تحديات داخلية للاقتصاد خلال عام 2007ـ2008
التقدم البطئ ينعكس إيجابياً على الرأي العام الفرنسي

د. صلاح نيّوف: يبدو أن الفرنسيين ينتظرون الكثير من اقتصادهم. في مجالات متعددة، إنه يتجاوب معهم و يرد على انتظارهم، محققا لهم مستوى معيشي مرتفع بشكل عام مقابل فترات من العمل تعد ضعيفة نسبيا. منذ بعض الوقت، الإنتاج يرتفع، البطالة تتراجع و التمويل العام يتحسن. مع ذلك، هذا التقدم يأخذ وقتا قبل أن ينعكس إيجابيا على الرأي العام الفرنسي. الفقر له مكانه في فرنسا كما في العديد من البلدان الأوربية المتقدمة. عنصر آخر يشارك بمشاعر التشاؤم و حالة عدم الأمن الاقتصادي: إنه ارتفاع معدلات البطالة المتراكمة منذ سنوات طويلة و الذي يترجم عادة بظاهرة الحرمان أو الاستبعاد الاجتماعي، هذه الظاهرة التي يحاول النظام التعليمي جاهدا في التقليل منها مازالت واضحة بشكل ملفت. الشيخوخة تنتشر بين السكان وقد أعلن عنها وحذر منها مسبقا لكن نتائجها لم تأخذ بشكل جدي حتى الآن، وسيكون لارتفاع عدد المسنين اثر كبير على الاقتصاد وعلى السكان القادرين على العمل و أيضا على تمويل الخدمات العامة. من هنا هذه القضايا تعتبر أسئلة بنيوية هامة للاقتصاد الفرنسي ومستقبله. لعل التوظيف هو الوسيلة الأساسية للصراع ليس فقط ضد الفقر، ولكن أيضا ضد مشاعر النقمة و الحرمان،لأن، الوظيفة هي أكثر من دخل للفرد، إنها تدمج الفرد في المجتمع سامحة له بالمقابل بالحصول على خبرة ومهارات أخرى.

إذا العلاج بتوفير الوظائف هو مشاركة بالنمو و تمويل الخدمات الاجتماعية و الضرائب، ثم الوظائف سترفع من عملية التمويل الممكنة لتغطية التقاعد والصحة، ثم دعم الميزانية على المدى البعيد، وهذه أمور حاليا غير مؤكدة. حيث هناك ضعف في استخدام اليد العاملة ربما يعود إلى النظام التعليمي quot;ليست كل الأعمال مرغوبةquot;، خاصة عند الشباب. فرنسا حققت في السنوات الأخيرة العديد من الإصلاحات الهامة كان لها مؤشرات في موضوع التمويل العام، لكن السلطات عليها أن تبقى متيقظة و أن تتخذ إجراءات أخرى ضرورية.

إصلاح التقاعد عام 2003، والذي مدد فترة الاشتراك في صندوق التقاعد و نظام الوظائف في القطاع الخاص، و أيضا الإصلاح في عام 2004 للضمان الصحي،كان الهدف منه زيادة المسؤولية وإعطاء ميزات للمهن في حقل الصحة وفي العموم هذه الإصلاحات حسنت النظرة العامة لمستقبل الميزانية الفرنسية. الجهود المبذولة لتحديث مصادر تمويل الدولة، تذهب كما يبدو في طريق صحيح. جهود أخرى بذلت فيما يتعلق بسوق العمل. نقرأ منها هنا عمليات تسهيل وضع قواعد مرنة لعدد ساعات العمل التي وضعت بين عامي 2003 و 2005، و التي تسهل الاستناد إلى الساعات الإضافية ، ولكن كل هذه المحاولات عليها أن تظهر في النهاية على الاقتصاد الفرنسي. تعديل عقود العمل أصبح مرنا بالنسبة للمشاريع الصغيرة من خلال إدخالquot;عقد التوظيف الجديدquot;، لكن هذه المحاولة لم تفتح سوى أمام المشاريع أو الشركات التي توظف أقل من عشرين موظفا. ا
قتراح مشابه بالنسبة للمشاريع الكبيرة تم التخلي عنه تحت ضغط الشارع الفرنسي. مواجهة التعديلات أو الإصلاحات الاقتصادية بعلاج يهدف لعزل الاقتصاد الفرنسي أو حجز العديد من الوظائف و النشاطات ليس فقط ثمنه باهظا ولكن ،بشكل قطعي،هو علاج غير فعّال.

