من المؤكد أن رموز الحب المعروفة والمستخدمة في وقتنا الحاضر، تختلف كثيراً عما كانت عليه منذ ثلاثة قرون، وإذا أردنا أن نعرف ndash; نحن من يعيش بدايات الألفية الثالثة ndash; مدلولات وأدوات تلك الرموز فالأمر لا يخلو من المتعة، فلكل عصر رموزه الخاصة. وبالتأكيد ستكون المتعة أكبر إذا أردنا أن نكتشف رموز الحب من خلال عوالم الفن التشكيلي، مستندين بذلك إلى بعض لوحات يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر. يعد الفنان التشكيلي الهولندي جان فيرمير Jan Vermeer ( أكتوبر 1632- ديسمبر 1675م ) من أهم فناني القرن السابع عشر، وعلى الرغم من أنه لم يترك لنا سوى القليل من أعماله، بالمقارن مع معاصريه من الفنانين أمثال quot; بييتر دي هوغ quot; الذي ترك لنا ما يقارب على المئتين لوحة، فإن فيرمير قد ترك ما يقارب على أربعين لوحة فنية تعتبر من أهم أعمال القرن الفنية من حيث دراسة الظل والضوء، فلوحاته تتميز بصغر الحجم ودقة التنفيذ، فلقد عرف عن هذا الفنان أنه ينفذ لوحاته بدقة متناهية وكأنه جواهرجي يخرج من تحت أنامله روائع التحف الفنية، وهذا لا ينافي الحقيقة أبداً، وهذا ما سنلاحظه حين نمعن النظر بأعماله.

الرسالة الأولى
quot; المرأة بثوب أزرق تقرأ رسالةquot; هذا هو عنوان إحدى لوحات جان فيرمير التي يرجح النقاد أنه رسمها في الفترة بين عامين 1662-1663، وهي بقياس 46.5 x 39 cm زيت على القماش. واللوحة موجودة في متحف quot;ريجكسquot; بأمستردام.عند النظر إلى هذه اللوحة الصغيرة نجد أن هناك امرأة تتوسط مساحتها وقد وقفت في سكون تام تقرأ الرسالة التي بين يديها. حولها منضدة وثلاثة كراسي، ونلاحظ أنها تقرأ رسالتها على ضوء منبعث من خلال شباك مفترض، في الجدار المتخيل أمامها، وأن هناك خريطة معلقة على الجدار الوحيد الظاهر في اللوحة. وحالما ننتهي من تلك التفاصيل نجد أن الفنان جان فيرمير قد أنجز شيئاً من السكون باستخدام اللون الأزرق، والأزرق المتداخل مع البني والبني المحمر، حيث نلاحظ أن فيرمير قد أبدع بإتقانه ودقته المعروفة في تجسيد أشكاله من خلال عبقريته في استخدام الظل والضوء، وهذا ما كان وراء بروز الخريطة والكرسي القريب من الجدار حيث جعلهما الظل ماثلين للعيان ليزيدا من صمت الجدار والسكون التام لجو الموضوع بشكل عام. وهذا ما ينسحب على شاخص المرأة، حيث لعبت الخلفية دوراً كبيراً في بروز شكلها وسكونها.
هذا التدرج الحاذق في اللون والتضاد بين الظل والضوء في اللوحة، كان مثاراً للإعجاب منذ أكثر من مئتي عام مضت. ودليل ( كاتلوج ) المزاد الذي أجري في عام 1791 أفضل دليل على هذا، حيث ذُكِرَ فيه بما يخص لوحة quot; المرأة في الأزرق تقرأ رسالة quot; العبارة التالية quot; التأثير البهيج في سحر الظل والضوء quot;.
