يزخر فيلم "زقزقة العصافير-2008" للمخرج مجيد مجيدي، بجماليات بصرية وشاعرية إيحائية ورهافة موسيقية ورمزية تعبيرية، كاشفة عن قدرة الذات على التجدد واستعادة الصفاء الذهني والأخلاقي، والتذاهن مع العالم والكون والابتعاد عن الفردانية المغالية والتحديث المفرط.

I-المسار السردي للفيلم:
مر المسار السردي لفيلم "زقزقة العصافير" بثلاث مراحل رئيسية:
-مرحلة العمل في مزرعة لتربية النعام والبحث عن النعامة الهاربة:
لا ينشغل كريم/ رضا ناجي، في هذا الطور، إلا بنثريات العيش في قرية متضامنة وأسرة متراصة ومتحابة، وبالعناية بالنعام في مزرعة. وفيما يستغرق في عالم النعام، الحابل بالأعاجيب، تفقد ابنته المصابة بالصمم، جهاز الاستماع الخاص بها حين تعاين رفقة أطفال القرية خزانا مائيا مهجورا. وقد اكتشف، تعطل الجهاز بعد استخراجه من وحل الخزان، مما اضطره إلى البحث عن طرق إصلاحه.
وقد تم تسريح كريم / رضا ناجي من عمله في المزرعة، بعد هروب نعامة، واختبائها في البراري المجاورة للمزرعة.
ويتفنن كريم / رضا ناجي في التحيل وتنويع وسائل البحث عن النعامة الهاربة؛ وقد تنكر في هيئة نعامة، لعله ينال المطلوب، إلا أنه لم يظفر بطائل.
يتحرك كريم/ رضا ناجي في هذا الفاصل، بدافع تجاوز الفقدان الثلاثي: فقدان ابنته هنية/ شبنم أخلاقي، جهاز سمعها، وفقدانه عمله بعد خطإ مهني غير مقصود، وفقدان النعامة.
-مرحلة العمل بطهران والإصابة بكسر وجروح؛
وفيما ينشغل بإيجاد حل للجهاز التالف، يكتشف –مصادفة-إمكان احتراف نقل الناس والبضائع عبر دراجته النارية. ويمكنه الاحتكاك، برجال الأعمال والفنيين والسائقين والتجار بخاصة، من التعرف على حقائق اجتماعية وممارسات وسلوكيات منافية للمعهود في العالم القروي (التحايل والكذب والتوتر والأنانية والرياء والتنافس والفردانية المغالية). ولم يفلح رغم استمساكه بمعاييره القيمية، في اجتناب فتنة التملك والرغبة في التميز والأثرة والتخلي نسبيا عن الغيرية والقيم الإيثارية. وبينما أخذ في مراكمة المتلاشيات، وحرمان أقرانه وأقربائه ونظرائه، من الاستفادة منها، طبقا لقواعد التواهب، فإنه أصيب بكسر أقعده عن العمل، فاكتشف مجددا رونق وبهاء قيم التضامن والتساند(عمل ابنه حسين/ حامد أغازي في مزرعة وامتهان زوجته نرجس الخياطة ومساعدة قريبه عباس/ كامران دهقان له معنويا وماديا) والإيثار والعمل الجماعي.
-مرحلة التشافي والتجاوب مع مطامح وآمال الأطفال.
يستعيد كريم عافيته الإنسانية والوجودية أثناء النقاهة وتفاعله الوجودي مع الكائنات (العصفور المحاصر والنعام) والعائلة والأقران (إفراغ المنزل من المتلاشيات المتراكمة/ المشاركة في إعداد الخضر والورود) وتفهمه العميق رجاء وأمل حسين وأصدقائه بخاصة (تربية الأسماك الذهبية بقصد الاغتناء).

II -الفضاءات الثلاثة وإيحاءاتها:
يقيم كريم/ رضا ناجي بقرية، هادئة ومستكينة لحقائقها التداولية وللهناءة الناتجة عن التجاوب مع دورة الفصول واحترام النظم الثقافية المتوارثة. إلا أنه يتأثر بفضاءين متناقضين، من حيث السمات والخصائص والمؤثرات والإيحاءات الوجدانية والوجودية المرتبطة بهما في الوجدان الجمعي، وهما فضاء الصحراء وفضاء المدينة/ طهران.