إستراتيجية التوظيف وفق بعض الاقتصاديين الفرنسيين يجب أن تحمي الأشخاص أكثر من الوظائف المتاحة، نفس الشيء بالنسبة لسياسات إطلاق الاقتصاد بواسطة الطلب ،إنها لن تحل المشاكل العميقة على مستوى العرض،بالإضافة لذلك هذه السياسات ستؤدي لتراجع التمويل العام. أما الدولة فقد خفضت بشكل غير كاف عدد موظفيها مقارنة بتخفيض المؤهلات لهؤلاء. الارتفاع الكبير في الوظيفة العامة الناتج عن هذه السياسات يترجم بتضخم في تكاليف المتقاعدين في المستقبل. على الدولة إذا سحب عدد كبير من الوظائف للعاملين فيها حتى يتم إطلاق هذا الاقتصاد المتعسر. باختصار يمكننا حصر تحديات الاقتصاد الفرنسي الداخلية بأربع:

أولا ـ الصراع ضد الفقر و الاستبعاد الاجتماعي

الحد الأدنى للأجور في فرنسا يعتبر وسيلة للصراع ضد الفقر ولكن على ما يبدو أنه ليس أداة فعّالة للوصول إلى هذا الهدف. فقد انتهى ليكون معتبرا كقاعدة للأجور وليس كأجر أو مرتب يتم الحصول عليه في بداية الوظيفة أو العمل،كما هو الحال في بلدان أخرى. في الواقع الحد الأدنى للأجور ارتفع بسرعة أكبر بكثير من إنتاجية الأشخاص الغير مؤهلين.فمن أجل زيادة الوظائف، الرواتب عليها أن تنمو أو ترتفع بإيقاع أكثر بطأ بكثير في السنوات القادمة من أجل تجنب عدم الاستقرار في الاقتصاد بشكل عام. ويجب عمليا التأكد من أنه على المدى البعيد الحد الأدنى للأجور لن يزيد بشكل أسرع من إنتاجية الأشخاص المؤهلين بشكل ضعيف. هذا ما يسمح بالحصول على توزيع أقل ضيقا أو اختناقا للأجور حتى أكثر من الحد الأدنى للأجور نفسه ومن جهة أخرى ببناء رؤية واضحة حول رفع الدخل. رفع متعقل للأجور يمكن أن يكون له نتائج إيجابية كما حصل في بلدان أخرى كبريطانيا مثلا في قانون Low pay .

الفقر في فرنسا يزداد مع الوقت، والعاطلون عن العمل لديهم الحق بالحصول على تعويض البطالة إذا كانوا قد اشتركوا في صندوق التعويض لفترة طويلة، أو لديهم الحق بالحصول على شكل آخر من الدخل. يوجد مساعدات اجتماعية توجه لهؤلاء وتسمى في فرنسا RMI. لكن وفق اقتصاديين فرنسيين من الضروري التنسيق بين الحقوق و الواجبات للأشخاص العاطلين عن العمل والذي لديهم قدرة على أداء عمل ما في حال توفره، وذلك من خلال وضع نظام مشترك للمساعدات بالعودة إلى الوظيفة أو إجبار العاطلين بالبحث عن وظائف أخرى ثم توزيع تعويض البطالة لمن هم أكثر حاجة من غيرهم ولمن لهم ظروف خاصة.

المسكن و تأمينه يعتبر من أكبر المشاكل أما الاقتصاد، في نفس الوقت لأنه انعكاس للفقر ولأنه أيضا يشارك في الاستبعاد و الحرمان. لا بد من القول هنا أن مساعدات السكن التي تقدمها الدولة الفرنسية حتى للأجانب، تشكل ما نسبته 0،8 من ميزانية الدولة وهو نظام له تأثير مهم في عملية مساعدة الأفراد باستئجار سكن لهم. ونذكر هنا أن من أهم أسباب قلة العرض في المسكن الخاص بالإيجار يعود إلى صعوبة صاحب العقار في إلغاء عقد المستأجر إذا هذا الأخير لم يدفع ما هو مترتب عليه، وهذا بدوره ما يضع بشكل كبير عملية العرض من قبل الملاك أو يعقد شروط الحصول على مسكن لائق بالبشر.

