د. عبد العزيز الغدير
القراءة في معناها الحقيقي تتعدى فك الخط والأسوار الأبجدية والحدود اللغوية إلى عالم المعاني العميقة والمفاهيم السليمة, بل القراءة الحقيقية هي قراءة ما بين السطور لتشخيص دقيق من بعد بناء صورة واضحة مترابطة العناصر والمكونات، والتشخيص بعد القراءة يحث الإنسان على اتخاذ القرار الأكثر رشدا لصالحه ولصالح الدوائر التي ينتمي إليها أيا كانت تلك الدوائر، كما يحث التشخيص السليم الإنسان منفردا أو الإنسان مجتمعا على ابتكار الأفكار العلاجية لقضية أو مشكلة أو موقف ما بما يؤدي إلى الاستمرارية والنمو والتطور.

ولا شك أن دقة القراءة تتفاوت من فرد إلى آخر استنادا إلى منظومة المعارف والقيم والمفاهيم التي يحملها في ذهنه, وإذا شئتم أن تتأكدوا من ذلك فانظروا الردود على أي مقالة تتعرض لقضية رأي عام سواء كانت تلك القضية اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية لتروا العجب, فكل يرد على مستوى فهمه الذي يعكس عمق قراءته, كما يعكس منظومة القيم والمفاهيم التي يحملها, خصوصا تلك المتعلقة بمفاهيم الحوار وآدابه والانفتاح من الانغلاق والثوابت والمتغيرات, وكل من يتابع الردود على المواقع الإلكترونية في صحافتنا ويرى الكم الكبير من الردود التي تدل على سحطية القراءة يتأكد له نجاحنا في محو أمية القراءة الأبجدية وفشلنا في محو أمية قراءة المعاني والمفاهيم.

أحد الإخوة يقول إن لديه موظفا ينتدبه لحضور محاضرات ومنتديات واجتماعات ليأتي له بالمفيد, يقول إنه لاحظ ملاحظة عجيبة حيث لا يأتي هذا الموظف إلا بما يتوافق مع هواه وقيمه ومفاهيمه لدرجة أن ينقل ما دار في الاجتماعات بصورة مخالفة لما في الاجتماع, حيث ينقل نتائج الاجتماع كما يريد لا كما خلص له المجتمعون, ويضيف القائل إنه أدرك في نهاية الأمر أنه أمام موظف فاشل في القراءة العميقة للمعاني, بل إنه أمام رجل يقرأ قراءات مسبقة ما يؤدي إلى تبنيه مواقف غير واقعية تجعله يغرد خارج كل سرب هو أحد أعضائه ومع الأسف الشديد, ولا شك أن أمثال هذا كثير ولا حصر لهم وما ذلك إلا لإهمالنا مفهوم القراءة العميقة, القراءة التحليلية لما هو منشور أو مبثوث من خلال الوسائل المسموعة والمرئية والمرتبطة ارتباطا وثيقا بقدرتنا على القراءة والاستماع الكامل بحضور ذهني بدل القراءة والاستماع السطحي الانتقائي الذي يوافق مواقفنا المسبقة غير القابلة للمناقشة.

قراءة أخبار الشركات وإعلاناتها وقوائمها المالية المدرجة في السوق المالية من أصعب أنواع القراءات رغم أنها كلمات وأرقام يستطيع الجميع قراءتها أبجديا ورقميا, هذا إذا افترضنا أن تلك الشركات تكتب أخبارها وإعلاناتها وتصدر قوائمها المالية بطريقة سليمة وواضحة وشفافة, وهو أمر لم يتحقق حتى الآن, حيث التلاعب في الألفاظ وتضليل فطاحل القراء الماليين والاقتصاديين, فضلا عن عموم المتعاملين في السوق الذين لا يرون في القوائم المالية وتحليلاتها سوى طلاسم تحتاج إلى قارئ ضليع يفك رموزها.

قراءة الأخبار الاقتصادية والسياسية وأخبار القطاع الاقتصادي الذي تنتسب إليه الشركة المدرجة ومن ثم قراءة إعلاناتها وقوائمها المالية ليست بالقراءة السهلة التي يستطيع غير المتخصص والضالع في هذه المجالات أن يقوم بها بعمق ليقرأ ما بين السطور ويصل إلى حقائق تجعله أكثر قدرة على بناء موقف وقرار رشيد, ذلك أن تلك القراءات قراءات فنية تحتاج إلى علم ومعرفة ومهارة وخبرة, ولا شك أن هذه الأمور ليست متاحة لجميع المتعاملين في السوق المالية.

ماذا يفعل المتعاملون في السوق المالية ليعوا المعاني العميقة الكامنة في كل كلمة وفي كلمة رقم في أخبار وإعلانات ونتائج الشركات المدرجة ليستطيعوا تشخيص وضع الشركة تشخيصا سليما من أجل اتخاذ موقف مضاربي أو استثماري أكثر رشدا؟ خاصة أن كثيرا من المتعاملين في السوق المالية يئسوا من قدرة هيئة السوق المالية على إلزام الشركات المدرجة باتباع صيغ موحدة أو دقيقة أو واضحة, كما يئسوا أيضا من سلامة نية القائمين على الشركات المدرجة من حيث صياغة الأخبار والإعلانات والقوائم, فضلا عن عدم تسريبها قبل الإعلان على الموقع الرسمي quot;تداولquot; لمن يريدون لجمع الأسهم من تحت وبيعها فوق عند إعلان الأخبار السارة منها أو العكس بيع الأسهم فوق وجمعها من تحت عند إعلان الأخبار غير السارة.

ثلاثة خيارات لا رابع لها من أجل قراءة عميقة تؤدي إلى بناء صورة سليمة تفضي إلى قرار مالي رشيد, الأول تطوير القدرات الشخصية للقراءة العميقة للأخبار والإعلانات والقوائم, خصوصا تلك التي تمكن المستثمر من الضلوع في التحليل الأساسي, والثاني الاستعانة بشركات الاستشارات المالية, خصوصا تلك التي تجتنب تضارب المصالح, وهي مع الأسف الشديد نادرة, والثالث الاستعانة بقراءات لمحللين محترفين مهنيين, خصوصا المواقع المعتمدة مثل موقع quot;أرقامquot;, الذي يشرف عليه نخبة سعودية تؤمن بأن نجاح الموقع يعتمد على مصداقيته ومدى قدرته على مساعدة الأفراد على بناء قرارات مالية واقتصادية أكثر رشدا, ومن كان لديه وسيلة غير ذلك ـ خلاف التوصيات والشائعات - فليرشدنا مشكورا.