يتساءل مراقبون عما إذا كان الاقتصاد غير الرسمي في الجزائر، شر لا بدّ منه، في ظلّ ما يطبع الحركة التجارية المحلية من فوضى وتناقضات، تدفع أزيد من ثلاثة ملايين مستهلك إلى مراودة واجهات الاقتصاد المذكور. وإذا كانت السلطات تلوّح منذ سنوات طويلة بالنيل من عرّابي هذا اللون التجاري المتمرّد على القوانين، إلاّ أنّ التجارة الموازية تغري الفئات الهشة التي تتنفس الصعداء في وسط لا يعترف بالجباية والرقابة، وهو ما تسلط quot;إيلافquot; عليه الضوء في هذا التقرير.


الجزائر: تشير بيانات رسمية إلى وجود 765 موقعا محسوبا على الاقتصاد غير الرسمي، واستنادا إلى نتائج تحقيق ميداني أجرته لجنة قطاعية مشتركة، فإنّ عدد التجار النشطين في هذه الأسواق غير القانونية يزيد عن المائتي ألف تاجر، إلاّ أنّ شواهد عديدة تؤكد على أنّ عدد هؤلاء يفوق الرقم المعلن بكثير.

ويشير quot;مراد بولنوارquot; المتحدث باسم الاتحاد العام للتجار والحرفيين الجزائريين، إلى كون الاقتصاد غير الرسمي صار يستقطب حوالي مليوني شخص، أي ما يمثل قرابة نصف إجمالي التجار على المستوى المحلي، ناهيك عن آلاف الآخرين من اليد العاملة الناشطة في هذه الأسواق التي تتداول 80 بالمائة من السلع والبضائع في نحو خمسمائة سوق يطلق عليها مسمى (فوضوية).

وفي واقع غريب ينطوي على مفارقات أفرزت حياة اقتصادية تتميّـز بمناطق شعبية تشبه الدول، تبيع وتشتري كما تشتهي ولا تعرف مفهوم الضرائب وإتاوات الدولة، يمكن للمتجول في مدن جزائرية عديدة بدءا من الأحياء الشعبية كبلوزداد وباب الوادي وساحة الشهداء وباب الزوار مرورا بمحافظات داخلية كالعلمة وتاجنانت، وصولا إلى مدن الجنوب الكبير، أن يلحظ عشرات التجمعات الاقتصادية المتناثرة التي تتداول المليارات خارج سلطة الضرائب.

ويدق quot;صالح صويلحquot; الأمين العام لاتحاد التجار والحرفيين الجزائريين، ناقوس الخطر، إذ يبدي امتعاضا من كون هذه التجمعات غير الشرعية، فرضت منطقها بالقوة في اقتصاد مفتوح للمنافسة منذ عقدين من الزمن، مستغلة التزايد المستمر للنمط الاستهلاكي العام، وتفضيل الجزائريين المهاجرة بشكل شبه جماعي للفضاءات التجارية الكبرى بسبب أسعارها المرتفعة قياسا بالاقتصاد غير الرسمي.

وفي ديكور يومي، يستعرض آلاف التجار ndash; غالبيتهم من الشباب - كافة السلع وحتى المواد القابلة للتلف بأسعار معقولة أمام إقبال كثيف للمستهلكين الذين يندفعون في حركة شراء دائمة للألبسة والمواد الغذائية والكتب والكراريس وقطع الغيار وغيرها، ويبقى البائعون واقفين طوال ساعات اليوم في محاولة منهم إقناع الناس بشراء شيء ما حتى لو قلّ ثمنه.ويعلّق إسماعيل الذي أعيته سنوات البطالة، أنّه لا يقوم بهذا النشاط الشاق عن طيبة خاطر، لكنها quot;ضرورة الحياةquot; على حد تعبيره، في حين يردف علي بنبرة متعبة:quot;قدمت إلى العاصمة من مكان بعيد في محاولة لسد رمق زوجتي وأبنائي الثلاثquot;.

وإزاء هذه الظاهرة المثيرة، يرى quot;مصطفى مقيدشquot; نائب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، أنّ الاقتصاد غير الرسمي داء معقد للغاية يستلزم علاجا دقيقا ومجزّئا على أساس المجموعات الاجتماعية والمهنية المعنية مع مباشرة تحقيق واسع لتحديد كل مجالات هذه السوق. وخلافا للأسلوب المتوخى في فترات سابقة، يحذر مقيدش من quot;قمع الأسواق غير الرسمية، مقترحا السعي لإعطائها الصبغة الرسمية، واستغلال هذه المرافق في تعزيز شبكات التجارة والتوزيع والتخزين، بعدما عجزت المساحات الكبرى عن فرض نفسها.

