تتميز سينما مجيد مجيدي بمنحاها الوجودي العرفاني الواضح (فيلم " باران"(2001) وفيلم «صبغة الله أو لون الفردوس"(1999) وفيلم «شجرة الصفصاف"(2005) وفيلم «الأب" (1996) ...إلخ).

يجد أبطال مجيد مجدي ،صعوبة كبرى في التصالح مع واقع نفساني أو اجتماعي أو وجودي غير مستساغ وفي مسايرة المقررات الجماعية ،وحصر كينونتهم في التكيف والتلاؤم( رفض مهر الله /حسن صادقي قبول زواج أمه بالشرطي/ محمد كاسبي /توق الطفل محمد /محسن رمضاني إلى الحب في (صبغة الله أو لون الفردوس ).يفرض الاختيار الاكتواء بنيران الحيرة والعزلة والقلق والضياع والمجابهة غير المتكافئة مع الأغيار ،ويستلزم الاستحقاق ،الخروج من الغفلة والانقياد للمقررات الجماعية،واجتياز معابر ومتاهات وجودية.لا ينال الحب (باران ) والحرية ( شجرة الصفصاف ) والتناغم مع العالم والحياة ( صبغة الله أو لون الفردوس )،ولا تقبل الأبوة الموهوبة ( الأب )،إلا بعد تقلب صعب في دروب الأحوال ،ومجابهة ضارية مع المثبطات والعثرات ( العادات المستقرة والنفور من المغايرة والاختلاف( الإعاقة البصرية) في صبغة الله وشجرة الصفصاف )،وإلى الانخراط في مسارات ورحلات داخلية وأسفار وجدانية ومجابهات معقدة مع الذات والراسخ ثقافيا واجتماعيا وعرفيا( يوسف/ برويز برستويي في" شجرة الصفصاف" ولطيف/ حسين عابديني في "باران" مثلا) .

تحفز التبعات الاجتماعية للإعاقة (نظرة المجتمع إلى المعاق وأسرته)، إلى مساءلة الوضع الوجودي للإنسان ومقاربة معنى النقصان والعجز الإنساني، والتماهي بالطبيعة باعتبارها المستودع الأكبر للعلامات والدلالات والإشارات. يتمكن المعاق (الطفل محمد / محسن رمضاني)، من خلال التحسس والانصات العميق لإيقاع الكائنات، من تجاوز محدوديته، وتوسيع مداركه المعرفية، وتعديل وضعه الوجودي.

فيلم" باران" فيلم وجودي بل عرفاني بامتياز. فإذا دافع يوسف/ برويز برستويي في "شجرة الصفصاف " بقوة عن الذات واختيارها الوجودي،فإن لطيف/حسين عابديني ،اختار الذوبان في المحبوب في "بران" ،والفناء فيه.وهكذا أنتقل لطيف / حسين عابديني ، من الغفلة والذهول عن الحقائق إلى اليقظة الوجودية الحاملة على التأمل العميق في الذات والآخر والعالم ،وانتهاج المسار الأكمل والأغنى ،معرفيا ووجوديا.

ثمة مؤشرات وقرائن درامية تحمل متأمل أفلام مجيد مجدي على عدم الاقتصار على المحتوى الدلالي المباشر للسرد الفيلمي، وعلى الانتقال إلى التأويل وإعادة بناء دلالة عليا تتجاوز، محتوى وعمقا وغايات، المستوى الدلالي المعطى في" بادئ الأمر ".

ويقتضي التأويل، البحث في معاني وأبعاد الرموز والكنايات والإشارات والقرائن المقدمة طي السرد الفيلمي. وعليه، فلا يمكن الركون إلى المستوى أو الدلالة الأولى (التركيز مثلا على مشكلات اللاجئين الأفغان بإيران في" باران" مثلا)، بل لا بد من استنطاق الرموز والبحث عن معانيها المضمرة والخفية (الإشارة المتكررة إلى البطاقة الشخصية في فيلم "باران"/الإشارة إلى إصرار النملة في " شجرة الصفصاف")، والتنقيب عن مضمرات الإشارات، والغوص على مدلولات الإحالات. فحيث إن سينما مجيد مجيدي، حبلى بالرموز وبالوضعيات النفسانية –الوجودية المتجاوزة للإطار السوسيو-اجتماعي أو السوسيو-سياسي المحدود والعرضاني، فإنها داعية وقابلة ومنفتحة على التأويل الرمزي.

