داخل قبو مغلق في حي المقطم جنوبي القاهرة، جلس عدد من الأشخاص مساء الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول منهمكين بالعمل أمام شاشاتهم لساعات. وبينما هم كذلك، فوجئوا بأصوات في الخارج، وبقوة أمنية تهاجم القبو وتلقي القبض عليهم.

يطلق على ما كانوا يقومون به "تعدين العملات الرقمية"؛ عملٌ مقنن في العديد من الدول لكنه محظور في مصر.

"حرام شرعاً"

تفاصيل تلك المداهمة الأمنية نشرت على صفحة وزارة الداخلية المصرية على يوتيوب، كواحدة من المداهمات "الناجحة" ضمن حملة أمنية مكثفة تشنها البلاد منذ سنوات ضد متداولي العملات المشفرة أو الرقمية.

وكما في كثير من القضايا التي تأخذ حيزاً من اهتمام الرأي العام، خرجت أعلى سلطة للفتوى في مصر وهي "دار الإفتاء المصرية" لتقول رأي الدين في الأمر مثار الجدل، ولتعلن أن التعامل بالعملات المشفرة "حرام شرعا كونه يضر الاقتصاد الوطني".

أما البنك المركزي فحذر من التعامل في كافة أنواع العملات الافتراضية المشفرة، ومن بينها عملة البيتكوين، أكثر من مرة. عازيا ذلك إلى ما وصفه بـ"مخاطرها المرتفعة"، حيث يغلب عليها التذبذب في القيمة نتيجة المضاربات العالمية غير المراقبة، بحسب بيان للبنك.

لكن كل هذا لم يمنع أعداد المتعاملين بهذه العملات من الارتفاع. فبحسب بيانات منصات دولية لتداول العملات المشفرة ومصادر تحدثت إليها بي بي سي، ارتفع عدد مستخدمي العملات المشفرة في مصر بشكل غير مسبوق خلال العامين الماضيين.

فلماذا إذن، والحال كذلك، تصر مصر على منعها؟

اقتصاد لا يحتمل المنافسة

تقول الدكتورة هدى الملاح مديرة المركز الدولي للاستشارات الاقتصادية بالقاهرة إنه "لكي تتخذ قرارا كالسماح بعملة منافسة لعملتك المحلية، يجب أولا أن تكون حرا في اتخاذ قراراتك الاقتصادية منفردا، وهذا ما لا يتوافر في مصر".

وتضيف الملاح "صندوق النقد الدولي يشارك مصر في جميع سياساتها النقدية بسبب قروضه الضخمة لها، والتي كان آخرها قرض بنحو 5 مليارات دولار وافق عليه الصندوق عام 2020 لدعم الإصلاح الاقتصادي في مصر".

هذه القروض تضع شروطا على مصر يجب تنفيذها كتحرير سعر العملة و رفع الدعم، فليس لدي مصر رفاهية التفكير في عملة منافسة الآن، بحسب الملاح.

وتوضح الملاح أن هناك اختلافا بين اقتصادات الدول المتقدمة والدول النامية، فحجم الاقتصاد الأمريكي مثلا يتحمل منافسة من عملات مشفرة. أما الاقتصاد المصري فلا يتحمل ذلك.

كما أن الموافقة على تداول عملة كالبتكوين في مصر يعني إلغاء طرف ثالث في التعاملات المالية وهو البنوك التي تحتاج الدولة إليها في تمويل المشروعات وجمع الضرائب وغيرها.

أما المحلل المالي والخبير التقني بجريدة الأهرام المصرية، فيشير إلى أن "مصر أيضا في حالة إعادة تنظيم كاملة"، موضحا أن "هناك تشجيعا كبيرا من الدولة لعمليات الدفع الإلكتروني والتعامل عن بعد، وهناك خطة موسعة للتحول الرقمي في جميع الوزارات والخدمات الحكومية.

ويضيف: "لا يعقل في ظل هذه الجهود الكبيرة أن تسمح بمنصة جانبية مليئة بالمخاطر تؤثر على سمعة التعاملات الرقمية لديك".

سوق سوداء تتضخم

أنشأ أحمد -اسم مستعار- صفحة على فيسبوك عام 2020 لإسداء النصائح للمصريين الراغبين في تداول أو الاستثمار في العملات المشفرة.

يقول لبي بي سي "في البداية كان عدد المشاركين في الصفحة لا يتجاوز 20 شخصا. أما اليوم، أتلقى مئات الطلبات من شبان يريدون الدخول في هذا المجال".

يؤكد أحمد أن كثيراً من المصريين يعملون عبر الإنترنت مع شركات في دبي والكويت والبحرين ويضيف أن هؤلاء أثبتوا تفوقهم، بل وبدأوا "يدربون المقبلين على هذا المجال".

