نجلاء عبد ربه من غزة : لم يكن يعرف والدي أن الوضع في غزة سيؤول إلى كوارث، تتوقف فيه أعماله وتتجمد أمواله في البناية التي تقفين أمامهاquot; هذه الجملة التي قالها ابن رجل الأعمال محمد غازي الفرا. فوالده الذي توفي منذ عامين كان قد استثمر أمواله في بناء عمارة من 15 طابق منذ ثلاثة عشر عامًا في محافظة خان يونس جنوبي قطاع غزة، متوقعًا أن يبيع بعضًا من الشقق ويأجر بعضها الآخر للفلسطينيين العائدين مع السلطة الوطنية بحسب إتفاق أوسلو.
إلا أن آمال هذا الرجل سرعان ما تبددت أمام مشاريع عمرانية مدعومة من دول عربية وأوروبية مانحة قامت ببناء أحياء جديدة على أطراف المحافظة، وبأسعار أقل بكثير quot;بالتقسيطquot; من السعر الذي طلبه رجل الأعمال الفرا، مما حذا بالمواطنين للتوجه إلى تلك الأحياء، بدلاً من شراء شقة في برج كالذي بناه الفرا بنظام دفع الأموال مرة واحدة. وهو ما أدى إلى خسارة كبيرة على مستوى رجل الأعمال الفرا، فباع وأجّر أربعة طوابق فقط من مجموع 15 طابقًا.
فالحي النمساوي مثلاً، جنوبي خان يونس، والذي تم فيه بناء 9 عمارات متجاورة، كان أفضل حالاً قبل عام 2000، أي قبل بدء انتفاضة الأقصى، فبحسب المواطن أحمد رشوان الذي إشترى شقة في الطابق الرابع من البرج رقم (1)، كان يدفع 200 دولار كقسط شهري. يقول quot;كان جيدًا بالنسبة إلينا، فأنا أعمل في أحد الأجهزة الأمنية وراتبي يكفيني بصورة جيدةquot;.
لكن هذا الشاب، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى، هجر شقته، كباقي ساكنين الحي، لا سيما أن الحي كان على مرمى إطلاق النار من أحد المستوطنات الإسرائيلية التي تم إنشاؤها في خان يونس، مما استهدفت المباني المحاذية لتلك المستوطنة، وأدت في نهاية الأمر إلى تدمير 5 مباني بالكامل، بما فيهم شقة رشوان.
الأمر يختلف تمامًا في محافظة غزة، فهي عاصمة قطاع غزة كما يُقال هنا. ولأن كافة المؤسسات الحكومية والسفارات والمؤسسات الأجنبية موجودة في مدينة غزة، كانت للأبراج، هناك حظ أكبر بكثير من أبراج جنوبي قطاع غزة. فالعديد من أبراج غزة وخاصة مجموعة أبراج مشتهى وشركة مذكور التي تملك 12 برجًا في غزة، ممتلئةً بالكامل. وقد بيعت تلك الأبراج حتى خلال انتفاضة الأقصى، على الرغم من الوضع الاقتصادي المشلول تمامًا، إلا أنه، وبحسب المواطن محمد خليفة quot;لا مناص من شراء شقة أسكن فيها أنا وأولاديquot;.
وعلى الرغم من أن سعر الشقق في خان يونس ورفح جنوبي قطاع غزة أقل بكثير عن مثيلاتها في غزة، فإن رغبة الفلسطينيين في شراء شققهم في تلك المدينة، ساعد رجال الأعمال على بناء المزيد من العمارات والأبراج فيها.
شقة في الطابق الـ 14 من برج الشروق، سعرها يتجاوز 50 ألف دولار، بينما في أية برج من جنوبي القطاع لا يتجاوز الـ 30 ألف، رغم ذلك يقول رجل الأعمال من مدينة غزة أبو عماد quot;الفلسطينيون يفضلون الشراء في غزة لأنها مركز مهم للمؤسسات الفلسطينية وغير الفلسطينية المختلفة، فضلاً عن الخدمات والمميزات الأخرى التي تختلف عن مدن أخرى في قطاع غزةquot;.
وبالطبع لن يكشف أبو عماد الربح الذي جناه من وراء بيع عمارتين في غزة، فهو يخشى بالتأكيد ملاحقة الضرائب له، وربما يخشى اللصوص، فغزة تعج بتناقضات كثيرة، خاصة في ظل تفشي ظاهرة البطالة والفقر المدقع بعد الحصار الإسرائيلي الخانق عليها منذ فوز حركة حماس منذ عامين ونصف، والتي تسيطر الآن على غزة بالكامل.
وكان الاتحاد الأوروبي قد أعلن عن استخدامه الآلية الجديدة بيغاس لصرف 5.9 مليون يورو (32.5 مليون شيكل) بهدف تغطية فواتير لم يتم تسديدها للشركات المتوسطة والصغيرة الحجم مقابل خدمات قدمتها للسلطة الوطنية الفلسطينية.
