قرب منزله خلف مدرسة البنات القديمة، كان نعمة يفترش الأرض أمام الباب هناك في تلك البيئة الآمنة، بعيداً عن عواء الكلاب وتشاجر الأطفال والرجال ونزيف الدماء وضوضاء وصخب البلدة؛ أرض معشبة تتوسطها شجرة الصفصاف الطاعنة في السن، والتي احدودب ساقها... هناك كان في انتظار طالبي العون الذين في أحيان كثير يمتنعون عن الذهاب إلى أصحاب المهن الماهرين والمتخصصين، وذلك لمخاطر الوصول المعنوية لهم، ولصعوبة إقناعهم بعسر الحال وقلة المال أو لكون بيئة العمل غير مريحة، أو عدم تمكنهم من الانسجام ومزاج الممتهنين في وقت المتطلب للإنجاز.
هناك، كانت تجرى التجارب المهنية الناجحة من طرف رجال لا يمتكلون سوى الفطرة وطيب السريرة في التحول إلى حلاق أو حداد أو نجار أو خباز، قل ما شئت وتجري دون مكان جغرافي معتمد. أما نعمة ذلك الصديق الوفي الودود، فكان عنده ماكنة حلاقة يدوية ومرأة بمقبض وصابون مع فرشاة حلاقة تقليدية وعلبة معدنية للجلوس ومقص، كانت كلها مخبأة في صندوق حديدي صغير، مقفل بقفل أخضر كاخضرار كرمه وتعاونه. كان "نعمة" هناك متواجداً ليس للعمل، بل لمساعدة عموم أصدقائه ممن هم بحاجة إلى خدمته، فتراه يصيح:
- أهلا أبو حميد... أراك قادماً لحلاقة الوجه؟
فيجيبه أبو حميد:
- نعم يا حبيبي، ليس لنا غيرك من معين نحن المساكين، فقد ارتفع سعر حلاقة الوجه إلى أضعاف مضاعفة لا قدرة لنا على تحملها كما تعرف.
يطلب نعمة منه أن يجلس على المقعد المعدني وهما يتبادلان أنواع الحديث واللطائف والنوادر وما يرافقها من قهقهات وآهات، كل حسب سياقه المناسب، ويبدأ الحلاق الهاوي بعمله المعتاد. يسأل نعمة أبا حميد:
- لماذا لا تقوم أنت بنفسك بحلاقة وجهك؟
فيجيب أبو حميد:
- أتعلم يا نعمة، عندما أقوم بذلك فانني أجعل أنهار الدم تغطي وجهي، وهي تسيل من الأعلى إلى الأسفل وكأننا في موسم فيضان. وبعد أن يجف الدم ويصبح وجهي مليئاً بالبقع وكأني ضحية هجوم حيوان مفترس، عندها أخيف أسرتي وأولادي وأصبح مدعاة للضحك والتندر.
لا تحتوي كل أحاديث الحلاق الهاوي وصاحب النخوة مع طالبي المساعدة أخباراً عادية وسارة، بل أحياناً تحمل أحداثها تفاصيل مأساوية ومحزنة. ذات مرة، وعندما كان يقوم بحلاقة رأس صديق ضرير عسير الحال، وجد في مقدمة رأس ذلك الرجل علامة بيضاء كبيرة، وجره الفضول إلى سؤاله "ما هذا يا صديقي؟"، فأجاب الرجل أنه أصيب سابقاً بمرض خطير في رأسه وعينيه، قلب دنياه ظلاماً، وعجز الأطباء عن تشخيصه ومعالجته، نظراً لقلة الكفاءة والمعرفة في ذلك الزمن الغابر، فاضطر إلى الخضوا لآخر الدواء، وهو الكي بسيخ طويل من الحديد المحمى، ووضعه على مكان الألم بالرأس، وقد خلف معاناة قاسية ومديدة، وتسبب بإتلاف العصب البصري، فأصيب الرجل بالعمى. وكان ذلك الرجل الضرير من خيرة الرجال تقوى وتديناً وحباً للاخرين، ويعجز اللسان عن وصف أخلاقه وحسن أدبه.
كان نعمة، وغيره في ذلك الزمن، يستهدي بفطرته إلى ممارسة كل المهن تقريباً، وكانت الاستعانة بالآخرين من موجبات الحياة، وكانت استعارة أدوات العمل من الأمور السائدة والرائجة، وكانت الجغرافيا في خدمة الجميع (أي تعمل حيثما تحط)، والتعاون هو الشعار السائد، حيث كان المثل آنذاك يقول "الأقوام التي تعاونت لا ذلت ولا أفلست". لكن كان إنجاز أي أمر يتطلب وقتاً. فالنجار المحترف مثلاً يصنع الكرسي أو السرير في وقت أقل من وقت فاعلي الخير، وبجهد أقل أيضاً، ولكن عمله يتطلب مالاً أكثر يصعب على كثيرين توفيره.
أه يا عسر الحال؛ كم من المبدعين صنعت وكم من المحترفين المتحولين أنتجت، وكم من أبناء آدم أفرحت، وكما كان يمكن أن يعاني قليلو الحيلة لولا ذكاء وحيلة وفطرة بعضنا، ولولا تعاوننا لأصبحنا ساحة افتراس حيوانية. تفترسنا الحيتان الجائعة وتنهش لحومنا الكلاب السائبة.
دائماً رياح الإرادة تسير سفن الإبداع وتقتلع أشجار المستحيل من جذورها وشمس البداهة والمعرفة والذكاء الفطري تبدد دائماً ظلام الجهل وتنعش الرغبة في اقتحام مجاهل المهن والعمل وتوفر الزمن والجهد والمال. ومعونة صاحب أو صديق بإمكانها المساعدة في صعود الجبال واجتياز الصحارى والوديان. الصداقة الحميمة وصلة القرابة والانتساب بالإضافة إلى حتمية التناغم والانسجام أحياناً تنقذ المستنجد من بئر الفقر المظلم وتغني عن الاحتياج وتوفر ما يكفي لسد الاحتياجات اليومية. والصداقة الحقة وأحياناً الانتساب العرقي ما هي إلا أمور بمثابة الزورق الذي ينقل المستغيث من عنف الأحداث إلى جرف الأمان.
التعليقات