-فضاء الصحراء:
يرتبط كريم ارتباطا وجدانيا عميقا بالبرية الجرداء، وينغمس في عوالمها كلما استعاد ذكرى هروب النعامة، أوعثر أوصادف أثرا دالا على وجودها في ذلك الفضاء القصي (البيض أوالريش). لقد بحث جادا عن النعامة الهاربة، وفتش طويلا في أنحاء البرية، وتفنن في إبداع طرق البحث(تقمص هيئة نعامة)، وتتبع الآثار والعلامات (الريش والبيضة الفاسدة)، إلا أنه لم يظفر بشيء. فهومفتون بنداءات هذا الفضاء، وبإيحاءاته الوجودية، مما أثر في سلوكه ومواقفه ونظرته إلى الأشياء والناس والعلائق.
تحيل الصحراء بفضائها القاحل والماحل والموحش، إلى صفاء الموارد والمنابع وبهاء القيم الأصلية، ووضوح المعايير الأخلاقية وبساطة قواعد التقييم.
وحين يتحرر من وعود المدينة/ طهران ويتماهى مجددا مع الوعد الثقافي-الأنثروبولوجي القديم، فإنه سيعود، عن طريق الحدس أوالرؤيا إلى الصحراء، ليتأمل بكثير من الروية والتيقظ الوجودي والابتهاج، سرب النعام ورقصة نعامة منفردة.

-فضاء القرية:
ينخرط كريم في نثريات الحياة الريفية، وينعم بدفء العلائق الإنسانية في فضاء القرية (علاقته الطيبة بقريبه عباس/ كامران دهقان )، ويتودد إلى الجيران والمعارف (توزيع العجة المصنوعة من بيض النعامة على المعارف/ الثقة في رمضان ). إلا أنه لم يسلم من النزوع إلى التميز والتمايز (مقارنة لاقطه الهوائي بلواقط الجيران)، وخرق شروط اللباقة ( استعادة الباب الأزرق دون احترام مشاعر الزوجة وقواعد الهبة والتواهب في الوسط القروي )، والرغبة في التملك (مراكمة المتلاشيات دون تقاسمها مع الجيران).
ولئن افتتن –جزئيا –بعوالم المدينة وقيمها ومعاييرها (التملك والأثرة والمساومة والأنانية)، فإنه سرعان ما استعاد وعيه السابق، بعد إصابته بكسر وجروح، واستغراقه أثناء التشافي والنقاهة في تأمل السلوكيات التضامنية والتساندية والإيثارية (إخراج المتلاشيات من المنزل/ عمل حسين / حامد أغازي في مزرعة/ مساعدات عباس/ كامران دهقان للعائلة/ مشاركة الأطفال والنساء في إعداد الورود والخضر / دعم الأقارب النفساني والمعنوي/ تضامن وتعاون الأطفال على تنظيف الخزان وإيجاد الأسماك الذهبية).

-فضاء المدينة/ طهران:
اكتشف كريم/ رضا ناجي، مصادفة، إمكان ممارسة عمل مريح ومربح-نسبيا- بطهران:نقل السكان والبضائع بدرجاته النارية. وفيما يتمرس بهذا النشاط، فإنه يكتشف تعقيد الفضاء المديني، وتنوع سمات وخصائص وتركيبة ساكنيه، وتناقض استجاباتهم(استغراق رجال الأعمال والفنيين والتجار في أعمالهم وقلة احتفالهم بكريم/ التوتر والاستعجال / التريث واحترام أداء الطقوس/ التنافس الشرس بين السائقين/ الاكتظاظ والازدحام والاختناقات المرورية / بيروقراطية الإدارة وعدم التجاوب الفعلي مع مطلب طبي مستعجل ) وتفاعلاتهم(الصدق-الرياء / التحايل -الأمانة / الاحترام –الاحتقار) واختلاف مظاهرهم ومواقعهم الطبقية (الرفاه والغنى والإفراط في الكماليات والتوسع في البناء من جهة وعمل الأطفال ونقل البضائع في ظروف غير آمنة من جهة أخرى). ومهما تمسك بموروثه الثقافي وقيمه التداولية والإيثارية، فإنه لم يسلم من التأثر –في معرض تلهفه على التميز على الأقران والنظراء –ببعض السلوكيات الأنانية(الرغبة في التملك وتكديس المتلاشيات / عدم مراعاة مشاعر الغير/ محاولة استرضاء الزوجة المتألمة-نرجس/ مريم أكبري بادعاء استحكام الأنانية في النفوس / تفضيل التملك والتكديس على التواصل الإنساني والعلائق الإيثارية / التردد والتملص في النهائية من نفح الطفلة حاملة مجمر البخور بالنقود). وكاد يتنكر –في لحظة ارتباك نفسانية وأخلاقية –لموروثه الأخلاقي (بيع ثلاجة حال حصول عطب مفاجئ في دراجته النارية دون إيصالها إلى المكان المطلوب)، لولم يسعفه سرب من النعام المطل من شاحنة، بعون أخلاقي.