ثانيا ـ العمل على تعزيز و تعميق النظام التعليمي

النظام التعليمي الفرنسي محدد من أجل تكوين رأس مال إنساني ونمو محتمل على المدى البعيد ثم مستوى متوسط من المعيشة. يهدف أيضا إلى تضييق اللامساوة ،لكن هذه المهمة صعبة جدا لأن تأثير الآباء له وقعه في كل مرحلة من مراحل نمو الطفل. التعليم ما قبل المدرسة في فرنسا بالنسبة للأطفال وهو نظريا يخفض من اللامساوة، هو متطور جدا،حيث جميع الأطفال في أماكن خاصة بهم ما قبل المدرسة وهي تابعة للدولة وتستمر حتى عمر الثلاث سنوات. التفاوت الطبقي يظهر بشكل لافت في المرحلة الثانية من التعليم. إن واحدة من الصفات التقليدية للنظام التعليمي الفرنسي هي فقدان مدراء المؤسسات التعليمية إلى الاستقلالية. لا يتدخلون إلا بشكل ضعيف في وضع المناهج والأجور فهي أمور توضع على المستوى الوطني.

إن استهلاك الطالب الفرنسي في التعليم العالي ضعيف جدا بالمقارنة مع دول أخرى، لكن رسوم الجامعة منخفضة جدا بالمقارنة مع الخدمات المقدمة للطلبة في الجامعات الفرنسية. ( لا تتجاوز 400 يورو في السنة). ما ينذر بالخطر هو ترك الكثير من الطلبة لجامعاتهم وهذا يقلق السلطات الفرنسية بشكل كبير. الطلبة الأكثر استفادة من النظام هم اللذين يكملون التعليم العالي و يملكون جميع المؤهلات في سوق العمل، ولكن في العادة هم ينتسبون إلى عائلات ذات دخول مرتفعة. الحل إذا في نظر الدولة هو رفع رسوم الجامعات مقابل تحسين نوعية التعليم العالي. يجب رفع الرسوم بشكل تدريجي على أن يكون لها سقف تقف عنده. أو على الدولة أن تمول الدخول إلى الجامعات ومعها المؤسسات الخاصة ثم يعيد الطالب ما أخذه بعد العمل في المستقبل. لو كان للجامعات استقلالية أكثر ومسؤوليات أكبر، المنافسة يمكن أن تجذب الطلاب و يمكن استخدام المصادر والتمويل بشكل أفضل .

ثالثا ـ في مواجهة الشيخوخة بين السكان

المصروفات العامة الإضافية الذي على فرنسا أن تقوم بتمويلها في أفق عام 2050 بسبب تزايد أعداد كبار السن بين السكان و بين المتقاعدين، وخاصة فيما يتعلق بالعلاج والصحة والخدمات المتعلقة بها ،هي مصروفات تقدر من قبل السلطات بأكثر من أربعة بالمائة من الميزانية وهذه فرضية متفائلة وفق المصادر الفرنسية المختصة. إذا من أجل الحصول على تمويل هذا المشروع لا بد من زيادة عدد الوظائف وهذا بدوره خيار صعب بسبب ضريبة الاشتراك الاجتماعية والتي هي في الأساس تشكل عبئا كبيرا على أصحاب الدخل وتشكل عائقا أمام الإنتاج و إحداث وظائف جديدة. لذلك على العاملين في إصلاح الاقتصاد الفرنسي التخلص و بشكل تدريجي وفوري من الامتيازات الخاصة لأصحاب الدخل العاملين في المشاريع و الشركات العامة والتي لم يتطرق إليها الإصلاح الاقتصادي حتى الآن.