وأوضح بيان للاتحاد الأوروبي، أن آلية quot;بيغاسquot; تسعى إلى تقليص حجم الفواتير التي لم تقم السلطة الوطنية بتسديدها للقطاع الخاص بسبب الأزمة المالية. وسيساهم هذا الدعم بضخ الأموال بصورة سريعة وفورية في الاقتصاد الفلسطيني والقطاع الخاص الأمر الذي سيضمن بقاء مئات العمال الفلسطينيين في أعمالهم، مشيرًا إلى أن تلك المساهمة تستهدف على وجه التحديد المشاريع المتوسطة والصغيرة للقطاع الخاص، بحيث يستفيد من هذه الدفعة التي تقوم المفوضية الأوروبية بتمويلها أكثر من 200 منشأة.
وذكر البيان أن المفوضية الأوروبية والمملكة المتحدة قامتا في عام 2007 برصد 24 مليون يورو بهدف تغطية متأخرات السلطة الفلسطينية للقطاع الخاص. وأضافت أن آلية بيغاس التي قامت المفوضية الأوروبية بتدشينها في 1 شباط 2008 تقوم بتمرير المساعدات الأوروبية والدولية بهدف المساهمة في إنشاء الدولة الفلسطينية، وأنه تم تأسيسها بناء على نجاحات الآلية الدولية الموقتة التي سيتم وقف العمل بها في نهاية الشهر الجاري، وستشكل بيغاس آلية التمويل الرئيسة للاتحاد الأوروبي باعتباره أكبر مانح للشعب الفلسطيني، كما ستكون منفتحة لتمويل المانحين الراغبين بتمرير مساهماتهم للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولفتت إلى أن بيغاس تتمتع بمجال عملٍ واسع لأنها ستقوم بإيصال الدعم للأركان الأربعة لخطة السلطة الفلسطينية للتنمية والإصلاح وهي (الحكم الرشيد، والتنمية الاجتماعية، وتطوير الاقتصاد والقطاع الخاص، والبنى التحتية العمومية).
من ناحيته، أكد الدكتور نافذ أبو بكر، أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية، في حديث مع quot;إيلافquot; أن بناء الاقتصاد الفلسطيني يتطلب الاستقرار السياسي وإزالة العوائق التي يمثلها الاحتلال الإسرائيلي أمام نمو الاقتصاد الفلسطيني، وقال quot;إن الاقتصاد الفلسطيني يعاني من ركود بسبب غياب الاستقرار السياسي والأمنيquot;، مشيرًا إلى أن هذا الاقتصاد ملحق وتابع للاقتصاد الإسرائيلي بصورة شبه كاملة، كما أنه محروم من الموارد الطبيعية والاقتصادية المهمة، ويعاني من خلل في التوازن المالي بسبب العجز الدائم والمستمر في الموازنة الفلسطينية.
وأشار أبو بكر إلى أن الاقتصاد الفلسطيني يمتاز بالتفاوت الكبير بين نمو الإنتاج ونمو الاستهلاك، والاعتماد شبه الكامل على الخارج في تمويل الإنفاق الاستهلاكي، إلى جانب استفحال ظاهرتي الفقر والبطالة في المجتمع، والانفصال الفلسطيني الداخلي، والحصار الاقتصادي والأمني، وجدار الفصل العنصري الذي يقطع أوصال الوطن، إلى جانب الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية، مبينًا أن هذه العوامل مجتمعة تساهم في جعل الاقتصاد الفلسطيني فريدًا من نوعه ويعاني من أزمة حادة.
وحول ما هو مطلوب للنهوض بالاقتصاد الفلسطيني، أكد أبو بكر أهمية الحل السياسي، معتبرا أنه بوابة الاستقرار الاقتصادي، لافتًا إلى أنه ليس هناك ما يبشر بنتائج ايجابية في حال استمرت معاناة الشعب الفلسطيني وكذلك الحصار الاقتصادي والأمني. وقال quot;إن تمويل مشاريع اقتصادية سيؤثر في بناء القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني وبنيته التحتية ويعمل على خلق فرص عمل.
وأضاف: 'لا بد من توافر معطيات معينة من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية بصورة تدعم صمود المواطن الفلسطيني على أرضه، تتمثل في ضرورة تلازم الدعم الاقتصادي الذي أقر من المجتمع الدولي مع المسار السياسي'.
ودعا إلى بلورة استراتيجيات وسياسات وآليات واضحة المعالم وحقيقية وفاعلة تضمن ربط الاقتصاد الفلسطيني بعمقه العربي، حيث أن ذلك منوط بمدى تأثير وضغط ونفوذ الدول العربية بالتأثير على المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه.
وبالنسبة إلى التضخم وارتفاع الأسعار الذي تعاني منه الأراضي الفلسطينية، أوضح أبو بكر أن معدلات التضخم ارتفعت إلى أرقام غير مسبوقة وخاصة مع بداية العام الماضي، وبلغ هذا التضخم أشده مع وصول أسعار النفط إلى أكثر من 105 دولارات للبرميل، وانخفاض أسعار تبادل الدولار الأميركي بشكل كبير، إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم إلى أكثر من 40 في المئة حسب تقرير منظمة الفاو، الأمر الذي أثر على دخل المواطن الفلسطيني وخاصة الطبقة الفقيرة والمتوسطة، حيث انخفضت القدرة الشرائية إلى أكثر من 20في المئة وأصبح المواطن غير قادر على تلبية متطلباته الأساسية.
ورأى أبو بكر أن القطاع الخاص مقسم بين قطاع كبير الحجم وصغير ومتوسط الحجم، مؤكدا على أهمية القطاع الخاص الصغير والمتوسط الحجم، وأنه أدى دورًا أساسيًا في صمود الشعب الفلسطيني لأكثر من أربعة عقود في وجه الاحتلال، منوهًا إلى تدهور أوضاع هذا القطاع في السنوات الثماني الأخيرة. وأضاف: quot;لا توجد ضمانات لحماية رأس المال بكافة أشكالهquot;، مؤكدًا ضرورة وجود القوانين والبنية التحتية الضرورية للحفاظ على رأس المال بقدر المستطاع.
وقال الدكتور جهاد الوزير محافظ سلطة النقد الفلسطينية خلال لقائه برجال أعمال فلسطينيين في الضفة الغربية quot;إن المؤشرات الاقتصادية تشير إلى بداية خروج الاقتصاد من أزمة 2006، إذ إن الاقتصاد الفلسطيني تراجع بشكل حاد عام 2006 حوالى 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، حتى وصل التراجع مقارنة بعام 1999 إلى 40 في المئة، وهذا التراجع عند الباحثين في الاقتصاد هو ضعف أسوأ أزمة اقتصادية عرفتها أسواق العالم Depression في الولايات المتحدة عام 1929 التي ضربت اقتصاديات العالم ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانيةquot;
وأضاف أن الأزمة في الأراضي الفلسطينية أسوأ من الأزمة الأرجنتينية، ولكن منذ منتصف 2007 بدأت حدة التراجع الاقتصادي تتباطأ بنسبة 15في المئة، ليصبح معدل دخل الفرد السنوي 1044 دولارًا، مع العلم أن معدل دخل الفرد سنة 1994 وصل إلى 1600دولار.
وأشار إلى أنه يمكن القول إن معدل النمو (التراجع) في 2007 في الربع الثالث والرابع وانتظام الرواتب من قبل الحكومة وعودة الحركة الاقتصادية من جديد عوضت عن التراجع، ليصل إلى ما يقارب الصفر، وهذا ما يعطي تفاؤلاً بالنسبة إلى العام الحالي (2008) والتوقعات الاقتصادية بعودة الحركة الاقتصادية، خاصة إذا بدأت نتائج مؤتمر باريس الاقتصادي ووعود بدعم السلطة بـ 7.7 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة بالتأثير بالايجابي على الحركة الاقتصادية، وهذه التأثيرات ستبدو أكثر وضوحًا في الربع الثالث والرابع من هذه السنة.
وأوضح الوزير أن هناك عاملين أساسيين يؤثران على التحسن الاقتصادي وهما: الحصار الخانق على قطاع غزة وهو أيضًا يلقي بآثاره على الضفة الغربية من خلال فقدان المنتجين من 30 أو 40 في المئة من الأسواق التقليدية في قطاع غزة سواء بسبب الحصار المفروض على غزة، أو بسبب ضعف القوة الشرائية في القطاع. وأضاف: كذلك في الضفة الغربية، فإن الحواجز ونظام الخنق المتبع من الاحتلال والحواجز التي تتجاوز 560 حاجزًا تبقى العامل الأكبر في التأثير على الحركة الاقتصادية، وهو ما يتم التركيز دائمًا بشأنه مع الدول المانحة.
وأشار إلى نجاح سلطة النقد حتى الآن في تجنيب الجهاز المصرفي التجاذبات السياسية الناجمة عن الانقسام الذي حصل وإبعاد الجهاز المصرفي عن هذه الحالة قدر الإمكان، والعنصر الأساسي لهذا النجاح هو التزام سلطة النقد والبنوك التام بالقانون وحرفية القانون، والالتزام بالمعايير الدولية، سواء من حيث تطوير الأداء أو من حيث الالتزام بمعايير بازل II المصرفية، أو من خلال إصدار قانون مكافحة غسل الأموال لكي يشكل صمام أمان لسلامة هذا الجهاز المصرفي، آملاً أن تعود الوحدة الوطنية لأنها تشكل الخيار الوحيد للشعب الفلسطيني.
وقالquot; إنه على الرغم من كل المصاعب التي تواجه القطاع المصرفي، فلقد حقق هذا القطاع نموًا بحوالى 22 في المئة عام 2007 عن العام الذي سبقه، ليتجاوز إجمالي أصوله 7 مليارات دولار، وليرتفع رأس المال المدفوع إلى 530 مليون دولار، ولترتفع الودائع إلى أكثر من 5.1 مليار دولار، ولعل احد أسباب هذا النمو هو تعزيز العلاقة التشاورية بين المصارف وسلطة النقد وإصرار سلطة النقد على الالتزام بالمعايير الدولية واخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة المخاطر ورفع رأس المال.
- آخر تحديث :
التعليقات