمد ذراعه لتوجيه إخوته كما كان يفعل والده الذي الذي مات قبل أكثر من ثلاث سنوات ..
لم يكترث له حتى أصغرهم حيدر ذو الأعوام الستة، كان سالم يحظى بدعم أمه فقط حتى أنه تقمص دور أبوه وأخذ ينادي أمه باسمها ( سميعة).


ذهبت كل محاولات أمه دون جدوى ، كيف لا وهي تطلب منه شيئا هو غير قادر على مجرد التفكير به. .
.." عبالي رجال مثل أبوك "..
هكذا آذن - ويزداد بكائها عبثا ، أصيب بقشعريرة عندما شرحت له أمه خطتها للتخلص من عار حليمة قبل أن يعرف القاصي والداني بخيانتها لزوجها. .

صرخ بأعلى صوته حتى تشنجت رئتيه بعد أن فقد القدرة حتى على التأتأة. .
كيف تلك الفتاة الصغيرة الذي اعتاد أن يلاعبها ويجرها من شعرها. . أرتجف وقال لها .."سسميعة . سميعه. . أنت تـتـتـتـخـبلتي"..؟
.. "هااااي حححلومة " !!
.. حلومة الصغيرة كان يشدها من جدائلها الطويلة كلما مرت من أمامة، لكي يتلقى لكماتها على كتفيه..
كل صباح تتفقد أشيائها التافهة المهمة، قبل أن تدس صندوقها المعدني الصغير بين أكداس مفارش النوم، محذرة الجميع من المساس بالصندوق كلما همت بالخروج للعب.
كانت الذكريات صندوق تخرج من رأسه صورها الواحدة تلو الأخرى..
عندما كان ميؤوسأ من نجاحه في امتحان البكالوريا للصف الثالث المتوسط احتفل الجميع بذلك النجاح .. أعطته حليمة منظارها الصغير الذي جلبه أبوها لها من الحج وكان أغلى ما عندها.. وابتسامة عريضة على فمها..
بعد يومين تشاجرت معه وطالبته بإعادة منظارها ..
.."أني معليه أريد الدربيل مالي هسة ترجع لياه".. !!!
.. كانت نزقة ومحبوبة.. ابتسم وعيناه تتلألأ بدمعه عطوفة.

توسلاته بحليمة لم تجد نفعا، فتح قلبه وكشف لها أسرارا لا توصف.. كانت حليمة تسخر من أسراره.
قالت. . " سلوم تريدني أفاتح سميرة . . سميرة بنت أم خليل ما غيرها ".
يحاول أن يثبت لها بأنه جاد .." هااااي شنو حـحـحـلومة".
استدركت حليمة وقالت له .." لا لا طبعا شبيك قابل ناقص عين لو رجل ". .
فرصتها تريد أن تسحب منه فلوس لتمول احتياجاتها الصغيرة من سجائر وقناني السينالكو. . فهي لم تفكر يوما بأن تفاتح سميرة بالموضوع. . .
كائنات أم سالم الليلية لا تكف عن مداهمتها وأصبح قلبها مثل الزجاج يكاد يتشظى داخل صدرها, بنفاذ صبر كانت تكرر طلبها بغسل عار حليمة على مسمعه في كل مرة تعود لبيتهم بعد أن يطردها زوجها بسبب شكوكه المتزايدة.
أصيب سالم هذه المرة بالهلع من رؤية أخته عائدة بعد أن ارتاح لعدة أيام من ضغط سميعة عليه .. وعندما خرج ذلك الصباح كان يرتجف بعد أن أسمعته أمه ماذا تفعل الرجال في مثل تلك المواقف.
أراد تشغيل دراجته النارية كان فاقد التركيز مشوش الأفكار.. بعد أن ركل بقدمه عتلة التشغيل انتبه أنه نسي أن يفتح مغذي الوقود أسفل المقود..
نهض وهو يقول بعد أن طار وارتطم بالجدار.." لازم أخلص لازم! "
.. توقف عن الهروب من جحيمك .. ظلمة اكتسحته لم يعد خائفا ؟
.. لكن ما زال التردد يمسك لسانه. .هذة هي اذا رحلة التعثر والسقوط...

عندما أكتشف حبه لسميرة, فرض صداقته على خليل شقيقها ، عطف عليه في البداية حتى أخذ ينفر منه بسبب أحاديثه السمجة المملة، صداقتهم انتهت بعد زواج سميرة، ولم يتجرأ بإعادة العلاقة بخليل بعد طلاق طلاقها.
سميرة .. التي نزلت بزقاقنا ببساط السندباد، شغلت شباب الحي حتى خطفها ضابط شاب من عائلة ميسورة سكنت مع أهله في بعقوبة ناحية بهرز بعد الزواج..

