تشتغلُ الشاعرة السورية إينانة الصالح في ديوانها: "حينما تصبح المدينة نافذة" (دار فضاءات، عمان) على ما يمكن وسمه بشعرية التأمل، والسكنى في عمق الكلمات وابتكارها من وجهة رمزية، فضلا على ابتكار معانيها التي تتواشج مع البعيد القصيّ ومع المجازيّ المألوف أحيانا، فيما تشتغل على رسم تصورات الكتابة، ومآلاتها في الوعي الشعري.

وهي تسطّرُ رؤى شعرية عن الحرب والموت بحثًا – بشكل مفارق أحيانا – عن مجابهة رداءة الوجود، وتسللاته الضارية لمحو قيم الجمال وطزاجة الحياة – كما تعبّر – إن الشاعرة إينانة محمد الصالح تكتبُ ذاتها بشكل جلي، وتذهب إلى تقديم سهولها ومفازاتها عبر الكلمات.

الديوان
في بدء الديوان نحن تلقاء تصدير وتوطئة، وفيهما بعض المكاشفة حول صيغة النصوص ورؤيتها، تقول في تصديرها الديوان:"
لامرأةٍ لا تعرفُها إلا من أصابعها
وهي تغرف من ذاكرتي النار كي تطهو ضحكتها
لكنها ترتب أخطائي الجميلة في أدراج عرسها المقفلة
للمستحيلات النائمات في حجرها يحلمن
بصوتها المستحيل
كيف لكِ أن تحطّبي كل هذا الحزن بوردة؟
وكيف يمكن اختزالك في حياة واحدة ؟ / ص 5

الخطاب التجريدي يقصد الشاعرة ذاتها، التي ترتب الأخطاء وتحولها إلى شعر كثيف، يمضي فيه الحزن، وتتعدد الحيوات التي تختزل في حياة واحدة، هي إضاءة أولية لعرامة ما تكنزه الذات من تجارب ومواقف، وإشارة مبدئية بأن النصوص التي ينطوي عليها الديوان مكتوبة بألم، وتبصر، وكثافة، وهو ما تبينه التوطئة أيضا حيث تبدي بعض ملامح الكتابة لدى الشاعرة "نكتب عن الدفء بأصابع ورّمها البرد ومن زرقتها نصدّر البحر"، "جميل هذا الكذب اليومي ناجع في تسكين الواقع" و"نقتل الوقت بالوهم" ثم تصل عبر ذلك كله إلى البحث عن يقين أبديّ ، مستعيرة بإشارة تناصية مصغرة الموروث الإغريقي: " لن أؤذيك أيتها الحقيقة، أنا فقط أجعل منك هيلانة وأطلق حربًا طروادية" / ص 7

حالة الكتابة
تنشغل الشاعرة في جانب من جوانب الأفق التعبيري لنصوصها بمسألة الكتابة الشعرية، في ديوان يتشكل من (34) نصًّا، ويقع في( 110 ) صفحة، وهي تبحث عن ماء القصيدة، وبنيتها وآفاقها، وعما يجعلها فياضة بالدلالات والمجازات والمشاهد والصور التي تشكل صوتها، وتحتضن ذاتها، بحيث تعطي للقصيدة نبضها، وللشعر حياته، كما تعبر: "أيها الشعرُ ثمة شيء غريب .. يجعلك لا تموت " / ص 20
وفي نصوص كثيرة تراود الشاعرة شعريتها، وصبو إلى إيضاح قسماتها، ففي نصوص: "لعنة اللغة" ، "مجازات"، "ماء القصيدة"، "وحل القصيدة" و"دمية صغيرة" و"كيف يمكن أن أكتبَ الشعرَ"، على الصفحات: 19، 25، 27، 31،43، 105 على الترتيب - تمثيلًا.

بوح الذات
وتؤكد الشاعرة على السياقات التي تمضي بها صوب بوح الذات، والتعبير عن الوطن، والموت، والحرب، والبحث عن يقينية الحياة وطزاجتها ومقاومة قبح العالم:
أرسمُ قصيدة تعدو آلاف النوافذ كي تطارد صوتها
ألبس جيدها كي أخلّص تاءها
من عقدة الربط البديهي
في زحمة اللغة: يدٌ أرختْ سدول حنكتها على جسدي
وراحت تنسج من مسام موحش أحجيات الرغبة/ الموجعة / ص 43