إن الفضاء المديني، مباين كليا، لفضاء الصحراء ولفضاء القرية ؛فهودينامي ونشيط بما يوفره من أنشطة (تجارية وعمرانية وخدماتية ) وما يحفل به من معاملات ومبادلات مزدهرة في سياق عولمي (سلع يابانية وكورية وماليزية. . إلخ. . . )؛إلا أنه يولد الغربة(غربة كريم/ رضا ناجي واستغرابه من الرياء: ادعاء التواجد في مشهد قرب مرقد الإمام علي بن موسي الرضا ) والاغتراب (الاستغراق في الأشياء واللهاث وراء المصالح والذهول عن إيقاع الفصول والزمان ) والهدر الوجودي(العجز عن التواصل مع الآخر وفهم مطالبه واحترام كرامته/ الرياء والنفاق بهدف الحصول على خدمات خاصة / عدم استشارة كريم واعتباره سائقا دون الإنصات إلى رد فعله/ الإرتهان بالآليات والوسائط رغم تواتر أعطابها(السيارات والدراجات ) ونسيان كينونة الإنسان) والإحساس الحارق بالهشاشة والعابرية (إشارة الزوجة نرجس/ مريم أكبري إلى أفضلية العمل القار وإشارتها إلى المخاطر المحتملة مثل حصول عطل ممكن في الدراجة النارية).

لقد اغتر كريم/ رضا ناجي بوعود المدينة (إمكان الحصول على مردود مالي أفضل / الاستفادة من الخردة والمتلاشيات / تنوع الأنشطة التجارية والخدماتية ). إلا أنه سيكتشف بعد إصابته بكسر وجروح، غب سقوطه وسط تلك الخردوات والمتروكات، وتفاعله الوجداني العميق مع نبض الأحياء (العصفور المحاصر في الغرفة المغلقة) والحياة(التعاون والتساند والتعاضد بين سكان القرية/ التعاون بين الأطفال من أجل تنظيف الخزان المائي/ إصرار الأطفال على إنقاذ الأسماك من النقوق بعد تشقق البرميل وسقوطه أرضا / الإتيان بسمكة وحيدة / تفاني ابنه حسين في العمل في المزرعة وفي الإيمان بمشروعه:الاغتناء عن طريق بيع الأسماك الذهبية).

ويمتاز فضاء الصحراء بشاعرية وإيحائية عاليتين بالقياس إلى شاعرية وإيحائية القرية، لارتباط فضاء الصحراء، كما قدم هنا، بالمجهول والمقدس والأسرار المستعصية على ذهن وعقل المتدبر. كما يتفرد فضاء القرية، بسمات، تميزه عن فضاء المدينة، الطافح بالاكتظاظ والازدحام والفوارق الطبقية والانشغال بالكسب وتفشي التوتر والقلق والاغتراب. وبينما يفحص كريم / رضا ناجي العلامات والآثار لعله يصل إلى السر المستغلق في البرية، ويستقصي أمارات التآلف والتواهب في القرية بعد إصابته بكسر بخاصة، فإنه ينشغل طيلة وجوده بالمدينة بالكسب والتملك والتكيف مع وضعيات ثقافية –اجتماعية لم يألفها(التعامل مع رجال أعمال وفنيين وتجار متطلبين في الغالب). لا يسمح فضاء المدينة، بالتحقق والتحري عن الألفة والحميمية والتشخصن، ولذلك فهو فضاء مولد للاغتراب بامتياز.

III -الرموز والتذاهن والتجذر الوجودي.

لا يستغرق كريم في نثريات الواقع ومرارات العيش وتدبير علائقه بالآخرين فقط، بل ينغمس كلما جد جديد، في الدهشة والتأمل والذهول. يضطر إلى إيقاف الفعل ومواصلة المسير في درب الكسب والكدح والتحيل، والنظر مليا إلى أخلاقية الفعل (محاولة بيع ثلاجة كلف بإيصالها إلى وجهة محددة )وغائية المسعى(إصرار العصفور على الحرية ) ومعنى العلامة( دلالة ريش النعامة وتواتر العثور على بيضها في أماكن متفرقة) ورمزية الإنجاز(تنظيف الخزان المائي والحصول على الأسماك/ السمكة الذهبية رغم كل الصعوبات والعراقيل).
ينفتح السرد الفيلمي، هنا، على المجازات والرموز، ويطل على مستويات وجودية وعرفانية عليا، لا يمكن استكشاف عوالمها، دون تدبر دور الحدس والرؤيا وشاعرية العلائق في بناء وصوغ المعنى وتأثيث متخيل الباحث عن التجذر الوجودي.