الواضح أن المرأة في هذه اللوحة تقرأ رسالة حب! ففي فن الرسم الهولندي منذ ذلك الحين وحتى فترة قريبة، تكون رمزية الحب واضحة حين تظهر اللوحة شخصاً يقرأ أو يكتب رسالة، فهذا يعني أن مصدر تلك الفعلة هو الحب، أو أنه إشارة إلى الحب. وهذا يصبح أكيداً حين النظر إلى الخريطة المعلقة على الجدار، فتلك إشارة إلى أن الحبيب في مكان بعيد، وتلك أيضاً من الرموز التي كانت سائدة في ذلك الوقت. بالإضافة إلى هذا فإن اللوحة تظهر مهارة ودقة فيرمير في الرسم، فالخريطة التي على الجدار تظهر هولندا وغرب ألمانيا، وتلك الخريطة كانت قد تضمنتها لوحة أخرى لفيرمير بعنوان quot; الجندي والفتاة الضاحكة quot; التي رسمها عام 1658، وهي الآن موجودة في مجمع quot; فريك quot; الفني في نيويورك، وقد أظهرت الأشعة السنية بأن الخريطة المعلقة على الجدار في هذه اللوحة، هي في الحقيقة خريطة متقنة بدقة كبيرة، وعظيمة القرب من الخريطة الأصلية.
من أجل تحسين التكوين، اختار فيرمير اللون الأزرق للسترة الفضفاضة بعض الشيء التي ترتديها المرأة، وتعمد أن يجعلها بسيطة وأنيقة، ولكن اتساعها قد يمنح المشاهد أن المرأة حامل، وهذا إن حدث في مخيلة المشاهد فلن يغير من موضوع اللوحة شيء، فالقصة تبقى على أنها قصة حب وانتظار لحبيب مسافر.
خلفية المرأة ndash; ظهرها - معتمة الظلال نتيجة مواجه المرأة للضوء المنبعث من الشباك المفترض، ونلاحظ أن تلك الخلفية مرسومة بروية تامة وبألوان واضحة تظهر حدة الخط بينها وبين لون الجدار، بينما هناك خطوط أخرى، أقل منها حدة وأكثر غشاوة مثل وجه المرأة المضاء بنور النهار. إن وضع المرأة في مركز تكوين اللوحة، ووقوفها بين المنضدة والكراسي يكوِّن إطاراً طبيعياً لها، وهذا ما يمنح المشاهد أن تكوين مفردات اللوحة، هو تكوين نحتي أقرب منه إلى الرسم، أما الخط الأفقي الواضح بقوة الذي تكونه الحافة السفلى للخريطة فهو إشارة لتركيز الاهتمام على ما تحمله المرأة بين كفيها quot; الرسالة quot;. هذا التكوين قوض ظهور أية إشارة لحركة معينة في اللوحة، فلقد أهمل فيرمير ظهور الشعور الانفعالي للمرأة أو أي إيحاء فيزيائي آخر. لقد بدت وكأنها في شرود ذهني، ساكنة تماماً كسكون الخريطة المعلقة والتي تعتبر منفذاً مهماً يعبر عن الانفعال الداخلي الذي تمتلكه. فاللوحة تعبر عن الوحدة التي تعيشها المرأة، وحالة الانتظار، ويمكننا أيضاً أن نعتبر الكرسي الفارغ خلفها، رمز لشخص غائب. وهنا تجدر الإشارة بنا، إلى حجم اللوحة، فقياسها صغير جداً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تلك الدقة في إظهار التفاصيل.

الرسالة الثانية
أما اللوحة التي تمثل رسالة الحب الثانية، فهي لوحة quot;رسالة الحبquot; التي يرجح أن يكون الفنان جان فيرمير قد رسمها في الفترة المحصورة بين عامين 1669-1670، وهي بقياس 44 x 38.5 cm زيت على القماش، واللوحة موجودة أيضاً في متحف ريجكس في أمستردام.