ضعف معدلات التوظيف بعد عمر 55 عاما يعود في جزء منه إلى موقف خاطئ تجاه سوق العمل. خلال عشرات السنين، العمال تم تشجيعهم للحصول على تقاعد مبكر معتبرين، وبشكل خاطئ، أن هذا يمكن أن يعزز من عدد الوظائف المتاحة أمام الشباب. هذه الإجراءات هي في طريقها إلى الإلغاء، لكن العديد من الأحكام مازالت سارية في هذا المجال، لاسيما الإعفاء من إجبار البحث عن وظيفة بالنسبة للعاطلين و الذين يزيد عمرهم عن 57 عاما. من الصعب تغيير هذه العقلية الفرنسية على ما يبدو. صعوبة توظيف عمال مسنين يمكن نظريا أن تشرح بعدم تمسكهم أو إبقائهم على مستوى إنتاجيتهم مقابل الأجور التي يحصلون عليها، حتى ولو أن هذه النقطة غير مثبتة تجريبيا. إن التطوير الدائم هو وسيلة لتحسين عملية الحصول على وظيفة بالنسبة لكبار السن لكنها عملية غير كافية. ثمن الهرم أو الشيخوخة بين السكان فيما يتعلق بالصحة و التبعية للدولة هو غير مؤكد كما الحال مع المتقاعدين،لأنه يعتمد على التقدم التكنولوجي، تطور أسعار الخدمات و العناية من غير أن ننسى حجم الإنفاق الذي تأخذه العائلات على عاتقها. ضمن هذا السياق سيكون من الصعب أمام الاقتصاد الفرنسية و القائمين عليه إقناع الناس بإجراءات جديدة تتعلق بتمويل الشيخوخة بين السكان، ولكن بنفس الوقت على الفرنسيين أن يكونوا جاهزين لتكوين أو إحداث إجراء جديدة وضرورية لحياتهم.

رابعا ـ مواجهة تحديات اللامركزية

quot; اللامركزيةquot; للعديد من وظائف الدولة يمكن أن تأخذ شكلين، تحويل المسؤولية الكاملة أو الوضع في التنفيذ لسياسة عامة حيث قواعدها تقررها الدولة. عمليا، المسؤوليات مقسمة بين الدولة و الأقاليم. مثاليا، كل حالة يجب أن تكون النتيجة لتحكيم عادل بين الحاجة لإعطاء مسؤوليات للأقاليم تجاه ناخبيها ضمن مفهوم وضع سياسات محلية ذات تأثير، و القلق من تأمين الخدمات ذات نوعية تتشابه مع المستوى الوطني و المعرّفة من قبل الدولة. اللامركزية في فرنسا هي في جزء منها النتيجة لقرارات منتظمة، تم اتخاذها من غير الأخذ بالحسبان و بشكل كامل لهذا التحكيم العادل الذي تحدثنا عنه،من هنا يأتي ضعف وعدم تأثر أشياء كثيرة تتعلق باللامركزية. من أجل الوصول إلى المراد فيما يتعلق بثمن التأثير والفعالية بالنسبة للإنفاق العام ، سيكون من الواجب وبشكل تدريجي إحداث استقرار و توضيح التقسيم بين أعمال ومهام الدولة وتلك المتعلقة بالأقاليم. وسيكون من تحديات الاقتصاد الفرنسي تطوير نظام للمعلومات وتسهيل تطور السياسات الإقليمية، أيضا متابعة الإنفاق وطرق تمويله في الأقاليم، ثم نوعية الخدمات المقدمة.

بالإضافة لذلك، الدولة تتدخل في الضريبة المحلية كي تعفي بعض الفئات و المشاريع من الضرائب ومساعدتهم ماليا. في النتيجة، المصادر الضريبية الخاصة تقلصت مقارنة بالمصادر الكلية لجميع الأقاليم، وهذا ما باعد في العلاقة بين المواطنين و ممثليهم وشارك في تقليص المسؤوليات الخاصة بالإقليم. إن الوظائف الخاصة بعمل الإقليم يجب أن تمول من خلال الضريبة المحلية والإعفاء الضريبي الذي تقوم به الدولة وفق الخبراء الفرنسيين يجب و بشكل تدريجي أن يتم استبعاده. أما الخدمات الكبيرة التي لا يستطيع الإقليم القيام بها فعلى الدولة أن تمولها. إن نظام اللامركزية هو نظام معقد، مع ثلاث مستويات أساسية، من غير ترتيب أو طبقية فيما بينها. كل إقليم أو تجمع إقليمي يحصل على سلطة كبيرة وواسعة على الإقليم الذي يديره، وهذا يترجم بالعديد من المكتسبات. على هذا النظام يضاف أشكال متعددة للتعاون بين الكومونات. هذا التعقيد هو في أصل اللافعالية والتي لابد من تصحيحها حتى اللامركزية تنتج أو تحصد ثمارها المنتظرة. وضمن هذا المنظور أيضا سيكون تحديا كبيرا أمام الفرنسيين بتخفيض عدد الأقاليم أو دمج بعضها، ثم إيجاد تمويل ومصادر للمشاريع الإقليمية على المدى البعيد.