رمز النعامة:
ينخرط كريم/ رضا ناجي في حالة يقظة وجودية وذهول وجداني، كلما عثر على أثر أوسمع خبرا عن النعامة الهاربة. إن النعامة هنا، بمثابة منبه أخلاقي –وجودي، يوقظ كريم من خدر التملك والكسب والاعتزاز المفرط بالذات والتعالي على الأغيار.
تستحث آثار أوعلامات النعامة، كريم / رضا ناجي على إنعام النظر في الأشياء، والتفكير في نهجه وسلوكه بروية، والالتزام بموجبات الأخلاق. ولذلك يمتنع عن بيع الثلاجة في السوق السوداء، بعد رؤية مفاجئة، لقطيع النعام المحمول على شاحنة. إن النعامة مرتبطة في وجدانه ومتخيله، بالبرية، وصفائها الروحي وارتباط عوالمها بالقضايا الإنسانية الجوهرية.
ولئن ارتبطت النعامة في المتخيل الجماعي بالحمق والغباء والشرود والنفار والجبن، فإن النعامة تتفرد-"في زقزقة العصافير" لا بالقوة والذكاء فقط، بل ترتفع إلى مرتبة الرمز المنبه والمحفز على التريث والتيقظ والتفكير اليقظ في الأشياء. ومن اللافت للنظر، قوة الانزياح المحدث هنا، بالقياس إلى التصورات التراثية حول النعام أوالظليم.
(وأما قوله:"وأرفع صوتي للنعام"فإنما خص بذلك النعام لأنها تجمع الشرود والنفار، إلى الموق وسوء الفهم. . . . . ) -1-
يحدث مجيد مجيدي، ، تحويلا دلاليا شاملا، في توظيف رمز النعامة في كل مفاصل الفيلم، في سياق حرصه على إعادة بناء التصورات التراثية وإعادة صياغة الرموز. إن النعامة هنا، هي رمز النباهة والحذق والبراعة في المناورة والتخفي والتأقلم. ومن الطبيعي، أن يتطلب الترميز الجديد، الانزياح عن المسبقات والتصورات التراثية الراسخة في هذا السياق.
(ومن حمقها أنها إذا أدركها القناص أدخلت رأسها في كثيب رمل، تقدر أنها قد استخفت منه، وهي قوية الصبر على ترك الماء، وأشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، وكلما اشتد عصوفها، كانت أشد عدوا. . . ) -2-
ترمز النعامة هنا، إلى ما يتعالى على الحدث المحايث، وينفتح على مدارات ودوائر وجودية وفكرية سامية وبهية. وتساعد نظرات وهيئات كريم/ رضا ناجي، وانسيابية وإيحائية النغمات والإيقاعات، أثناء تأمل النعام وسلوكها-عامة - واستجلاء معنى آثار النعامة الهاربة –خاصة-، على إبراز قوة الرمز، وحمل المشاهد على التدقيق في نتوءات السرد الدرامي، وتدبر معاني إشاراته وآفاقها الوجودية.

رمز العصفور:
يساعد كريم / رضا ناجي، المقعد بسب المرض، العصفور المحاصر في الغرفة المغلقة على التحليق في الفضاء الواسع. لقد أدرك كريم / رضا ناجي، قيمة الحرية وفداحة الأسر الفيزيولوجي والنفساني والاجتماعي، ولذلك بادر، إلى مساعدة العصفور على استعادة حريته.
(. . . فإذا أصيبت بأولادها، أوخافت عليها العطب، فليس بين شيء من الأجناس من المساعدة، مثل الذي مع العصافير، لأن العصفور يرى الحية قد أقبلت نحوحجره وعشه ووكره، لتأكل بيضه أوفراخه، فيصيح ويرنق فلا يسمع صوته عصفور إلا أقبل إليه وصنع مثل صنيعه، بتحرق ولوعة، وقلق، واستغاثة وصراخ. . . ) -3-
وإذا كانت النعامة، معروفة بالنفار والوحشة، فإن العصفور مرتبط في المتخيل الجمعي بالألفة والحميمية.
(العصفور:السرعة، الحنان، المجنح، الخيال المنفلت، السامي، التحقق، الطيران، الارتفاع، الحب، العاطفة. . . ) -4-
يتكامل رمز النعامة ورمز العصفور، إذ يحيلان، في العمق، إلى إمكان التجدد والتحقق واستعادة الوعي الوجودي الضائع في لجة البحث عن المكاسب وإثبات الذات في عالم تكتسحه الفردانية وقيم العولمة والتسليع.