من الهدر الوجودي إلى التحقق الصعب

يسم "العرفان" وإرادة التحقق تجربة يوسف/ برويز برستويي في " شجرة الصفصاف" بعمق.فلئن مكنه الطب الغربي من تجاوز عماه وغفلته الوجودية وخموله "العرفاني" ،فإنه سينبري لإعادة بناء كل شيء، واستكشاف ما لم يستكشف بعد،والتحرر الكلي من وصابة وسلطة الماضي والآخرين.

لقد اختار التخلي عن الهناءة والطمأنينة المتولدتين عن الغفلة والاتباع والانقياد لإرادة وقرارات الآخرين والانخراط في مسار وجودي عاصف. لم يقبل بأنصاف الحلول والجمع بين حقائق الماضي وإمكانات الحاضر (التمتع بامتيازات الوظيفة والوضع الاجتماعي المريح والارتباط بوسط عائلي بورجوازي متمكن)، بل عمد إلى القطع مع ماضيه بالكلية (إحراق أوراقه وإتلاف وثائقه وصوره والتخلي عن حياته الزوجية الهانئة والتخلي عن التدريس في الجامعة والهيام بالطالبة الفنانة باري/ليلى أوتادي) والتطلع إلى صياغة الحياة صياغة وجودية نابضة بالأصالة والحرية والعنفوان.

وكما في " باران"، لا يكتمل العرفان إلا بالحب العاصف والمستحيل. فهو مفتون ببراءة وتلقائية و جمال وإبداع باري/ليلى اوتادي (دارسة الشعر الصوفي و عاشقة الموسيقى والتصوير )، ومنفصل وجدانيا وعاطفيا ووجوديا عن عالم الزوجة الرتيب(رويا / رويا تيموريان ) والمرتبط بالماضي وذكرياته وعلائقه (فراره الدال من مدرسة المكفوفين ورفضه رعايتها الزائدة له وانزعاجه من ترددها وحيرتها بعد استعادته البصر).

لا ينفصل التحفز هنا عن المكابدة والحيرة والتمزق؛فطريق الحب غير سالكة ،ومسار بناء الذات بعد القطيعة مع الماضي صعب وشائك ،وسلطة الإرادة لا تكفي للتحقق والتثبت.

إن يوسف/ برويز برستويي مسكون بالحياة والحب والحرية والمعرفة والرجاء؛ ولذلك آثر القطيعة والانفصال عن كل ما يؤثث ذاكراته ومتخيله ووعيه سابقا رغم المعاناة النفسية الرهيبة و تضرر الوسط العائلي من قراراته (مرض الأم واحتجاج الزوجة وسفرها رفقة الابنة المحبوبة مريم/مليكا إسلافي إلى كاشان)،والتخلي عن رموز الماضي ( الارتباط العاطفي بشجرة الصفصاف غير المثمرة أصلا).

آثر عالم الرعود والمغامرة والتأمل في أخطاء وخطايا الناس والتخبط في الظلمة،على هناءة حياة اجتماعية تجللها غفلة متجذرة ورتابة تنخر العلائق العائلية والاجتماعية ووجاهة معرفية وأكاديمية زائفة.

إن الحياة المحمية، وجوديا واجتماعيا، جديرة بالمقلدين المفتقرين إلى الأصالة الوجودية وإلى البريق الوجداني. فضل يوسف/ برويز برستويي المكابدة الوجدانية والوجودية الكبرى (الانفصال الوجداني عن الماضي وآثاره وعلائقه وقيمه وحقائقه)،والتطوح في متاهات الحيرة والقلق والمجهول.

وخلافا لمرتضى/رضا ناجي، المطمئن والراضي بوضعه قبل وبعد فقدان البصر والشغوف بشجرة الجوز وثمرها، فإن يوسف/ برويز برستويي ينتقل من حياة الدعة والانقياد والاعتناء بنصوص وحيوات شعراء الصوفية الكبار (علاقة جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي .. ) إلى حياة عاصفة.

