تبرز معطيات المشهد الاقتصادي في الجزائر خلال الربع الثالث من العام الحالي، تأثير أزمة المال الكونية على توازنات الاقتصاد المحلي، في صورة ناتج الميزان التجاري، الذي تراجع بـ31.5 مليار دولار، أضف إلى ذلك انخفاض أرباح الشركة النفطية الأولى quot;سوناطراكquot; في بلد يقوم 97 % من اقتصاده على المحروقات. ويرى خبراء تحدثوا إلى quot;إيلافquot; أنّ التصريحات المتكررة لمسؤولين حكوميين من أنّ الجزائر في منأى عن الأزمة، تكذبها شواهد الميدان، خصوصًا ما اشتمل عليه قانون الموازنة التكميلي أخيرًا من تدابير صارمة على حركية التجارة الخارجية، وإلغاء قروض الاستهلاك.


الجزائر: في ظلّ عدم امتلاك الجزائر بورصة بالمعنى المتعارف عليه دوليًا، واقتصار طرح أسهم الشركات فيها على عدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، يبقى الحصول على نتائج الشركات بشكل دقيق ودوري صعبًا، وخاضعًا لتقييمات تصدرها إدارات المجموعات بين فترة وأخرى، أو ما يكشف عنه المركز الجزائري للإعلام والإحصاء، الذي تفيد بياناته أنّ ناتج البلاد في السداسي الأول من العام الجاري، تراجع بـ31.5 مليار دولار، فبعدما كانت قيمة الإنتاج في الجزائر السنة المنقضية 161.58 مليار دولار، فقد صارت هذه السنة بحدود 130 مليار دولار، وهو اختلال يفسّر بانخفاض أسعار النفط إلى القاع، وهبوب رياح الأزمة المالية العالمية، إضافة إلى استمرار هبوط مستوى الصادرات غير النفطية.

وعلى الرغم من أنّ حجم الإنتاج بقي مضاهيًا لما تم تسجيله العام الماضي، إلاّ أنّ التدهور المستمر لأسعار المحروقات أدى إلى نزولها الكارثي من 150 دولار للبرميل في يوليو 2008 إلى 33 دولارًا منذ نهاية العام المنقضي. ولعلّ انخفاض الناتج مرتبط أساسًا بهبوط العائدات النفطية الجزائرية خلال الأشهر الستة الأولى لهذا العام، حيث لم تتجاوز قيمة ما حققته مجموعة سوناطراك البترولية 19.9 مليار دولار، بعدما حصدت 32 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ويبرّر quot;محمد مزيانquot; الرئيس المدير العام لمجموعة سوناطراك، هذا التراجع بانخفاض أسعار برميل الخام.

وعلى الرغم من إنعكاسات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية على النشاط الصناعي في الجزائر، فإنّ الأخيرة تتابع سائر مشاريعها التنموية التي تتمحور حول قطاع الإنشاءات والبنى التحتية والتصنيع والنشاط التجاري والنقل البحري، وكذا تنويع الخدمات.

ويرجّح الخبيران quot;أنيس بن مختارquot; وquot;سليم لعجايليةquot; أنّ الأزمة المالية ستلقي بظلالها على مستوى النمو، الذي بلغ العام الماضي نسبة 3.9 %، مقابل بلوغ التضخم في الجزائر نسبة 5.63 % في الربع الأول من العام الجاري، على أساس انزلاق سنوي. وجرى إرجاع هذه الزيادة في نسبة التضخم إلى ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية المستوردة، ولمواجهة هذا النوع الجديد من التضخم، يواصل بنك الجزائر تثبيت معدل الصرف الفعلي، مع إدارة صارمة لتدخلات السياسة النقدية.

ويسوغ بن مختار ولعجايلية اتجاههما، بما تعرفه الصادرات الجزائرية من انخفاض كبير، وهو ما ستكون له تبعاته على استقرار الميزان التجاري الجزائري، حيث بلغت قيمة الصادرات الجزائرية خلال السداسي الأول من العام الجاري 20.7 مليار دولار، ما يمثل تراجعًا قدره 46.47 % مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2008، ما يعني انخفاضًا نصفيًّا مقلقًا، خصوصًا مع تدني حجم صادرات الجزائر خارج المحروقات.