حوارية متخيلة
ثمة حوارية متخيلة أيضا تدور بين طرفين حول كيفية كتابة الشعر يمثلها نص: "كيف يمكن أن أكتب الشعر" وفي هذا التمثيل نوع من التكثيف الذي يختصر ما أفضت به الشاعرة من رؤى حول الكتابة منذ تصدير الديوان حتى نهايته، وفي اختيار البنى والأشكال الشعرية التي تكتب بها وترى بها العالم، وهي بنى متعددة الأشكال والصياغات.
تقول الشاعرة:
-دع جوادك يقودك إلى مائك
-جوادي لا يغريه الماء
-اترك رغبتك تنبت على وجهك فتفيض بها أرضك
-رغبتي مفتاح الجن سأختفي إن حررتها
-حرر روحك من الحقيقة
-لروحي خيال خيّال والحقيقة مقبرة
إن الكتابة عن الشعر في الشعر لون من ألوان التضامن مع الكلمات، وهي ظاهرة موجودة في موروثنا الشعري القديم والمعاصر، وربما لا يوجد شاعر عربي إلا وأبرز معاناة الكتابة الشعرية في شعره من جهة، كما أبرز فرحه بالكلمات .

خطاب الآخر
هي عذابات الحياة في تأمل الآخر، في هذا الهاجس اليومي المترع بالألم، ألم الواقع، ورماديته القادمة من آثار الحرب، وهي آثار لا تفضي إلى تكاثر الركام أو الدمار فحسب، بل تفضي أكثر إلى الدمار لنفسي وتغير صورة الوعي والإحساس بالأشياء، الآخر هنا يرتبط برداءة الوجود وقساوته، وفي نص بعنوان :" طفل من تاريخ الرجم" تقول الشاعرة:
يقلقني أنكَ موجودٌ
وأن الوجودَ رديء
يقتلني ألا أصفعك وأنا المحقونة
بكل الحقد على الفرح
إيماءة إصبعك الصغرى تكفي
كي تمحو تاريخ الرجم
وأنا العاجزة عن محو الحرف الممهور ببعض رصاص . / ص 104

هكذا هو آخر مرعب، مرتبط بالحروب وبالرصاص والرداءة والألم، وهو ما يشكل كينونة معذب – إذا صح التعبير – تمضي بها الذات الشاعرة في مواجهة الآخر وتمضي بها قصيدتها، مما يحفزها على العزلة والتأمل ومقاربة الحدث الواقعي أو المتخيل بهدوء وتؤدة، ففي نص آخر بعنوان : " المرأة القلب" ( ص.ص 11-14) تقول :
بكلّ هدوء كان عليّ أن أغلق الباب
كي لا تستيقظ طيورك على جسدي
بكل هدوء أطفئ الشمعة الوحيدة على الطاولة
كي لا يحترق الهواء
بكل هدوء أتفقّد ورودي
التي لا تعطي سوى ظلال أوراقها الخضر
كي لا تشعر بعقدة العطر
بكل هدوء أستمع إلى الماء يخفت
حين أدير أصابعي كأنه ينام
بكل هدوء أكتب تاركة للحرف مداه على أصابعي
أقفز وقدماي غيمتان / ص 13

وعي الموت والحياة
في نصوص الشاعرة ودلالاتها تصبح الحرب اعتيادًا مكررًا في الأمكنة، هاجس الحرب المرعب ينشر رعبه دائمًا، ولا يبالي.
هكذا تجعل الشاعرة من الحرب أمرًا معتادًا، وهي تعبر عن ذلك بشكلٍ مفارق، حيث تشعر الذات بالوحشة عند غياب ضوضاء الحرب كما في نص " غريب":
موحشُ أن تسمع كل الأصوات
دبيبُ هذه الحشرة العالقة بين ورقتين
وتغيبُ عنك ضوضاء الحرب
موغلٌ في الوحشة قلبك
حين يطيل انقباضه على غصته
حتى ليأتيك صوته: هل أنتَ حيّ؟ / 83

لقد أصبح الاعتياد على الحرب جليا، وهي وإن غابت في خواتيم مأساوية إلا أنها حاضرة في الوعي والذاكرة، تتجلى بين حين وآخر كلما مارست الكلمات تشوفاتها الرائية، وكلما ذهبت إلى أحزانها ومواجعها:
موطني آخر ما تبقى من علبة السجائر الفارغة
ذاكرتي أكثر الأماكن فوضى
فيما نصال الوقت تسقط فوق طاولتي
لتعلن بدء تشكيل الخراب / ص 46

