تقديم - إيمان البستاني

تمسّك بجناح الفراشة; و من يمسك بجناحها يعلم علم اليقين بأنه لا الفراشة ستنجو ولا ماسكها … وهذا ما اراد حين اختاره الشاعر العراقي (حمدان الطاهر ) عنواناً لمجموعته الشعرية الصادرة حديثًا من منشورات أتحاد الأدباء ان يختزل فيها سيرة حياة وطن لم يزهر ابداً كالملح وأبتلى طويلًا بحروب عبثية أكلت ابنائه ومن نجا منهم عذبته ذاكرته الكبريتية التي تشتعل يوميًا على مشهد الخسارات.
يفتتح الطاهر المجموعة بتوطئة يقول فيها :( لطول ما تحدثت معه، صار الجدار أخًا) يسقي زهور نصوصه على مدى (٥٢) نصاً شعرياً بأحاسيس انسانية شفافة تدرك في نهايتها إستحالة عودة الاشياء الى صورتها الأولى، الى ذاك النقاء والبساطة وكأن كل وجه قابلته هو باب عليك ان لا تطرقه او تنتظر منه شيئًا، كل نبي يريدك له، كل أله يحذرك، لتكتشف أخيرًا انه ليس بالنار وحدها يحترق الانسان، سنوات كما لو تم قليها في زيت محرّك، مثقلة بإنكسارات النفس وإبهاظ يصيب طبل القلب وبهذا يسجل نفسه كشاهد اثبات على حياة ابسط ما يقال عنها انها سديمة انقضى شبابها بسرعة .
تتكرر حالات استذكاره لشخوص يود ان يزج بها في مجموعته الشعرية دليلًا على حضورها التام في وجدانه وذاكرته، الأم الحاضرة بصورتها الفتية ليس اقلاً منها امرأة في الثلاثين من عمرها في زمن بركات الدرهم وباصات الخشب هكذا يتذكرها وهكذا يريدها هو، وهي التي رحلت عنه مؤخراً لعالم أفضل، ذهبت حافية القدمين الى الجنة، يشبّهها بسمكة بني وهو اعلى درجات الغزل العراقي وصورة الاب القادم من الحلم لا يأت إلا ليغادر ينادي على حصانه الذي مات حزناً حين ارتحلوا الى بغداد.
مشهد الجندي له مساحة من العزاء في المجموعة القصصية بهيئة المضحي الاكبر رافعًا يده بالنصر والاخرى في جيبه محتفظًا برسائل حبيبته، كما لاصدقائه مساحات أكبر حاضرين ملء ذاكرته، يعنّون لكل صديق نص شعري؛ حمودي النشمي والشاعر التونسي صاحب كتاب ( حركات الوردة) عبدالفتاح بن حمودة والقاص والمترجم العراقي صاحب كتاب ( الماكنة تتوقف) عبدالصاحب البطيحي، والشاعر طبيب الأطفال ( افضل فاضل ) وأشهر شعراء قصيدة النثر في العالم العربي ( سركون بولص) والشاعر العراقي المغترب ( صلاح فائق) صاحب قصائد مؤثثة بجمهرة من تماسيح ونمور وسواح آسيويين وقراصنة ثملين في حانات مدن مستحيلة.
حمدان الطاهر، الشاعر الخجول الذي شبع من الفرجة على حفلة الوطن القاصفة يقول عن نفسه انا صبي المعدان يأكل اصابعه حين ينفذ كل شيء وينتظر سمكة تخرج من رأسه لكي يطعم عائلته وهو ابن بار لقرية ونهر وثغاء غنم وجار طيب لنساء يقضين ليلتهن بالأنين حول المواقد، وهو لا يعرف كيف يقرأ في المهرجانات وليس له خبرة تذكر في مغازلة النساء ويحب الشعراء ويستثني منهم من باع قلبه للشيطان وليس له خبرة الحديث مع النقاد الذين يعملون بعد الدوام الرسمي مثل شرطة آداب، لكنه يعرف جيدًا كيف يتغزل بكحلائه ونهرها، يتكررعنده ذكر مدينته الميسانية حيث الحياة بسيطة ومتواضعة غرفة صغيرة ليس فيها الا اقداح الشاي وصورة الأخ البعيد والغرفة مجرد كوخ على نهر.
الطاهر سأم زيف الحاضر في بلد الجميع مسلّحون حتى اسنانهم و سأم رجالات الدين لهم موهبة مشعوذ في التملص وهم يستخدمون كل مدفعية خطبهم كأنها طنين ذباب خطب تعد مثل الأكلات السريعة، يعزف عن كل ما مر من حياته من مسلسل فواجع، لا يطمع في كل ما مر في حياته ويعلنها صراحةً في مجموعته بأنه سيكتفي بقمر وحيد وامرأة وحيدة ولا بأس من بحيرة تحلق فوقها طيور ويخاف جداً من ان الغد سيكون كالأمس