حاول سالم أن يقع بالحب مرات عديدة – خيالات وأكاذيب - كان على استعداد لفعل أي شيء لكي يشعر بإنسانيته، في كل مرة يختار واحدة من بنات الجيران لتصبح عشيقته دون علمها, يقضي الليالي بين أروقة محالّ السوق العتيق يشكو من جفائها وعدم اهتمامها به بعد أن يكون قد شرب قدحة الثالث من العرق. .
.." أني أحبك - بس أكرهك ".
هكذا كان سالم يخاطب عشيقاته في تجواله داخل مشاعره أمام قدح العرق ويسرح في عتبه لهن ورفاقه يكتمون ضحكاتهم الساخرة، أما إذا غاب عنهم يقضون سهراتهم بالسخرية منه.. في الحقيقة كانوا مجموعة من النشالين والعاطلين عن العمل وجميعهم أصغر منه سناً والسوق كان ملاذهم الوحيد اثناء النهار. . والذي كان مخصص لبيع الخضار والسمك والدجاج .. من شبه المستحيل السير فيه نهاراً من شدة الزحام ، وبين الحين والآخر يصرخ أحدهم .." حرامي باكوني "..

بين كل هذا هناك الباعة الجوالين بصراخهم المزعج ينادون على بضائعهم...

كنت برفقة أبي ذهبنا لشراء الرقي . . من المهام التي كنت أجبرعليها وأكرهها. . أبي يسير أمامي مثل الملوك التي تتبعهم غلمانهم لا يحمل شيء بيده وأنا أسير خلفه مترنحا يمينا ويسارا من ثقل ما أحمل ..
.. مر أبي بجانب أحد الباعة الجوالين, كان يبيع الليف. . قام هذا البائع وبحركة سريعة من يده حك ظهر أبي عندما أجتازه بليفة خشنة كان يحملها وهو ينادي .." حك ظهرك بيدك محد يفيدك ". .
استدار أبي وقال للبائع .." أنت شبيك مخبل "..
سار البائع ولم يعير لأبي أي اهتمام وهو ينادي .." حك ظهرك بيدك محد يفيدك ".

في كل مساء عندما يحل الظلام يصبح السوق ملاذ السكيرين ومكانا للممارسات المشبوهه. . كانت بقايا قناني الخمر واستفراغ السكارى والمجون الليلي للسهرات عند كل صباح تلاقي شتائم أصحاب المحالّ ولم تنفع العبارات النابية التي كان يكتبونها على جدران محلاتهم مثل التعويذات لإبعادهم.

قالت له أمه عندما كانت تشرح له الخطة التي لم تذكر له من أين أتت بفكرتها..
.." كافي مللتني .. عدل حلكك "..
قال لها وهو يرتعد. . "خرررررب إذا إذا وواحد شاااافني"..

كان يشعر بالهياج والرهبة كيف يسلك هذا الطريق الذي لا رجعة فيه، وإذا اختار المسار الثاني فهو العار حتى يوم القيامة - فكلاهما الجحيم.

. . من أين تأتيه هذه المصائب، هو مشغول بالحرمان الذي يعاني منه .. بلغ الثلاثين ولم يحض بأي علاقة نسائية فهو ما زال يبحث عن سكينة لقلبه الفارغ .

هذا الأبله الذي كان خائفا حتى من النظر بوجه عشيقاته الوهميات. . الأحمق الذي لم يكن يتجرأ على منع حليمة من التدخين، نعم الذي كان يعتبر واحدا من أدلة العهر والفجور في مجتمع قسم المحرمات والموبقات على مزاجه. . هذا الأحمق أصبح يفكر بإنقاذ ماء وجه العائلة. . الأبله الذي لا يخيف أحداً …؟

عليه أن يقتل من لم يشعر يوما بها سوى تلك الطفلة العنيدة.. تلك البنت التي كان همها كيف تقوم بإخافة الأطفال بمقالبها الرعناء.
أراد أن يكون كبيراً لأنه كان يخشى بشدة أن يكون ذلك الأبله بنظر الجميع. وفي الواقع، كان - من نواحٍ عديدة - غير قادر على التفكير كثيرًا فيما وراء نفسه، ومخاوفه، وإحباطاته..
ماذا يفعل حطام الصداقات التي تركها وراءه كانت تؤلمه وأصبح لا يقدر على شيء. .
لا أحد يحترمه، انغمس بعمق في الفعل المشبوه، كانت أفعال مبررة ومفسرة. كان يأمل في أن يعوض شخصيته المفقودة في العبثية التي لا يفهما.
سميعة قد حسمت أمرها بعد التشاور مع حامد شقيقة الأصغر ، لا أحد غيره لطمر العار من بين الإخوة الثلاثة الكبار، لا تريد أن تجازف بخسارة حامد، فلا ضير إذا خسرت هذا الأحمق فهو ليس ذي نفع لها وحتى مرتبه الشهري لا يكفي مصاريف سجائره وزجاجات العرق التي كان يتبرع بشرائها لأصحابه لكسب ودهم في مجونه المسائي، بالإضافة إلى ذلك فهو لا يعيد لها النقود التي كان يستدين منها.