إذا كان الانطباع العام بأنّ الحكومة الجزائرية قد نجحت في إمتصاص ثورة مواطنيها على لهيب الأسعار من خلال ما أقرته من تخفيضات، فإنّ عموم الخبراء يؤكدون لـquot;إيلافquot; على أنّ الوضع الاجتماعي quot;هشquot; ومرشح للاحتقان مجدداً طالما أنّ السلطات إرتضت كالعادة حقناً مهدئة وحلولاً ترقيعية ينتهي مفعولها في غضون ثمانية أشهر، ما يجعل مرحلة ما بعد 31 أغسطس/آب القادم مشرّعة على توتر متجدد بين المسؤولين والمستهلكين.


الجزائر: تواظب الوزارة الأولى في الجزائر على التهليل لما تسميه إنجازاً، غداة تطبيقها إجراءات إستثنائية سمحت بتخفيض نسبي لأسعار المواد الأكثر إستهلاكاً وفي صدارتها الزيت والسكر اللذين أثارا الجدل.

وبموجب تخفيضات قدّرت بـ41 بالمئة من سعر الكُلفة، صار سقف أسعار والزيت محدداً على التوالي بـ90 ديناراً للكيلوغرام بالنسبة للسكر مقابل 125 ديناراً منذ بداية السنة، وبـ600 دينار مقابل 780 دينار لدلو 5 لترات من الزيت المتوسط النوعية، و250 ديناراً مقابل 330 ديناراً لقارورة لترين و150 ديناراً مقابل 180 ديناراً لقارورة لتر واحد، بالتزامن مع إبقاء أسعار القمح مدعومة من لدن الدولة، ما يكلّف الخزانة العامة مخصصات بقيمة 30 مليار دينار (حوالي 300 مليون يورو).

بيد أنّ المستوى الحالي لهذه الأسعار لن يبقى كذلك على الأرجح، لكون العملية خاضعة لتعليق مؤقت يعفي التجار والمورّدين والموزعين من دفع كافة الرسوم والضرائب وكذا الحقوق الجمركية المطبقة على استيراد السكر الأحمر والمواد الأساسية التي تدخل في إنتاج الزيوت الغذائية، إلى غاية نهاية شهر أغسطس/آب القادم، علما أنّ الجزائر أعلنت عن ترسيم جهاز قانوني وتنظيمي خاص بضبط الأسعار وتسقيفها، مع تحديد هوامش الربح بالنسبة للمواد واسعة الاستهلاك، على درب تنظيم تام للسوق.

3 أسباب ترشّح الوضع للتأزّم

إذا كان وزير التجارة الجزائري quot;مصطفى بن بادةquot; يشدّد على أنّ مصالحه ستتصدى مستقبلاً وبصفة مستمرة لأي تقلبات في الأسعار، من خلال التشاور مع المتعاملين المعنيين بغية تحديد نظام كفيل بضمان الإستقرار الدائم لأسعار السكر وزيت المائدة.

إلاّ أنّ quot;حبيب بوخليفةquot;، quot;أنيس نواريquot;، quot;مراد بوكلةquot; وquot;فارس فتح اللهquot; يرون في تغييب دوائر القرار لخطة شاملة بعيدة الرؤيا، وما يسمونها quot;شروخ السياسات المعتمدةquot;، بجانب quot;الإحتكار المهيمنquot; في وسط موسوم بهشاشة توازنه التجاري، ثلاثة أسباب تتلاقى لتنذر بإمكانية إستنساخ أزمة الخامس يناير، ما يعرّض المستهلكين إلى مزيد من quot;شدّ الحزامquot; على الصعيد المعيشي.

ويلفت quot;أنيس نواريquot; إلى خصوصية الوضع الراهن الذي يتميز بإحتكار مادة السكر في السوق المحلية، تماماً مثل تجارة المواد الأكثر إستهلاكاً في الجزائر، كالزيت والقمح بنوعيه والحليب، ما يفسّر كل القلاقل التي يتم إجترارها كل مرة، ودون إيجاد صيغة ناجعة لهذه المعضلة، ستبقى الأسعار رهينة لتجاذبات المتنفذين.

كما يركّز quot;حبيب بوخليفةquot; على عدم إغتنام السلطة للهيب الأسعار الأخير، كي تفكّر بعمق في إعداد برامج ومخططات بديلة على المديين المتوسط والطويل، وهي خطوة حساسة تفرض نفسها كتحدي إستراتيجي لتأمين البلد غذائياً وإستقراره إقتصادياً، وذاك لن يتأت إلاّ بإشراك جمهور الكوادر والمختصين ضمن تصور يضمن بناء إقتصاد عصري، وهو الأمر الذي لم يتم وسيبقي الأسعار متقلبة ومؤهلة لسخونة أكبر حدة.

ولا يستسيغ بوخليفة تفضيل الحكومة لعب دور quot;الإطفائيquot; فحسب، ورضوخها في كل مرة للضغوط العاجلة، بدل تخطيطها للمستقبل عبر وضع سياسات منهجية بعيدة المدى، مثلما يعيب محدثنا على الحكومة سقوطها في (فخ) إستيراد ما يربو عن40 إلى 50 بالمئة من حاجياتها الغذائية، بجانب عدم إستغلالها التام لمساحاتها الزراعية بالكامل، ما يستوجب تفعيل كل الخبرات المحلية في إيجاد تصور منهجي للخروج من عنق الزجاجة.