إن الامتنان والامتثال للمواضعات المرسخة (العودة إلى حياته العادية) لا يحقق المطلوب ولا يخرج الكائن المترع بالقلق الكياني، من الغفلة ومن التخاذل؛ ولذلك فضل يوسف / برويز برستويي التمرد والبحث والرجاء.ولئن فشل مؤقتا (إصابته بالعمى مجددا)، فإنه لم يفقد الأمل، مطلقا في صياغة حياته صياغة وجودية "عرفانية" أصيلة (الإشارة إلى إصرار النملة على نيل مبتغاها). لا يملك يوسف / برويز برستويي إلا الاقتداء بالنملة المتفانية والمصرة على نيل مطالبها، رغم كل العثرات والحوائل.

(وليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره، على أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف، حتى إنه يتكلف لحمل نوى التمر، وهو لا ينتفع به،وإنما يحمله على حمله الحرص والشره. ويجمع غذاء سنين لو عاش ،ولا يكون عمره أكثر من سنة)1.

الطبيعة في فيلم "شجرة الصفصاف"

لا يكتسب المسار الوجودي - العرفاني كل أبعاده ،إلا متى احتضنه فضاء طبيعي محتدم بالقوى العاصفة( الرياح والرعود والبروق والعواصف).

تؤجج الطبيعة المهتاجة، آلام البطل الدرامي في أعمال مجيد مجيدي ذات المنحى الوجودي -العرفاني الواضح. لا يقاسي هذا البطل أهوال الانسحاق والقهر والضآلة الكيانية فقط، بل يكابد أهوال الانسحاق أمام طبيعة ساحقة،ترج كيانه وتكشف حدوده .( تيه مهر الله/حسن صادقي وزوج أمه/ محمد كاسبي في الصحراء في "الأب" /انسحاق لطيف/حسين عابديني أمام النهر الجارف في "باران"/ تيه يوسف/ برويز برستويي في ليلة ممطرة وعاصفة في" شجرة الصفصاف" ).

توظف الطبيعة في "شجرة الصفصاف" للكشف عن ما يلي:
1- تباين وتعدد أحوال الذات وتراوحها بين الانبساط والانقباض مثل الطبيعة تماما. (هدوء المجرى المائي أثناء لعب يوسف مع بنته مريم/ مليكا إسلافي / استمتاع العائلة بالثلج والسعادة الظاهرة على أفرادها / عنف الطبيعة أثناء تمرد يوسف ورفضه الترضيات والموافقات والتلاؤم مع حياة بورجوازية هانئة وهادئة. ).

2- تأجيج قلق وتيه وتمرد البطل الدرامي (عبث الرياح بكتاباته عن التصوف، وتطوحه في الدروب في ليلة ممطرة بعد تمرده الكلي ورفضه لكل المقترحات والترضيات الاجتماعية)؛

3- الكشف عن عنف الذات من خلال معادل موضوعي دال (إن عنف الطبيعة وجبروتها معادل ومماثل ( الرياح والرعود والبروق والعواصف) للعنف المستعر في دخيلة يوسف/ برويز برستويي .).

وهكذا وظفت الطبيعة في فيلم "شجرة الصفصاف «، توظيفا ثلاثيا ساعد على تأجيج المسار الدرامي وإبراز السمات النفسانية للشخصيات وتفاعلها الصعب والمتشابك في الغالب مع الأحداث. أسندت إلى الطبيعة ثلاث وظائف هي:

1- حاضن للإشارات والرموز والتنبيهات (استحضار دأب النملة على مضاعفة الجهد /التحول والتقلب الدائمان ( الثلج والرياح القوية والمطر المصحوب بالرعود والبروق ).

2- فاعل في مسار الدراما وتتجلى هذه الفاعلية في حمل عناصر الطبيعة في لحظات الاحتدام البطل الدرامي على مجابهة المثبطات والعراقيل وعلى تثبيت قناعاته الوجدانية والوجودية العميقة.

إن الريح كاشفة ،لأعطاب الكينونة وأسرار الآخرين(لقد اكتشفت رويا/ رويا تيموريان حب يوسف/ برويز برستويي لباري/ليلى أوتادي بعد أن عبثت الريح بأوراقه.).كما أن الرعود والبروق المخيفة ،تكشف قوة وعنف يوسف وإصراره الكبير ،على المجابهة وعلى الدفاع عن حقه في الوجود الأصيل ،بعيدا عن رتابة العالم البورجوازي والحياة الأكاديمية(العثور على أسفار المثنوي والرسالة/الخطاب المستقرة في قعر الحوض المائي ).

3- كاشف لحدود البطل ولقدراته.