أما ريان وهو أيضا اسم مستعار لأحد المستفيدين من الصفحة التي أنشأها أحمد لتعليم أساسيات العملات المشفرة، فيقول لبي بي سي: "بدأت التداول قبل نحو عامين. اشترىت بعض العملات بقيمة 500 دولار (نحو 8000 جنيه مصري)، وفي البداية كنت أخسر فقط لأنه لم يكن لدي خبرة في التداول، لكني بدأت تعلم أساسيات أسهم هذه العملات عبر فيديوهات لمصريين على موقع يوتيوب، و عبر المجموعات على موقع فيسبوك التي تسدي النصائح للمقبلين حديثا على هذا المجال".

مع الوقت، يتابع ريان، بدأت أربح بكميات قليلة ثم أصبح الربح ثابتا بمعدل نحو 15 دولارا يوميا- حوالي 240 جنيها مصريا.

ويضيف ريان أن الراغبين في تداول العملات المشفرة في مصر "زادوا بجنون" خلال السنوات الأخيرة، وهو ما جعل الأمر شبيها "بسوق سوداء تتضخم". ساعد على تضخمها رغبة الكثيرين في الربح السريع وانتشار ثقافة العمل والتداول والاستثمار عن بعد، والتي زادت مع انتشار فيروس كورونا.

هذا الإقبال أثبتته إحصاءات لمنصات تداول عالمية في العملات المشفرة مثل LocalBitcoins و Paxful.

حيث أظهرت بيانات هذه المنصات ارتفاعا كبيرا في عدد المصريين المتداولين بالعملات المشفرة بنسبة 100 في المئة بين عامي 2019 و 2020.

بل إن شهر يناير/كانون الثاني لعام 2021 شهد زيادة في عدد المستخدمين الجدد في مصر للعملات المشفرة بنسبة 250 في المئة على موقع CEX.IO البريطاني لتداول هذه العملات، وذلك بحسب المدير التنفيذي للموقع كونستانتين أنيسيموف.

وهي الزيادة، التي يقول الرجل الذي تمتلك شركته أكثر من ثلاثة ملايين مستخدم حول العالم، بحسب موقعها، إنه لم ير مثلها خلال شهر واحد في أي دولة أخرى.

هل نحتاج إلى قانون؟

لا يوجد في مصر قانون خاص ينظم التعامل بالعملات المشفرة أو يحدد عقوبة لتداولها، لكن قانون البنك المركزي يتضمن مادة تحظر استخدام هذه العملات.

إذ تنص المادة 206 من قانون البنك المركزي رقم 194 لعام 2020 على أنه: "يحظر إصدار العملات المشفرة أو النقود الإلكترونية أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها بدون الحصول على ترخيص من مجلس الإدارة طبقا للقواعد والإجراءات التي يحددها".

ويقول المحامي والخبير القانوني طارق نجيدة إن من يتم إلقاء القبض عليه بتهمة تداول أو تعدين العملات المشفرة يعاقب وفقا لقانون "النقد الأجنبي".

ويضيف أن البنك المركزي هو الجهة التي تحدد العملات التي تحتاج لترخيص مزاولتها داخل مصر، وكونه حدد العملات المشفرة كإحدى هذه العملات فمن يتعامل بها بدون ترخيص يعاقب بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات وتصادر الأموال التي جمعها من هذا العمل أو في حالة العملات المشفرة تصادر الأجهزة المستخدمة في التداول أو التعدين.

لكن نجيدة يرى أنه من المفيد أن يكون هناك قانون خاص للعملات المشفرة، إذ تشكل هذه العملات بحسبه ظاهرة جديدة بدأت تنتشر في المجتمع، ويعد تحديدها بالاسم في قانون يوافق عليه مجلس النواب، "إما بالمنع أو وضع القواعد"، خطوة جيدة من باب التفصيل والتوضيح، على حد قوله.

مستقبل العملات المشفرة في مصر

تقول دكتور هدى الملاح إنها "ستزول قريبا"، مؤكدة أن على مصر حاليا الاستمرار في محاربتها كونها منصة سهلة لتمويل الإرهاب أو بيع الأسلحة والمخدرات بدون رقيب، بحسب الملاح.

أما المحلل المالي شريف عبد الباقي فيرى أن العملات المشفرة "قادمة لا محالة" لكن وقتها "لم يأت بعد" بالنسبة لمصر.

ويتابع أنه عندما تنتهي بلاده من التحول الرقمي في جميع المجالات فلا نرى ضريبة أو تعاملا ماليا أو خدمة حكومية إلا ويمكننا القيام بها عبر الإنترنت، حينها فقط "يمكن النظر في تنظيم منصات موازية كالعملات المشفرة".

أما متى تصل مصر إلى هذا المستوى من التحول الرقمي فهو ما ستبينه الأيام، وإن كان يبدو أن المهتمين بهذه العملات والطامحين إلى تحقيق الربح من خلال التعامل بها لا يتحلون بالصبر الكافي لانتظار تحقق هذا التحول.