وفي نص :" رئة مثقوبة" ( ص.ص 65- 69) يصبح الوجع الوطني أكبر مما يتصور، حي يتأرجح الموت في البلاد، ويستلب مختلف المواقيت، متحولا إلى عدم، ضاربًا في الوجع الإنساني وموغلا في محو القيمة، وفي استشراف مآس متكررة، لن تنجو منها حتى الكلمات الشاعرة
ففي نص: ( نوتة يتيمة) تقول :
الموتُ ينهج شكل الغبار
الخوف يداهمه الاعتياد
الجرح ينزف حلمه
رصاصة
رصاصة
رصاصة
ر..ص..ص..
تنام، تموت البلاد / ص72

إن هذا الموت الذي يحاصر الحياة يجعل الشاعرة تفكر هناك في اعتيادية الأشياء وبرودتها، في حياديتها التي لا تنعكس على الوجدان، حيث يتساوى كل شيء مع كل شي ويصبح العدم هو الوجود الوحيد المتاخم لعذابات الذات، كما نرى في هذا المشهد :

كل الأشياء باردة
من القهوة حتى أغطية الأسرّة
كل الأشياء حارقة
من الوحدة وحتى الموت
كل الأشياء واحدة
حين تنتقم من وجودك لحيّ
العدم اكتمال
نحن في المرآة
خارجين من خرافة المادة
غارقين في اللا شيء
العدم ندّنا ونديمنا الجميل / ص.ص 80-81
وتشكّلُ بنية التجاور بين الكلمات المتباعدة عنصرًا جوهريًّا من عناصر التشكيل السياقي للجمل الشعرية عند إينانة الصالح، حيث تجاور الشاعرة بين كلمات لا علاقة معنوية أو عضوية أو حسية فيما بينها، مما يخلق نوعًا من الدهشة والجدة التعبيرية التي تكسر أفق توقع العلاقات الدلالية الشعرية من جهة.

رحابة النص
وتضيء حالات جديدة من السياقات التي توسّح من فضاء النص ورحابته، وتعطي للقارئ صياغات شعرية جديدة فضلا على الصور المتحركة عبر التضاد والمفارقة والجدل الحواري الذي تصنعه هذه السياقات الصادمة أحيانا التي تثير لدى القارئ وعيًا جماليًّا جديدًا مغايرًا ومدهشًا، وهو الأمر الذي نجده لدى شعراء كثر في المدونة الشعرية الحداثية العربية وما بعد الحداثية خاصة لدى محمد الماغوط، وأدونيس، ومحمود درويش، ومحمد عفيفي مطر، وسليم بركات وعبدالقادر الجنابي، ورفعت سلام – تمثيلا – وهي خصيصة من خصائص الشعر الخلاق بوجه عام .
فهذا الإبداع السياقي التشكيلي التجريبي بين الكلمات وخلق علاقات جديدة بين المتباعد القصي منها، يفضي إلى شعرية جديدة وإلى صور مائزة مختلفة.
ولو تبصرنا بنصوص كثيرة لدى الشاعرة سنجد تفجر هذه السياقات بشكل متكرر، ومنها على سبيل المثال:
-استطعتُ أن أشعرَ بالزنازين، بالعطشى، بثغرك، وبياقتك على عنقي يا حياة / ص 12
-أيها اللص المفعم بالضوء والخوف / ص 17
-معطف ثقيل، مليء برائحة الدخان والحب والتعب. / ص 19
-ألغي هاجس اللغة، ولعنة الجدوى، وتحويل البياض الأبله إلى رماد . / ص 19
-أيها الحوذيّ ذو اليدين الغائمتين كعربة بعيدة . / ص 20
ففي هذه التعبيرات المكثفة نجد أن السياق الشعري يشتغل على تجاور البعيد من الكلمات، وعلى صنع علاقات بين دلالات قصية، كما في تجاور : الزنازين مع العطشى، مع الثغر مع الياقة، وهكذا في بقية المشاهد. هي صناعة تكثيف، واستدعاء للبعيد، وربطه بمعطوفات متعددة، تصنع سلسلة من لتنقل بين الحسي والروحي، بحيث تتولد الدلالات من الكلمات البعيدة لا القريبة معنويا، حين كان الشاعر – مثلا- يذكر البحر فيستدعي الأمواج والشواطئ والبحارة والسفن والسفر والغرق، لكن الاستدعاء هنا يكسر التداعي الشعري ويسترسل هناك في ضم القصي المتباعد ليصنع حالة من الدهشة وحالة من الصياغات الشعرية والتصويرية الجديدة.