حضور الإرادة وغياب القدرة

لم يستعد يوسف البصر فقط،بل استعاد وعيه الحاد بذاتيته وفرديته وكينونته. إلا أن بين استعادة الوعي واستكمال شرائط الكينونة الأصيلة ،مساحة من الأوجاع والمكابدات والتمزقات والمفازات.وما كان بإمكان شخص عاش في هناءة السلب مثل يوسف ،أن يتفاعل بإيجابية بناءة مع ممكنات الحياة الملتهبة بالأشواق والآمال والملذات والتجارب القصوى.فهو يملك الإرادة في الانعتاق إلا أنه لا يملك القدرة على الاستهداف ونيل المطالب.ففيما يرفض ماضيه بالكلية ما خلا ذكريات الجو العائلي( مشهد فتح الراديو العائلي وتلمس الأشياء العتيقة وتأمل صورة المحارب القديم )،فإنه لا يعرف ما يصنع بمستقبله ما عدا التطلع إلى أماني الحب والعشق ( محبة الطالبة المثقفة و الموسيقية المبتهجة باري/ليلى أوتادي ).

يتسم مسار يوسف/ برويز برستويي بمفارقة لافتة بين تصميم واضح ورغبة عارمة في التخطي والتجاوز و"مسح طاولة" الماضي ،والتردد والافتقار إلى المبادرة وإلى الإيجابية في الفعل والممارسة.ولذلك يكتفي بالنظر والتفحص والتمني (النظر مليا إلى السارق دون أدنى فعل أو رد فعل في القطار /التطلع مليا إلى شابة جميلة في القطار/النظر إلى طقوس النذر دون تفاعل مع المحتفين به )،والاستغراق في مدارات الذات. والحال أن التحقق، رهين بتجاوز عتبات الذات، والتفاعل مع السوى وامتلاك آلية التأثير والاقناع والإبهار، وتحديد الممكنات والأولويات في كل سياق سياق .

البحث عن الولادة الثالثة

كان يوسف/ برويز برستويي في طور التشكل والتبلور واستكمال ولادته الثانية؛ وقبل أن يستكمل مسار التشكل والتبلور فقد البصر من جديد.

وما كاد يستكمل تشكل وعيه الجديد حتى تجرع مرارة الإخفاق في الحب، وارتطم بجدران القهر العاطفي والوجداني والوجودي. وبما أنه مشبع بالحرية ويريد استكمال تجربته الوجودية القاسية، فإنه يتمرد ويثور (يرفض اقتراحات قريبه دايي/محمود بهرازانيا كليا) ويتطوح ، قاصدا، في متاهات مدينة تسهر على إيقاع الرياح والرعود والبروق والأمطار الغزيرة.

لم يفقد يوسف رغم مأساته وشقائه الذاتي والوجداني الأمل والرجاء، ويتطلع من جديد إلى استعادة البصر وبداية حياة جديدة.

ينوس يوسف في غمرة تيهه بعد فقدانه البصر مرة أخرى بين الخوف والرجاء. ولم يجد السند النفساني، إلا في رسالة /خطاب مخبأة بين صفحات أسفار المثنوي.

(..سمعت أبا علي الروذباري يقول:الخوف ،والرجاء ،هما كجناحي الطائر ،إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ،وإذا نقض أحدهما وقع فيه النقص : وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت)2.

الحب والعشق

كما وجد جلال الدين الرومي الفقيه شيخه العرفاني في الصوفي شمس الدين التبريزي ،فإن يوسف/ برويز برستويي يعبر من مقام إلى مقام ،ويهفو إلى الترقي بمعية باري/ليلى أوتادي .إلا أنه يخفق بعد أن تحقق من ميلها العاطفي إلى شاب فنان.

ولئن اكتفى، قبل شفائه من العمى، بتأمل تجربة جلال الدين الرومي ومفهوماته عن الحب والعشق، فإنه سيتطلع فيما بعد إلى تجارب عشقية ذاتية تستلهم وتستوحي الخيال وتنصت عميقا إلى الجسد وصبواته، وتهفو إلى روابط وعلائق وجودية عميقة وتهاب الاحتراق بلهيب العشق.