رمز السمكة:
لقد تمكن حسين/ حامد أغازي ورفاقه من تنظيف الخزان المائي الموحل، والحصول على الأسماك الذهبية، رغم صعوبة إقناع كريم / رضا ناجي الرافض للفكرة، وفقدان كمية كبيرة من الأسماك المحصل عليها بسبب تشقق البرميل.
ترمز السمكة إلى التجدد والانبعاث واستعادة مقومات الوجود والكينونة.
لقد تمكن الأطفال من تنظيف الخزان المائي المهمل وإعداده وتجهيزه، لتوفير مقومات الحياة للكائنات المحبوبة: (العصافير والحمام والأسماك / السمكة). وقد تملك الاندهاش المصحوب بالامتلاء الوجودي كريم/ رضا ناجي، وهويعاين مدخل الخزان الشبيه بكهف ومنظر الحمامة الطائرة والماء العذب. وكما يستعيد الخزان وظائفه بفضل حلم وإصرار الأطفال، فإن كريم/ رضا ناجي يتجدد، شعوريا ووجوديا، بتأمل عميق لمعنى تحويل مكان مقفر ومهمل (مكان موحل وعفن )إلى مكان حاضن للحياة وباعث على البهجة والدهشة. إن إمكان التجدد الوجودي قائم، طالما توافرت العزيمة والإرادة والقدرة والإصرار على الفعل.
(في الكرامات الصوفية، أوفي الإناسة العربية الإسلامية بشتى قطاعاتها (وشم، قصص شعبية شفهية، حدوثات، صور أوتصاوير فولكلورية، إلخ)، يكون السمك في علاقة رمزية مع الحياة، والتجدد؛ولا سيما مع الانبعاث (را: الحوت كرمز للحياة )، ومع الماء (را: رموز الماء؛ فهي توازي رموز السمك. ) -5-
يستعين مجيد مجيدي، كالعادة بالرموز والإشارات والاستعارات، من أجل إحداث النقلات الدلالية، والإطلالة على دوائر العرفان، واستدعاء المخزون القابع في الوجدان والمتخيل الجمعي. تتمثل قوة الرمز في قدرته:على استدعاء المعاني المخزنة في الذاكرات(الخزان المائي الحاضن للحياة/ رمزية الماء ودلالات الخرير )، والإيحاءات المطمورة في قيعان المتخيل(الإنصات إلى نداءات الكائنات )، وعلى تحرير الحدث من أسر المحايثة والسكون(كدح كريم/ رضا ناجي وتحيله في العيش في وضع هش اجتماعيا واقتصاديا)، وعلى استشراف الغائب والمحتمل والممتلئ، دلالة ومعنى ووجودا(الاقتناع بإمكان التجدد واستئناف المسير وتحقيق الكينونة الممتلئة والانفتاح على الكوني. ).
(. . لا يصيّر الرمز العالم فضاء "مفتوحا" فقط، بل يساعد الإنسان الديني كذلك على بلوغ الكوني. فبفضل الرموز، يخرج الانسان من وضعه الخاص، وينفتح على الشمولي والكوني. توقظ الرموز التجربة الفردية وتحولها إلى فعل روحي، وتدبر ميتافزيقي للعالم. )-6-

IV- النظر والتحقق ورصد الفواصل الدلالية:

لا يكتفي كريم/ رضا ناجي، بالمسايرة أوالاستغراق في كثافة اليومي ورتابة العلائق ؛تمكنه الاكتشافات والمعاينات والمشاهدات، من الانتقال من كثافة العيش، إلى لطافة الوجود، من بادئ الرأي إلى" الفكر" الحكيم، من الفعل الفردي الناطق بهواجس الذات إلى الفعل الجماعي، الزاخر بحميمية المشاركة والتعاضد والتجديد والتجدد.
ومن اللافت للنظر، أنه لا يطيل التحديق والتأمل والتفكير، إلا متى صادف أثرا ذا صلة بالرمز، ويكتفي بالسمع والاستغراب كلما صادف مستغربات أومفارقات أوتناقضات (المراء والكذب والادعاء والتحايل).
ولذلك تتملك كريم/ رضا ناجي، لحظات اندهاش وذهول وتيقظ، كلما اكتشف أثرا أوعلامة أوعاين حدثا أوشهد واقعة.

