إلى سوق البراءة والأصالة في الريف وصلت بضاعة التحزب السياسي العنيف قبيل رحيل النظام الملكي على يد العسكر في العراق. في منتصف القرن العشرين وصلت إلى عروسة الفرات "القصر الأوسط"، وهي بلدة من بلدات هذا النهر وابتاعتها العشائر المتنافسة هناك. تلك البلدة، التي كانت تسبح بشعاع الشمس الرائع، والتي يتلألأ نورها مع أمواج ذلك النهر وفير المحتوى والذي تزينه الأسماك بأنواعها والأحياء المائية الأخرى وأصوات الأولاد الذين كانوا يسبحون فيه والفتيات اللاتي يقدمن إلى شرائعه لغسل الصحون ونقل مياه الشرب إلى بيوتهن بالمساخن، كما كانوا يسمونها، لانعدام الوسائل الحديثة لنقل تلك المياه؛

والمسخنة لمن لا يعرفها وعاء نحاسي، ذات رقبة طويلة نوعاً ما، وعروة برونزية توضع على الكتف أثناء حملها، وتسمى الفتاة التي تحملها "الملآية"، وجمع المفردة تلك الملايات. وكانت الكلاب عادة تسير خلف الملاية، وعندنا هناك مثل شعبي للإنسان المتطفل يقال له "مثل كليب الملايات"، ويطلق على من يروقه التطفل والتدخل في كل شيء، وقد شبه بالكلب الذي كان يتبع الملآيات جيئة وذهاباً. وربما هذا المثل الدارج عندنا قد يكون موجوداً عند جاراتنا العربيات من الدول.

في ذلك الوقت، وفي تلك البيئة، قبيل ابتلائنا بالتحزب الخبيث، كانت ميول الناس وأهواؤهم تجاه السياسة بسيطة وأصيلة كفضاء ذلك النهر الرائع بألوانه الخلابة وصفاء مياهه وعذوبة نسيمه وطراوة زرعه وتغريد طيوره وحلاوة أهله وجمال حسناوته وهن باحتشام يمارسن أعمالهن المنزلية على ضفافه الخضراء. هناك، ترى من يريد التغير والتطور، وترى ذلك الذي يريد الاحتفاظ بما ورثه من أسلافه متمسكاً بأصوله وعقائده الدينية والمذهبية، وترى فريقاً ثالثاً بين بين، وانقسم بين هذا وذاك، وأصبح نسيجنا الاجتماعي كالطيف بألوان زاهية، مختلفة، لا يخلو أحياناً من احتداد في الكلام، لكنه إطلاقاً لا يفضي إلى ما لا يحسن عقباه من أفعال على الأقل في بلدتنا. وحتى وإن حصلت، هناك الكبار والأخيار ممن يطفأون حرائق الزعل ويقربون العيال من المتخاصمين إلى بعضهم.

والرجل أيضاً في ذلك الوقت كان مضيافاً شجاعاً أصيلاً يعمل بمبادئه، مبادئ ابن القرية الأصيل، صاحب النخوة والمرؤة، لا يرضى بالشين والقبيح. كل ما يرضيه حبه لناسه وأرضه ومصدر رزقه الحلال. وكانت المرأة أصيلة، ومسنداً للرجل، وتعلي من مقام الرجل وشأنه وتفديه بما تملك، وتجعله قدر الإمكان جليلاً محترماً موقراً بين أقرانه وأهله، ولا تذله مهما كان عسر الحال.

حتى مرة من المرات كما روت لنا أمهاتنا وجداتنا، كانت هناك امراة من أسرة فقيرة من أسرنا المعدمة، أخبرها بعض الأقارب من ميسوري الحال أنهم قادمون لزيارتها لفترة قصيرة قبل الغداء، وذلك نظراً لانشغالاتهم ولحسن تقديرهم وتصرفهم، فقامت المرأة الفقيرة وملأت قدرها بالماء والحصى وغطته ووضعته في الموقد على النار والدخان يتصاعد، وبدأ الماء يغلي والحصى يجعجع بأصواته وكأنها تحضر أدسم الوجبات ليس إلا، لتبين للضيوف القادمين إذا سألوها أنه لديها ما تقوت به أسرتها ولا تذل زوجها، كما تثبت للزائرين كفاءة الزوج وقدرته على إعالة الأسرة وتوفير ما يكفي بالرغم من عسر الحال. هذه هي العزة، وهكذا هن نساؤنا يفضلن الموت على مد اليد استجداءً، ولا يسعين إلى إذلال الرجل مهما كانت الأحوال. وكذلك الرجل والقصص في عزته وكرامته كثيرة ووفيرة.

هذه هي الأجواء قبل غزو داء التحزب السياسي وانتشاره كداء مخرب عضال في جسد الأوطان، وتسيد الشك وعدم الاطمئنان وإبدال حسن الخصال بمفاتن المناصب والتخاصم والقتال وتشريد الأطفال والنساء والرجال إلى المدن والبحث عن الأعمال وإخلاصهم في الاتقان، وذلك لتواجد بقايا الأصالة في روح الإنسان من أبناء المعدان كما كانوا يحقرون من طرف أبناء المدن الكبرى وهم من أصلاء السكان.

وبعد سنين، أصبح واقع الحال انقسام أهالي الديرة حسب ما كان سائداً من أفكار وعقائد على المستوى الدولي: قوم يؤمنون بالهوية القومية العروبية مع إدخال عقائد مذهب الاشتراكية المكيف، وقوم يقومون بتغليب مذهب الاشتراكية وتتفيه وتسفيه كل العقائد القومية واعتبارها تعصبية، وينظرون إلى العقائد الدينية على أنها غير أساسية وتمثل تخديراً لعقول الشعوب.

في تلك اللحظة اللعينة، بدأ التصارع واشتد، وهكذا، دخلتنا نقمة الأجواء السياسية المشحونة بالعنف والكراهية، وعصفتنا رياح الفتنة، وسرقت منا الأصالة والبراءة، وزرعت الرياء والنفاق، وانقلب بعض الأخيار أشراراً. ومنذ ذلك الحين، استوطن الزائر الخبيث بعد أن أصبح له موطن قدم في ديار الأخيار والأصلاء.