(-في البداية ولدت من عشقها، وفي النهاية أعطيتها
قلبي، كالثمرة تولد من غصن ثم تتعلق بذلك
الغصن.
-إني هارب من ظلي، فالنور مختف في الظل،
وكيف يقر له قرار من هو هارب من ظله ؟!
-إن طرف جديلتها لا يفتأ يقول: هيا إلي .. فاللعب
على الجبال سريعا ما يبدأ. ويقول وجهها المضيء
كالشمع: هل من فراشة لتحترق؟!)3

الوعي المبني والأوجاع المستعرة

لقد نقم يوسف/ برويز برستويي بعد نجاح عملية زرع القرنية بفرنسا،على حياته السابقة وعلى ماضيه وأعلن تمرده الكلي عن وجود هلامي تهدر فيه كينونة الإنسان .

إن ذكريات الماضي، توجع وتذكر يوسف/ برويز برستويي بحياة ضائعة في السواد والتبعية والتردد والسلبية والاعتماد على الآخرين (فراره من مدرسة المكفوفين...).

إلا أن استعادة الوعي بالذاتية والكينونة، محفوفة بالمخاطر؛ إذ تفرض مواجهة الذاكرة وإعادة النظر الجذرية في قرارات واختيارات الماضي (الارتباط بالزوجة والاشتغال بالتدريس الجامعي). يولد الوعي المستعاد ،إحساسا حادا بالغرابة ،بغرابة المألوف.

كشف مشهد رؤية الأحباب والأقارب والعائلة لأول مرة بعد العودة من فرنسا،عن الغرابة الملازمة للألفة ،وعن حيرة الذات واغترابها في محضر المألوف.ولئن تعرف بعد تردد على وجه أمه ،فإنه وجد عنتا كبيرا في التعرف على وجه زوجه وأظهرا ميلا تلقائيا إلى الطالبة المبتهجة باري/ ليلى أوتادي.لقد اكتشف أنه رهين ضرورة صماء ،لا تنفذ إليها الحرية إطلاقا.

يرفض يوسف/ برويز برستويي هناءة الماضي المصاغة بالاستكانة والغفلة ومحو الذات ،ويهفو إلى الحب (باري )والحرية والتحرر من رتابة وضعه الاجتماعي والاعتباري القديم ( أستاذ جامعي متخصص في أشعار جلال الدين الرومي والتصوف وزوج مستكين إلى إرادة زوجه).لا يكتفي يوسف/ برويز برستويي بالتطلع إلى حياة ممتلئة ومبتهجة ومترعة بالتجارب والخبرات الحياتية العالية ،بل شرع في التمرد(رفض رعاية الزوجة/ وإحراق كتاباته عن التصوف وجلال الدين الرومي /وإحراق صوره الشخصية ) والرفض( رفض التدريس الجامعي ) والبحث عن تجارب وجودية وخبرات وجدانية(حب باري/ليلى أوتادي الباحثة في التصوف والفنانة الموسيقية وعاشقة التصوير ) تنتشله من ضياعه النفساني واغترابه الوجداني وبؤس حياته في ظل الظلام والتبعية والامتثالية الاجتماعية. وقد كشف مشهد إحراق الأوراق والأبحاث والوثائق والصور، عن رغبة حارقة في نسيان الماضي المؤلم، والتمرد الكلي عن مباهجه الخادعة.

وسيكتشف أن التمرد مكلف،وأن انتهاج نهج التحرر والرفض والبحث عن مسارات وجودية ووجدانية جديدة محفوف بالمخاطر(امتعاض الزوجة من ميوله الخفية إلى باري وهجرتها احتجاجا على سلوكه إلى كاشان/ ومرض الأم بعد تيقنها من ميله إلى الطالبة والباحثة الموسيقية الشابة .)

لا يروم يوسف / برويز برستويي الكمال الوجودي ،بل يروم استكمال شرائط التحقق الوجودي.وفيما ينهض الكمال الوجودي،على مقومات عرفانية صميمة ،فإن التحقق الوجودي ،يقوم ،جوهريا ، على كثافة الوجود وقوة العلائق والاحتكام إلى الخبرات الذاتية في النظر والتقويم والتصور.وفيما ينصرف الإنسان العارف إلى تشكيل ذاته خارج التاريخ وتفاصيله النثرية ،فإن يوسف / برويز برستويي،يتوق إلى إعادة تشكيل كينونته وبناء تاريخه الخاص .إنه يسعى إلى امتلاء ،لا يفقده كثافته الوجودية ،وعمقه الإنساني .ولذلك فهو النقيض المعلن ،للإنسان العارف /الواصل كما حدده محمد المصباحي .

(ومن زاوية الإنسان العارف/الواصل، ترى ألا يمكن القول إن تحقيق كماله الأقصى قد تم على حساب وجوده بما هو إنسان، أي بما هو كائن حر ومتناه ،غير قابل للامتلاء والملاء معا؛فتكون حصيلة الاتصال بالعقل المتعالي تشكل إنسان بدون تاريخ ،عار من العلاقات ،بعيد عن الاختلاف)4.

الرضا والرجاء في مساري يوسف ومرتضى

ارتبط يوسف أثناء رحلته العلاجية بصداقة مع مرتضى /رضا ناجي، المبتهج والمهدد بفقدان البصر،عاجلا أم آجلا بسبب شظية قديمة في رأسه.

إن مرتضى/ رضا ناجي الراضي بقدره، هو النقيض التام ليوسف/ برويز برستويي الباحث عن ذاته وفرادته وحريته واستقلاله.

وفيما يهيم يوسف/ برويز برستويي في الحيرة والتيه ويبحث عن ولادة جديدة مستعصية، يركن مرتضى/ رضا ناجي، رغم عماه إلى الرضا والهناءة والطمأنينة القلبية.

(سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول:ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء ،إنما الرضا : أن لا تعترض على الحكم والقضاء)5.

وفيما ينشد يوسف/ برويز برستويي إلى شجرة الصفصاف لاعتبارات عاطفية وجمالية بالإجمال، فإن مرتضى/ رضا ناجي مرتبط عاطفيا قبل إصابته بالعمى، بشجرة الجوز المثمرة. ومهما اختلفت توجهاتهما واختياراتهما الوجودية فإنهما يتمتعان بمباهج الصداقة الشفافة، القائمة على الاحتفاء بالذات والآخر.

الموسيقى وتعبيرية الأداء

لم يوظف مجيد مجيدي الموسيقى العرفانية الإيرانية التقليدية الملائمة مبدئيا لدراما تحيل غير ما مرة إلى عوالم الشعر العرفاني وإلى شعر جلال الدين الرومي وعلاقته بشمس الدين التبريزي، بل وظف موسيقى تعبيرية درامية ترصد برهافة صخب الوجدان وعنفوان ذات متألمة من فرط القهر النفساني والانسحاق الوجودي. ينشغل الأداء الموسيقى التعبيري في "شجرة الضفصاف"، بالكشف عن درامية الموقف وعن اختلال توازن الذات في محضر أسئلة الكينونة وتطلعات ذات نهمة إلى التحقق والامتلاء الكياني، وتوقها رغم أوجاع ومرارات الانقطاع عن السوي إلى ولادة إنسانية جديدة.

تركيب

تستدعي أفلام مجيد مجيدي، التأويل بالنظر ما تحفل به من رموز وإشارات واستعارات.

وبما أن الإشكال المعروض في "شجرة الصفصاف "، إشكال نفساني –وجودي في المقام الأول، فإن مساحة الترميز والايحاءات والإشارات ستكون كبيرة. خلافا لكريم /رضا ناجي في "أغنية العصافير "أو" زقزقة العصافير " (2008)، فإن يوسف/ برويز برستويي،لا يكابد الفقر والفوارق الطبقية ، بل يكابد اغترابه الوجودي الناتج عن عزلة نفسانية واجتماعية خانقة بسبب الإعاقة البصرية والامتثال الكلي للمعايير الجماعية .وما إن أستعاد بصره ،حتى انبرى لمراجعة جذرية لمساره الحياتي ،واستغرق في الإعداد لولادة جديدة ؛إلا أن آماله لم تتحقق ،غب إصابته مجددا بالعمى .

هوامش
1كمال الدين الدميري، حياة الحيوان الكبرى، وضع حواشيه وقدم له احمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 2003، الجزء الثاني، ص 498
2 أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة 2019، الجزء الأول، ص 260
3 جلال الدين الرومي، مختارات من ديوان شمس الدين تبريزي، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية 2009، الجزءالأول، ص 14
4 محمد المصباحي، من المعرفة إلى العقل – بحوث في نظرية العقل عند العربي، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1990، ص 137
5 أبو القاسم القشيري، المرجع السابق، الجزء الثاني،ص 342