الاكتشاف:
تتملك الدهشة كريم / رضا ناجي حين اكتشف ريش النعامة والبيضة المكسورة الفاسدة في البرية. ويظهر كثيرا من التيقظ-وهومقعد ومصاب بجروح وكسر-حين أخبرته ابنته الصغرى، بعثور السيدة كبرة على بيضة نعامة خلف منزلها. ويستغرق في التفكير والحلم، حين أخبره زميله السابق في العمل رمضان، بعودة النعامة الهاربة إلى المزرعة. وتستثير هذه العودة المرغوبة، نوازع الرضا في نفسه، وتحمله على النظر المشحون بالرؤيا إلى آفاق وجودية بعيدة. فقد عاين حدسا، عرض سرب النعام ورقصة النعامة، الدالين على إمكان استكمال التحقق والتجدد الوجوديين.

المعاينة:
وتتملكه الدهشة المشبعة بالاستغراب، لما عاين سربا من النعام، المحمول على ظهر شاحنة. كما تملكته الدهشة المصحوبة بالإعجاب، لما عاين المجهود المبذول من أجل تنظيف الخزان المائي، وتحويله إلى فضاء حاضن للحياة. فهولا يعاين حقيقة إمبيريقية (تنظيف الخزان وتجهيزه)فقط، بل يعاين، إمكان التجدد الوجودي، واستعادة عنفوان وزخم الحياة(أنسنة الخزان وعودة العصافير للتفريخ فيه)، وسط عالم تطبعه القحولة، معرفة ووجودا وتطلعات.

المشاهدة:
وينخرط في لحظات تفكير وتأمل وحيرة وتحفز، حين شاهد، وهويبحث عن الشاي الأخضر، بيضة نعامة، في دكان. وبينما يفتش كريم/ رضا ناجي، عن إزالة حجاب الاستغلاق عن الأثر/ الدليل/ الرمز، فإن البائع يعتبر بيضة النعامة مجرد أداة للزينة.

V- جمالية اللغة السينمائية:

وظف مجيد مجيدي لغة سينمائية مكثفة وموحية وشاعرية في فيلم "زقزقة العصافير". والحقيقة أن الرمزية والشاعرية البصرية، تتلاقيان لنسج دلالات، تنقل قوتها المشاهد من دوائر المعلن والمحكي إلى دوائر المضمر والمضمن أي إلى عوالم الرمز والمعنى ؛فمهما كانت قوة المجاز وبراعة التشخيص، وصرامة السيناريووتناسقه، فلا يمكن ضمان تحقيق منجز سينمائي مقنع بحق، دون لغة سينمائية متدفقة وغنية وعضوية.

وتسهم جماليات كثير من المشاهد القوية والكاشفة عن المخبوء أوالمضمر، في إبراز إيحائيتها ورمزيتها (رزوح كريم/ رضا ناجي تحت ثقل الباب الأزرق وارتهانه به / البحث عن النعامة الهاربة أو السر المستغلق في المرتفع/ الانبهار بمرأى الخزان الشبيه بالكهف / إنقاذ الأسماك برميها في الحوض المائي بعد تشقق وسقوط البرميل) . ولا تتحقق رمزية الفيلم، إذن، من خلال السرد الدرامي وهيئات ومواقف وحوار الشخصيات الدرامية فقط، بل كذلك من خلال شاعرية وإيحائية كثير من المشاهد(مشهد معاينة مدخل الخزان المائي / مشهد التنكر في هيئة نعامة في المرتفع/ مشهد حمل الباب الأزرق/ مشهد رمي الأسماك في الحوض المائي / مشهد الحلم بسرب النعام ورقصة النعامة).

يمكن فضاء الصحراء والقرية من التقاط جماليات، كاشفة عن أبعاد وجودية كثيرة ؛فهما فضاءان مترعان بالتفاعل الثري والغني بين الإنسان والطبيعة-الكون والغائب (مشهد الانبهار بالخزان المائي الحاضن لكل شروط الحياة –الماء والعصافير والضوء/ عجز عمال المزرعة عن القبض على النعامة النافرة / الهاربة/ عجز كريم عن الوصول إلى النعامة رغم تواتر الآثار الدالة على وجودها في محيطه )، ويستدعيان باستمرار سؤال المعنى الوجودي من جهة وإشكالية المعيار الأخلاقي الضروري لحماية الذات من التفكك الوجودي وإنصاف الآخرين من جهة أخرى(الامتناع عن بيع ثلاجة ليست في ملكيته في السوق السوداء).

