نعرض ضمن هذه العجالة ترجمة بتصرف حرّ لافتتاحية العدد الأخير من المجلة الأدبية الفرنسية "كلاسيكيات للقراءة" المخصص للروائي والأديب الفرنسي Honoré de Balzac (1799 - 1850).

افتتاحية
وهي افتتاحية بقلم رئيس تحرير ذات المجلة الكاتب والروائي وأستاذ الآداب بجامعة باريس الأولى أو السوربون ألكسيس بروكا Alexis Broca، حملت عنوان: "بلزاك: ما وراء الواقع"، وشكلت فاتحة لملف جاوزت صفحاته الثلاثين، تعرض لجوانب مهمة ولحظات مكثّفة من حياة هذا الأديب الفرنسي المشهور حمل عنوان: "الأوهام الضائعة لمتنبئ Illusion perdue d’un visionnaire".
وهي عروض تضمنت محاولة لاستكشاف مجموعة من الأبعاد من بينها على سبيل المثال: "رؤية بلزاك الدقيقة والفاحصة للمجتمع الفرنسي على أيامه"، وهل عاش حياة سعيدة؟ وما الذي يفسر إعجابه الشديد بـ "ربلي Râblais" و"نابوليون Napoléon"؟

لكن هل يستقيم قيس شهرة كل مؤلف تحولت أثاره إلى تراث أدبي كلاسيكي بالتعويل على النعوت المشتقة من اسمه؟
يبدو بلزاك من وجهة النظر هذه محظوظا إلى أبعد الحدود. فمن لم يصله حديث عن مسألة وسمت باسم هذا المؤلف، في إشارة إلى تعاريجها المتعددة وروائيتها اللافتة؟ أو عن آثار أدبية يحيل حجمها الضخم على مؤلفات بلزاك التي غالبا ما جاوزت الخمس مجلدات؟ أو لشخصيات تحيل تصرفاتها المثيرة والعميقة على ما نعثر عليه لدى هذا الروائي الفذّ؟

أوجني قراندي
فمنذ زمن غير قصير لم يعد هذا النعت يُسند إلى ما يتصل بآثار هذا مؤلف وعلى رأسها روايته الأكثر شهرة "أوجني قراندي Eugénie Grandet". فحسب، بل إلى جميع ما يشبه ذلك في مظهر محدّد أو في جملة من المظاهر، بوسعنا أن نعتبرها نتيجة لما أراده هذا الروائي من خلال ما راكمه من منشورات، ونقصد إعادة رسم واقع المجتمع الفرنسي على أيامه عبر التقاط صوره من زوايا مختلفة وبالتعويل على العروض المروية والتعرّف على أصناف متباينة، على غرار "المرأة [الشهيرة] التي بلغت سن الثلاثين"، أو من خلال اعلاء أنماط متكرّرة مثل شخصية المدان بالأشغال الشاقة "فوترين"، أو نمط الشخصية الضعيفة والهشة لـ "لوسيان دو روبمبري".

انعكاس
لذلك لا ينبغي أن نعجب والحال على ما وصفّنا حال العثور على ألف انعكاس يردنا مباشرة على حاضر معيشنا. فبلزاك لم يكتف بما يحدثه انعكاس العالم على ذاته، بل جنح إلى التفكير فيه، وفك شفرته واعتصاره وإعادة اختراعه... لأنه لم يكن يقتصر بشكل وضيع على إعادة كتابة مرحلة زمانية، بل تعامل معها من موقع المتنبئ الذي توفّر على رؤية مخصوصة لما حوله. وهو ما يقرّ به الشاعر العبقري "بودلير" في حديثة عن القدرة على التقاط تصرفات من حوله بمجرد نظرة، والتعرّف بمجرد السماع على اللغات التي تشدّ شخص ما إلى وسطه الاجتماعي، مع القدرة على تقفى تصرّفا حدسيا يتماهى مع سُنن الحكماء عندما تصحّ الرغبة في إعطاء مدلول عميق للتاريخ يكسب المال قيمة رفيعة ضمن مرحلة لم يكن أمر المال خلالها يشكل شاغلا محوريا. فقد أحال ماركس وأنجلز على عروض بلزاك، لـمّا حاولا تقريب التقاطيع المشكلة للمجتمع الفرنسي لقرائهما.

بيد أنه تحسن الإشارة إلى أن هذا الشخص الفائق الذكاء قد عرف بانغماسه الكلي في العمل وبشراهة لاحد لها، معولا يوميّا وفق شهادته الشخصية على دواعي الارتجال والتداعي إزاء الورقة البيضاء، مع التوفّر على خصال المهندس المعماري المشتغل بترتيب آثاره الأدبية حتى يشكّل من معطياتها بعظيم الجهد ومنتهى الطاقة "كاتدرائية مدنية ضخمة ومهيبة".

هزائم شخصية
ومهما يكن من أمر فإن مثل هذا التركيز لم يتم من دون خسائر وعثرات، بحيث لم يشكّل مسار حياة بلزاك خطّا مستقيما أو تصاعديا باتجاه النجاح، بل مثّل منحنى تضمن كثيرا من الصدمات، اختلطت ضمنه النجاحات الأدبية بالهزائم الشخصية.

لقد تمثلت رغبة بلزاك في تحقيق الاعتراف والمجد والثراء من بوابة الأدب أو بالتعويل على مختلف المسالك المتاحة. فقد عرفت حياته المجد، حتى وإن لم تعاين الثراء وتستفيد منه بشكل جدّ متأخر إلا عبر رابطة الزواج. وفي أثناء ذلك، فإن طموحه الجامح قد أدى به إلى الدخول في مغامرات غير مأمونة العواقب، وتقديم وعود كاذبة للعديد من الناشرين تعهّد بمدهم حصريا بمخطوطات أعماله الجديدة، ولم يكن بوسعه عمليّا الوفاء بما قطع.

لذلك قضّى بلزاك جانبا طويلا من حياته ملاحقا من قبل مقرضيه يرزح تحت وطأة ديونه المتكدسة بشكل مفزع. والظن بعد جميع هذا أن البتّ في حقيقة التباين بين مسار حياته المضطربة، قياسا لاتسام مختلف أعماله الإبداعية بقدر مذهل من الانسجام هو الأحرى بالاستكشاف حاضرا، بعيدا عن كل تعال مكذوب يصرّ على إقصاء منجز بلزاك عن مسار الحداثة، والحفر في المسالك الملتوية التي عاينتها حياته التي بدأت بتربية والدته القاسية وفشلها في التعبير عن أحاسيسها تجاهه، وانتهت في أحضان زوجة رافقته بمنطق الأم لا بذهنية الحبيبة، في حين اتسم باقي المشوار بتعدّد المصاعب المالية والتمزقات العاطفية العاصفة والمدمرة إلى حدّ خروج جميعها عن كل ضبط...الأمر الذي يضعنا إزاء أنموذج لما يمكن أن تكشف عنه كل حياة متقلبة يصحّ ردّها إلى طابع بلزاكي لا يمكن أن تخطئه كل عين بصيرة.
أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس