د.هاشم بن عبدالله الصالح: بلا شك أن ارتباط الريال بالدولار وما لهذا الارتباط من انعكاسات اقتصادية, اليوم محل نقاش واسع ومتعدد الجوانب. فالدولار لم يعد العملة الدولية الأقوى بعد أن أطاح به اليورو الأوروبي, ولكن دول العالم ما زالت مترددة في التخلي عنه بالكامل لأن أمريكا وإن مرض اقتصادها وتوعكت سوقها المالية وضربتها أزمات اقتصادية من فترة إلى أخرى إلا أنها ما زالت السوق الأكثر جذبا للأموال والاستثمارات. فالدولار اليوم هو في أسوأ حالاته, وهو بذلك يعكس تدهور الاقتصاد الأمريكي وما يمر به من عجز كبير في المدفوعات وأزمات ضخمة آخرها أزمة الرهن العقاري التي من المتوقع أن تصل خسائرها إلى أكثر من تريليون دولار, وهذا غير ما ستتسبب فيه من تراجع في النمو الاقتصادي وضعف في توجه المزيد من الأموال الخارجية للاستثمار في السوق الأمريكية. فصحيح أن تخلي الدول والمؤسسات المالية العالمية عن الدولار مؤشر قوي على عدم الثقة بمستقبل الاقتصاد الأمريكي, ولكن هناك الكثير من المحللين من يرى أنها هجرة مؤقتة وستعود للدولار مكانته لأن الاقتصاد سيعاود النهوض مجددا وسيبقى هو الاقتصاد الأضخم على الأقل للعقود الثلاثة المقبلة.
فلسنا الوحيدين في حيرتنا مع الدولار وليس كما يظن البعض أن التخلي عنه هو انفكاكك بالكامل لهذه العلاقة وما لها من تأثيرات اقتصادية علينا. فعلاقتنا مع الدولار لنا فيها نصيب وللدولار فيها نصيب كبير أيضا, وبالتالي فالعلاقة بينهما هي أكبر وأعقد من أن ننهيها وحدنا. ولعل البعض وجد في دعوة كرين سبان الأخيرة في منتدى جدة الاقتصادي التي أكدت أهمية خيار التخلي عن الدولار هو تأكيد آخر ومن شخص هو الأكثر خبرة بهذه الأمور على حاجتنا إلى مثل هذه الخطوة ولكن في الحقيقة أن دعوة كرين سبان هو لتعويم العملة أكثر مما هي دعوة لفك الارتباط بين العملتين, وهذا ما تريده أمريكا لكل دول العالم, لأن هذا الأمر من ضرورات التجارة الحرة وغير المقيدة.
وقد يرى البعض أن مشكلة التضخم الكبيرة التي نعانيها اليوم وما تتسبب فيه من ارتفاع في أسعار المواد الأساسية وغير الأساسية وما أدت إليه من تراجع في قدراتنا الشرائية, كلها مبررات مشروعة للإعلان وبسرعة عن فك ارتباطنا بالدولار, ولكن هل ارتباط العملتين فعلا السبب الرئيس للتضخم وأن الحل المطلوب للسيطرة عليه هو اتخاذ مثل هذه الخطوة؟ فكل العارفين بالأمور الاقتصادية يعلمون علم اليقين أن التضخم في معظمه مرده إلى الارتفاع الكبير في أسعار النفط والمواد الأولية الأخرى, فهل لنا أن نتوقع أسعار منتجات وخدمات يدخل في تصنيعها وإنتاجها بترول سعر برميله الواحد أكثر من 100 دولار مثل أسعار المنتجات والخدمات في السابق عندما كانت الأسعار دون الـ 30 دولارا؟ فالغلاء هو اليوم مشكلة عالمية ونحن أكثر تأثرا بها لأننا ببساطة نستورد كل شيء, الطعام والدواء واللباس ومعظم حاجاتنا الاساسية والكمالية, وبالتالي فنحن نستورد التضخم كما نستورد كل هذه المنتجات والأشياء. وما يزيد من هذه الضغوط التضخمية هو تنامي استهلاكنا مثل هذه المنتجات ووراء ذلك عدة أسباب والعامل الأهم هو انتعاش دول العالم اقتصاديا وصناعيا, وبالأخص الصين والهند, ما زاد من حدة الإقبال على شراء المواد الأولية التي من الطبيعي أن تدفع إلى الأعلى بأسعار هذه المواد الأولية عالميا. فالارتباط بالدولار له بالتأكيد تأثير ملموس في الأسعار والغلاء عندنا ولكن القصة أكبر من انخفاض قيمة الدولار وما ينتج عنه من انخفاض لقيمة الريال, فالتضخم نتيجة وخلاصة لشبكة معقدة من الأمور ولا حل لها إلا بحلول تتناسب وطبيعة العوامل المسببة لها.
فإنهاء علاقة الريال بالدولار هل ستعني أن الدولار سيتركنا لحالنا وبالتالي سنتخلص من مشكلات تدهوره وانحدار قيمته؟ نحن نعلم أن دخل المملكة الرئيس هو من النفط, وأن النسبة في ذلك ربما تصل إلى 90 في المائة, وأن هذا النفط يشترى منا بالدولار, فـ 90 في المائة من دخلنا هو ببساطة دولارات وثروتنا الحقيقية هي ثروة دولارية. فلو افترضنا أننا سنخفض من قيمة الدولار أمام الريال فإن هذا سيعني أننا سنقلل من قيمة ما نملكه من ثروة, وهذا له انعكاسات سلبية متعددة على الاقتصاد المحلي. فنحن نعرف أننا دولة مستوردة للعمالة, وأن اقتصادنا يعتمد وبشكل رئيس على العمالة الأجنبية والشركات الكبيرة غير الوطنية, وأن التقديرات تشير إلى أن هؤلاء العمال الأجانب يحولون سنويا للخارج أكثر من 50 مليار ريال, فانخفاض قيمة الدولار أمام الريال سيعني أننا سنفقد من الدولار وهو مدخولنا الرئيس من العملة الصعبة, مقابل ما سنحصل عليه من خدمات نفسه. والأمر نفسه ينطبق على عوائد الاستثمارات الخارجية في الداخل وأنها بسبب ارتفاع الريال مقابل الدولار سيعني المزيد من فقدان ما يدخل علينا من ثروة من العملة الصعبة وهي الدولار. فما دام دخلنا الرئيس هو من النفط وما دام دول العالم تشتري النفط بالدولار فإن علاقتنا بالدولار ستبقى وإن أردنا غير ذلك.
أما قصة التضخم والعلاقة بالدولار, وكما ذكرنا سابقا فإن ارتفاع الأسعار هو اليوم ظاهرة عالمية وإن كانت هناك أسباب محلية جعلتنا نعاني أكثر هذه المشكلة, فلعلنا لم نحسن الاستعداد لقدوم مثل هذه المشكلة وكل المؤشرات كانت تنبئ بقدومها, فالارتفاع التدريجي والمتواصل لأسعار البترول ومواصلة الهند والصين نموهما وبمستويات عالية هي كلها في الحقيقة لمن قرأها وحللها وبشكل جيد, عوامل من الطبيعي أن تنتج مثل هذا التضخم العالمي. ولا ننسى أن مشكلة الإسكان عندنا وارتفاع تكلفة البناء والاستئجار, هي اليوم لها دور كبير في الضغط على مستويات المعيشة عندنا, ولكن هذه المشكلة نحن من تسبب فيها وبشكل كبير نظرا لعدم حسن التخطيط والتنظيم والإدارة لهذا القطاع الحيوي والمهم. فالعلاقة بالدولار ليس لها ذلك التأثير الكبير في التضخم, وهذا ما استشعرته حتى الدول التي عدلت من قيمتها بالدولار مثل الكويت. فما سنشتريه من منتجات بالعملات الأجنبية الأخرى هو في الحقيقة شراء بالدولار لأننا بالدولار سنشتري تلك العملات الصعبة الأخرى, وهذا هو سر علاقتنا المتشابكة بالدولار, فلو كانت لنا صادرات أخرى كبيرة غير البترول فربما يكون الحال نوعا ما غير ذلك.
وعدم إمكانية إنهاء العلاقة بالدولار لا تعني أبدا عدم قدرتنا على تصحيح العلاقة بين الريال والدولار, وبتصحيح هذه العلاقة نستطيع أن نعزز قدراتنا في التخفيف من الآثار السلبية لتقلب الدولار في أوضاعنا الاقتصادية. فالارتباط بالدولار لا يمنعنا من أن يكون عندنا احتياطي نقدي من العملات الصعبة الأخرى الرئيسة, وهذا يعطينا قدرا من التوازن في قدرتنا الشرائية. والعلاقة بالدولار لا تعني بالضرورة أن تكون معظم استثماراتنا الطويلة المدى في الخارج بالدولار, لأن التنوع في الاستثمارات يجعلنا أكثر مرونة وأكثر قدرة على استيعاب ما يتعرض له الدولار من التقلبات. فبالتاكيد عندما تكون لنا استثمارات كبيرة بالدولار فتفكيرنا بها وبتقييم الآخرين لها سيصعب من علاقتنا بالدولار وسيزيد من تأثيره فينا. وقد يتطلب التصحيح في العلاقة أن نفكر ولو مؤقتا بأكثر من سعر للريال مقابل الدولار, فاستيراد المواد الاستهلاكية الأساسية ربما يكون لها معدل صرف خاص بها وهو من باب الدعم لها من أجل تخفيض أثر انخفاض الدولار عالميا وثباته عندنا. صحيح أن مثل هذه الخطوة غير محبذة للاستقرار الاقتصادي, ولكن قد تكون مجدية في مثل هذه الظروف التي نمر بها. وتبقى مسألة تنمية صادراتنا غير النفطية وما لهذا الأمر من دور كبير في التخفيف من أثر تقلبات أسعار العملات فينا, فالتوسع في الصادرات غير النفطية هو الخيار الأفضل لامتلاك الريال قوة ذاتية ومستقلة في مقابل العملات الأخرى, وكلما نحقق خطوة في هذا الطريق كنا في مأمن ولو بشكل نسبي من هبوب تضخمية ليس في قدرتنا السيطرة عليها.
فستبقى الدعوات والمطالبة بإنهاء العلاقة بالدولار, ولا يمكن التقليل مما لهذه الخطوة من فوائد وإيجابيات, على الأقل في جوانب معينة ولكن علاقة بمثل هذا التعقيد لا بد من التفكير أولا في تصحيحها, لأنها هي أكبر من أن ننهيها بالفعل من طرف واحد. فالمطلوب مراجعة هذه العلاقة والعمل على إعادة تشكيلها ولو بشكل تدريجي في إطار ما تقتضيه مصالحنا الاقتصادية والاستراتيجية.
- آخر تحديث :








التعليقات