وثمة مشاهد استوفت، شرائط الرمز والشاعرية؛ نذكر منها ما يلي:

-مشهد التنكر في هيئة نعامة في مرتفع صحراوي: يعني التنكر هنا، السعي إلى التوحد بالرمز، واستضمار معناه، رغم الإحساس القاهر بالضآلة والانسحاق، وجوديا(الانحناء في مرتفع دليل على الاتضاع والتخضع). لم يكتف بالتنكر في السفوح، بل واصل تنكره أورغبته في التماهي مع الرمز في المرتفع، متخذا وضعية تعبدية (الانحناء )في مكان موصول في المتخيل الإنساني بالوصول والفيوض والإمدادات.

-مشهد اندهاش كريم لمرأى مدخل الخزان المائي الشبيه بكهف؛ صار الخزان المهمل الموحل، فضاء حاضنا للحياة (الماء العذب والعصفور والحمام والضوء ). لقد حمل فأسه، عازما هدم ما أنجز، إلا أنه اكتشف مصعوقا روعة مكان، له موازيات في متخيله ولاشعوره الثقافيين.

-مشهد سقوط البرميل المشقوق على الأرض ورقصات الأسماك الذهبية قبل رميها في الحوض المائي ورصد تعابير الانسحاق والاندهاش والألم والقهر والاستسلام المرتسمة على وجه حسين/ حامد أغازي ووجوه رفاقه. فبعد الحصول على الأسماك الذهبية، بعد تصبر وتجلد ومبادرات متتالية، تشقق البرميل، وضاع السمك/ الكنز المنتظر. غير أن الأطفال قهروا الإحساس بالإخفاق، بالاحتفاظ بسمكة ذهبية وحيدة.

-مشهد الحلم والتأمل والتصالح الكلي مع الآخر والرضا بطبائع الأشياء: يرصد كريم حدسا أواستبصارا، عنفوان النعامات ويبتهج لمرأى رقصة مبشرة بإمكان التجدد والانبعاث وسبر السر المكنون. ينتشل الخبر السار (عودة النعامة/ انكشاف السر المحجوب)، كريم/ رضا ناجي، من عطالته الفيزيولوجية وأعطابه الوجودية، ويدفعه إلى الحلم بحقائق أكثر بهاء، وجماليات أكثر رقيا، وكينونة أكثر أصالة(عرض النعامات/ رقصة النعامة ).

تخدم رمزية وشاعرية وجمالية الصورة السينمائية، هنا، المنجز الدرامي؛ ولذلك فهي مندغمة في الكل ولا تنفصل عنه كما في بعض التجارب السينمائية الإيرانية الطليعية المهووسة بالتجريب وتجاوز نمطية الصورة التقريرية المباشرة. إن رمزية وشاعرية الصورة السينمائية، مندمجة عضويا، برمزية وشاعرية الموسيقى وفرادة التشخيص، وانفتاح السرد الدرامي على ما يتجاوز البعد الحدثي –التقريري أوالتسجيلي المباشر.


VI- إيحائية الموسيقى وتحقيق النقلات الدلالية:

وظف مجيد مجيدي موسيقى المؤلف الموسيقي والعازف حسين عليزاده؛وهي فارسية تقليدية، تتجاوب بعمق مع الشحنات الوجدانية والإيحاءات الجمالية والمدلولات الرمزية لكثير من المشاهد المعبرة عن تطلع الشعور إلى ما يسموعلى نثرية التجربة المحسوسة:(البحث وحيدا عن النعامة في الصحراء / اكتشاف بهاء الخزان المائي ورصد دبيب الحياة فيه/ تأمل رقصة النعامة واستقصاء علامات التجدد والانبعاث ). تساعد الموسيقى التصويرية هنا، على إحداث نقلة جوهرية في الفهم والتدبر والانفتاح على وضع وجودي وأنطولوجي يتجاوز الوضع الحدثي الواقعي. وكثيرا ما تقترن الواقعة المنفتحة على المجاز والرمز بالموسيقى الموحية ونظرات كريم / رضا ناجي المفعمة بالدهشة والتطلع الوجودي والرغبة في الاستزادة من فيوض الغائب:( (هروب النعامة / البحث عن النعامة في الصحراء/ الشكوى من الظلم بعد طرده من العمل في المزرعة / حمل الباب الأزرق / اكتشاف الخزان -الكهف/ تأمل سرب النعام ورقصة النعامة).