ويلفت بوخليفة إلى أنّ الحلول الترقيعية المؤقتة لا تستطيع ان تخلق إقتصاداً متوازنا، بل ستكرّس إغتناء المورّدين وتجار الجملة والإستيلاء أكثر على المال العام، وهذا quot;الإرتجالquot; على حد تعبير بوخليفة يلعب دوراً هاماً في تدمير الثروة الجزائرية، وإفراز مهزلة لا يمكن أن تبني دولة عليها أن تنتصر للتفكير المحكم في التخطيط.

في حين، يلّح quot;فارس فتح اللهquot; على أنّ الأسعار في بلاده ستستمر في التململ طالما أنّ الفجوة الغذائية هناك متصلة بالتبعية المتفاقمة للخارج، وكسر هذه التبعية ممكن عن طريق تكثيف المنتوج وتحفيز المتعاملين المحليين بما يكفل الوفرة ويجعل البلد في منأى عن هزات السوق الدولية والمتحكمين فيها.

ويلفت أخصائيون إلى أنّ نجاح الجزائر في تحقيق إكتفاءها الذاتي ودعم المخزون المحلي من شأنهما إيقاف تبعيتها المزمنة للأسواق الخارجية وانعكاساتها المخيفة، خصوصاً مع مخاطر حصول ندرة غذائية، وتوقعات بإرتفاع قيمة الفاتورة الغذائية للجزائريين إلى حدود 15 مليار دولار بحلول العام 2015، وهي فاتورة ثقيلة ستؤثر بقوة على توازنات إقتصاد محلي تهيمن عليه مداخيل المحروقات المتذبذبة الأسعار.

بدوره، ينتقد الدكتور quot;مراد بوكلةquot; الخبير لدى مركز البحث في الإقتصاد التطبيقي، تكرّس الجزائر كنموذج اقتصادي غذائي قائم على الواردات، لذا يرى بحساسية مراجعة السياسة الزراعية في الجزائر، وبرّر نظرته بالشرخ الموجود، فبعد انقضاء قرابة نصف قرن على استقلال البلاد، إلاّ أنّ سيف التبعية لا يزال مسلطا فوق رقاب مواطنيها، وجزم مراد بوكلة أنّ سياسات الحكومات الجزائرية المتعاقبة مُنيت بفشل ذريع، ما جعل الإفراط في استيراد الغذاء يصل إلى مستوى 7 مليارات دولار سنويا.

على طرف نقيض، يقول quot;فاروق تيفورquot; المستشار بوزارة التجارة، إنّ بلاده تتوفر على الإمكانيات المالية للتدخل عندما يتعلق الأمر بحماية المستهلكين ضد الالتهاب الإستثنائي للأسعار، مضيفا أن الدولة مستعدة كذلك لمواجهة أزمة غذائية محتملة، ولا يمكن لأي كان بحسبه أن يشكك في عزم الدولة الحازم على التدخل كلما كان ذلك ضرورياً من أجل حماية القدرة الشرائية لمواطنيه أمام أي زيادات للأسعار، وهو ما برز بمنظوره عبر قيام فرق مختصة بجرد مخزونات السكر والزيوت المتوفرة.

الحل في تكثيف الإنتاج وردع المضاربين

يدعو quot;طاهر قليلquot; رئيس الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة، إلى ضرورة تشجيع إقامة المزيد من المشاريع الاستثمارية في الصناعات الغذائية، مؤكدا بأنّ ذلك كفيل بالقضاء على الاحتكار الذي يميز الممارسة التجارية في الجزائر، ويقف وراء الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الواسعة الاستهلاك.

ويذهب قليل إلى أنّ السلطات مدعوة إلى تشجيع قيام متعاملين جدد لدخول مجال إنتاج وتجارة وتوزيع المواد الغذائية الأساسية خصوصا السكر والزيت، ما يسمح بخلق المزيد من الوحدات الإنتاجية في الصناعة الغذائية، وفتح المنافسة على أوسع نطاق بين المتعاملين الاقتصاديين إلى جانب التقليل من واردات الجزائر من المواد الغذائية.

وفيما يربط quot;رضا حميانيquot; رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، مسألة الأسعار بتأثيرات الأسواق العالمية وما ترتب عن فيضانات أستراليا وروسيا وارتفاع الطلب بالهند، وكذا التضخم، فإنّه يربط أي حلّ دائم بردع الممارسات الغير قانونية التي تسببت في ارتفاعات فادحة اكتوى بها المستهلكون في شهر رمضان وسائر المناسبات وبلغت منعرجها الأخطر في الأيام العشرة الأولى للشهر الجاري، ولا يستبعد حمياني معاودة الأسعار لارتفاعاتها بسبب ندرة العرض.

وتشير بيانات المركز الجزائري للإحصائيات (هيئة حكومية) إلى أنّ واردات الجزائر من السكر الخام والزيوت الموجهة للصناعات الغذائية بلغت 1.07 مليار دولار خلال العام الأخير بارتفاع 30 % مقارنة بسنة 2009.