في المقابل، عرف سلّم الواردات ارتفاعًا بنسبة 4.4 %، حيث وصلت إلى 19.70 مليار دولار مقارنة بالفترة نفسها من العام المنقضي، وتسبب هذا الطارئ في انخفاض نسبة تغطية الصادرات على الميزان التجاري للجزائر، الذي انتقل من 19.75 مليار دولار خلال السداسي الأول لسنة 2008 إلى 1.1 مليار دولار خلال الفترة نفسها من السنة الجارية، بنسبة تغطية للواردات من قبل الصادرات وصلت إلى 105 %.

ويرى الخبير بن مختار أنّ الاقتصاد الجزائري سيواصل تأثره بالأزمة الاقتصادية العالمية، حتى في ظلّ انغلاق الاقتصاد المحلي وعدم وجود سوق مالية بالمعنى الفعلي في الجزائر، إضافة إلى عدم وجود ارتباطات مصرفية للبنوك الجزائرية مع البنوك العالمية. ويشير لعجايلية إلى أنّ الجزائر لا تعتمد على تصدير منتجات، عدا المحروقات، وذالك يجعلها في مأمن من أي كساد قد يصيب الاقتصاد العالمي، كما إنّ الحكومة الجزائرية تعتمد على موازنة بسعر مرجعي يقل كثيرًا عن أسعار السوق، وهذا ما يجنبها أي إشكالات في حالة انخفاض أسعار البترول، وهذا الإجراء لم يتفهمه الكثيرون، لكنه أثبت نجاعته الآن.

ويلتقي بن مختار ولعجايلية في محاذير قائمة، كاختلال التوازنات المالية الكبرى، إن استمرت أسعار المحروقات في الانهيار، ودور ركود اقتصادي محتمل في الحد من الاستثمارات الخارجية المباشرة في الجزائر، والتي تأتي من أوروبا بحوالي 35 %، إضافة إلى أنّ 80 % من تبادلات الجزائر التجارية تتم مع أوروبا، ناهيك عن تراجع التحويلات المالية من المغتربين، لا سيما أولئك المقيمين في أوروبا. في المقابل، يعتقد المختص quot;فارس فتح اللهquot;، أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية قد تجلب العديد من الفوائد للاقتصاد الجزائري، معلّلاً نظرته بأنّ الجزائر، كبلد مستورد، ستستفيد من أي انخفاض في أسعار العديد من السلع في السوق العالمية، فضلاً عن كون انخفاض تكاليف مواد الإنتاج من شأنه إنعاش الاقتصاد الجزائري، على غرار نزول أسعار الحديد وتأثيرها على قطاع البناء في الجزائر.

وتقدر وكالة ترقية التجارة الخارجية، قدرات الجزائر في مجال الصادرات الزراعية وحدها بحوالى 430 مليون دولار سنويًا، بيد أنها لا تتعدى حاليًا مستوى 30 مليون دولار، وعلى الرغم من إقرار تسهيلات أكبر للمصدّرين، إلاّ أنّ دار لقمان لا تزال على حالها، حيث يبقى النفط مهيمنا بـ97 % على صادرات البلاد، ما جعل حجم الصادرات خارج المحروقات لا يتجاوز 1.3 مليار دولار، في مقابل سيطرة النفط على منظومة الإيرادات العامة في البلاد.

وتسوق الجزائر نحو ثلاثة آلاف منتج في أسواق دولية، بينها الزيوت والزيتون والتمور والبرتقال والفلين والحلي، وعلى الرغم من منح الحكومة الجزائرية أولوية خاصة للبحث عن سبل ووسائل كفيلة بتحسين إنتاجية ونوعية وخبرة المؤسسات الجزائرية بغية التوصل إلى دخول أسواق جديدة عبر العالم، إلاّ أنّ المنتجات الغذائية الطازجة ومنتجات الصيد البحري (القشريات)، علاوة على المواد المصنعة، لا تزال في quot;خبر كانquot;.

وتراهن الجزائر خلال المرحلة المقبلة على رفع حجم صادراتها خارج المحروقات إلى حدود أربع مليارات دولار، وقال quot;عمر بنينيquot; المدير العام للوكالة الجزائرية لترقية التجارة الخارجية، إنّ تحقيق هذا الهدف ممكن، إذا ما تم استغلال جميع طاقات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وجرى الارتقاء بمنظومة الصادرات ككل، وعلّق المسؤول نفسه أنّ الأمر يشكل تحديًا، معتبرًا أنّ التوصل إلى صادرات أوسع نطاقًا وأرفع قيمة يعد هدفًا واقعيًاquot;.