تنبئ الموسيقى الموظفة في هذا الفيلم بحقائق محجوبة، وتحيل إلى سجل الموسيقى التقليدية المترعة بإيقاعات وطبوع وإيحاءات العرفان. وحين يجتمع الحدث غير المألوف (البحث عن نعامة قوية ومناورة في البرية وتقمص دور نعامة في مشهد طريف شبه كوميدي)، والتفاعل البصري غير العادي (إمعان النظر والتحديق المتمعن في المعاين) والموسيقى الإيحائية ذات العبق التراثي –التاريخي الواضح، نكون في محضر نقلة نوعية، تستدعي إعمال التأويل وفتح مغاليق العبارة والكشف عن مدلولات الرموز.
تبرز الموسيقى هنا، رمزية المشهد وإيحائيته وانفتاحه على مستويات دلالية ووجودية عليا. تتصادى الأفكار اللحنية المعتمدة، مع إيحائية ورمزية المفاصل الأكثر كشفا وتعبيرية في الفيلم(قوة وسرعة ومهارة النعامة الهاربة / الاستدلال بالآثار على إمكان معرفة السر في البرية / التنكر وتقمص هيئة النعامة فوق مرتفع/ الارتهان بالأشياء / حمل الباب الأزرق). تحيل الثيمات اللحنية المطورة، هنا، إلى القطاع الثقافي-الموسيقى التقليدي، بكل ما يحفل به من أداء عرفاني وطبوع ومقامات ونغمات شرقية وتدفق وسيولة نغمية وصرامة أدائية وتعبيرية بعيدة عن الزخارف اللحنية المعهودة في الأغاني الطربية الغرامية.
تصاحب الموسيقى الموحية - هنا- لحظات الشكوى والإحساس الممض بغياب العدالة والتنكر/ التقمص(التشبه بالرمز) والبحث عن المفقود واستجلاء معاني الآثار ودلالات العلامات(الريش والبيضات)، والانتشاء (الحصول على إطار النافذة والمتلاشيات) واكتشاف جمالية الخزان ومعانيه الرمزية (تواجد الماء العذب والعصافير والحمام في فضاء واحد) وتأمل الحس التضامني(مشاركة الجميع، كبارا وصغارا في تطهير البيت من الخردة المدينية / رمي الأسماك الذهبية في البركة المائية بعد تشقق وتلف البرميل) واستحضار فضاء البراري وقوة وبراعة ومهارة النعام.
لقد اتحد الإيقاع الموسيقي والإيقاع البصري الرمزي، لخلق شاعرية بصرية-نغمية متميزة. ولذلك لا تنفصل شاعرية الصورة عن شاعرية النغم وعن شاعرية الرمز، في فيلم "زقزقة العصافير".

VII- تركيب:

ينتقد فيلم" زقزقة العصافير"، الفردانية والتملك والتحديث المفرط، ويعلي من خلال توظيف الرموز والاستعارات والحس الكوميدي والموسيقى الإيحائية، من شأن الكينونة وأصالة الشخصية والقيم التضامنية والإيثارية. يعرض هذا الفيلم، سلسلة من النقلات الاجتماعية –الوجودية في شعور ووجدان كريم/ رضا ناجي، ويرصد قدرته على الصمود، وجدانيا وشعوريا، أمام مغريات التمدن والفردانية والذرائعية. لقد تمكن- بفضل قدرته على فك شفرات الرموز وعلى تأمل معانيها وأبعادها، والإنصات العميق إلى نداءات الأمكنة (الصحراء) -من إدراك إمكان التجدد الوجودي(تربية السمكة الذهبية في الحوض المائي )، إذا توافرت الإرادة والعزيمة(إصرار حسين/ حامد أغازي ورفاقه على تأهيل الخزان المائي المهمل، وتذليل كل العقبات وإيجاد المطلوب ).


الهوامش:
1-أبوعثمان الجاحظ، كتاب الحيوان، وضع حواشيه: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1998، الجزءالثاني، ص. 452.
2-كمال الدين الدميري، حياة الحيوان الكبرى، وضع حواشيه وقدم له:أحمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية2003، الجزء الثاني، ص. 486.
3-أبوعثمان الجاحظ، كتاب الحيوان، وضع حواشيه:محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1998، الجزءالثالث، ص. 116.
4-علي زيعور، التحليل النفسي للخرافة والمتخيل والرمز، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2008، ص. 220.
5-علي زيعور، الأحلام والرموز، دار المناهل، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 2002، ص. 110.
6-Mircea Eliade, Le sacré et le profane, Gallimard,1997,page179.