بيد أنّ quot;حسان كتوquot; وهو مسؤول محلي، يجزم بأنّ الاقتصاد غير الرسمي أفرز منافسة غير عادلة جعلت بعديد ناشطي التجارة الرسمية إلى رمي المنشفة، بهذا الصدد، يتهّم مسيرو المساحات التجارية والمحلات نظرائهم بقطع أرزاقهم عبر (احتلالهم) بشكل غير مشروع لمساحات شاسعة من الأرصفة والأماكن الاستراتيجية، متجاهلين الضرر الذي يتسببون فيه بالنسبة للتجار الشرعيين والاقتصاد المحلي.

بالمقابل، يحمّل quot;بشير مصيطفىquot; الخبير الاقتصادي مسؤولية انتشار التجارة غير الرسمية في الجزائر إلى برنامج التعديل الهيكلي لصندوق النقد الدولي، هذا الأخير عالج بحسبه، دائرة الاقتصاد الكلي على حساب تنظيم السوق الداخلية. ويشير مصيطفى إلى أنّ خطر الاقتصاد غير الرسمي، لا يقتصر على التهرب الجبائي فحسب، بل يبرز في تغاضي ممارسيه عن الفواتير والصكوك وسائر المستندات التي يُفترض اتخاذها كآلية للمحاسبة، وهو ما يجعل من الاقتصاد غير الرسمي منافسا غير نزيها يربك توازنات النشاط الاقتصادي القانوني.

ويتصور مصيطفى أنّ المخرج يتركّز في فتح كامل لتجارة الجزائر الخارجية، تشجيع الانتاج المحلي واعادة الاعتبار للصكوك بدلا عن الدفع النقدي، وهو ما يستدعي تكثيف الرقابة وتحصين المراقبين برفع رواتبهم. إلى ذلك، يلفت quot;الطاهر كليلquot; رئيس الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة، إلى أنّ ترقية وسائط التشغيل والاستثمار الشباني من شأنها التخلص من تراكمات الاقتصاد غير الرسمي على مدار عشريات، وذاك يقتضي التشاور أيضا مع كافة المعنيين من خلال إدماجهم ضمن مشاريع مئات المحلات عبر البلديات التي قررت السلطات منحها للتجار الشباب لقاء مبالغ إيجار رمزية.

هاجس الأوعية العقارية

بلسان تجار الاقتصاد غير الرسمي، فإنّ المشكلة الأساس تتلخص في انتفاء الأوعية العقارية التي بإمكانها تأطير نشاطهم التجاري ضمن رواق معترف به قانونا. ويشدد مصطفى وحكيم الذين يبيعان أجهزة كهرو-منزلية بسوق باب الزوار (شرقي العاصمة) على أنّه ما كان لهما أن يمارسا نشاطهما بهذا الشكل، لو توافرت مساحات تجارية ملائمة، ويلاحظ التاجران أنّه لا يمكنهما التوقف عن النشاط حتى يستجيبا لحاجيات عائلتيهما شأنهما في ذلك باقي الممارسين.

وكحلول بديلة على درب تكفل تدريجي مستدام متعدد الأبعاد ، اقترح مسؤولون على ناشطي التجارة الموازية، السماح لهم بالحصول على سجلات تجارية وإقحامهم في الأسواق الجوارية واستحداث أخرى وفق الأنشطة الممارسة بين بيع الخضر والفواكه ومواد التنظيف والعقاقير والخردوات والألبسة.

ودعا الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حكومته مؤخرا إلى تخفيف قبضتها على النشاط التجاري غير الرسمي، في انتظار معالجة هادئة تحسبا لإدماجهم تدريجيا في الاقتصاد الرسمي، وعدم حرمان هذه الفئة من حقها الطبيعي في العمل وكسب لقمة العيش.

وستكون الجلسات الوطنية للتجارة المزمع تنظيمها شهر حزيران/يونيو القادم فرصة للحسم في ملف الاقتصاد غير الرسمي ووضع خارطة طريق بالتنسيق مع الفاعلين، بينما تراهن لجنة جرى تشكيلها حديثا على تنفيذ خارطة طريق لوضع حد لظاهرة الاقتصاد غير الرسمي، عبر لجان التعمير التجاري التي ستعنى بمرافقة ادماج التجار غير الرسميين في الاسواق المنظمة في اطار توسيع وتأهيل الأسواق القديمة.