أزيحت الستارة جانباً، لتظهر مشهداً بيتياً لا يخلو من المودة. المرأة سيدة المنزل في الملابس الصفراء تمسك بين أصابعها ورقة مطوية، وإلى جانبها خادمتها. هنا وبالعلاقة مع اللوحة الأولى quot; المرأة في الأزرق تقرأ رسالة quot; فإن المرأة هي أيضاً من تتسلم الرسالة، وتلك الإشارة واضحة من نظرة السيدة المتسائلة وهي تنظر صوب الخادمة التي تقف إلى جانبها باسترخاء واضح وهي تبتسم بمودة. المكان ( المشهد ) الذي يحتوي السيدة وخادمتها مضاء بتألق، والفضاء الذي أمامهن معتم، ولكننا نستطيع ملاحظة أن هناك أوراق النوتة الموسيقية موضوعة على كرسي في المنطقة المظلمة أسفل الستارة، ربما تكون السيدة في انتظار شخص معين ليقوم بعزف الموسيقى، وما احتضان السيدة لآلة العود سوى إشارة لهذا. في الجهة اليسرى من الباب حيث الجدار المعتم، علقت هناك خارطة، أما الجدار الذي تقف الخادمة أمامه، فقد أختار فيرمير أن يضع توقيعه المميز جداً هناك، في المنطقة المحصورة بين ساق الخادمة الأيمن وحافة الباب المعتمة، أي فوق سلة الغسيل، هناك نرى الاسم ( JV Meer ).
على الرغم من أن المرأة لم تقوم بفتح الرسالة حتى الآن، إلا أننا نكتشف من خلال ترجمة ابتسامة الخادمة والتساؤل في عيني السيدة بأنها رسالة من الحبيب، والصورتان المعلقات على الجدار في الخلفية، تدلان على ذلك، فعندما تحتوي اللوحة على لوحة أخرى بداخلها يكون ذلك دليلاً على غرض أو هدف يريد الفنان الإشارة إليه من خلاله. وإذا نظرنا إلى الصورة الأولى، خلف رأس الخادمة، نجد أنها تصور منظراً لقارب وسط البحر، ورمزية البحر هنا هو الحب، ففي لغة القرن السابع عشر كانت صورة البحر ترمز إلى الحب، والسفينة أو القارب الشراعي يرمز إلى الحبيب. وهذه الرموز كان جان فيرمير يعرفها جيداً، ويعرف أيضاً أن الشاعر quot; جان كرول Jan Harmensz Krul 1602-1646 quot; كان قد كتب الكثير حول هذه الرمزية في أشعاره. أما بخصوص اللوحة العليا، فهناك رجل يقطع الطريق ماشياً، وهذه الرمزية ndash; رمزية السفر ndash; تتطابق تماماً مع ما موجود في اللوحة السفلى حيث القارب والبحر، فهناك ربط وثيق بين تلك الرموز يؤدي إلى معنى واحد، هو سفر شخص ما. وبالعودة إلى الشاعر جان كرول، نجد أن إحدى قصائد ديوانه الذي خصصه للعشاق الشباب والذي يحمل عنوان quot; صور من الحب quot; قد صورت المعنى الذي أراده الفنان جان فيرمير من خلال رسمه للوحتين في لوحة ( رسالة الحب ) حيث كتب كرول في تلك القصيدة يقول:
فوق أمواج متلاطمة والبحر لا حدود له
وبين الأمل والخوف يبحر قلبي المغرم
الحب بحر، والحبيب سفينة
حبك ميناء آمن، وصدك صخرة
إذا السفينة جنحت
يتلاشى أمل عودتها
اكشفْ عن ميناء عطفك بفنار حب
كي أنجو، من بحر الخوف
وأعيش الأمل

لقد ضَمَّنَ فيرمير الكثير من إشارات الحب في هذه اللوحة. وقد اعتمد في استخدام تلك الإشارات وتوظيفها على ثقافته الواسعة ودرايته الجيدة بالموروث الشعبي الهولندي، لذا نجد أن استخدامه لآلة العود ووضعه في مكان يعد رمزاً للحنان والمحبة، حيث نجده كالطفل في حضن أمه، كان قد استند إلى مقولة للكاتب الهولندي جاكوب كاتس 1577-1660 الذي قال quot; عندما يُعزف على أوتار العود الواحد، فإن الأعواد الأخرى ترجع صداه وتحن لأنغامه. quot; لذا نجد أن رمزية العود هو الانسجام والتناغم الذي يظهره الحب. بالإضافة إلى هذا، فإن العود وأوراق النوتة الموسيقية في لوحة فيرمير هذه، تظهر أن السيدة في حالة انتظار لعازف آخر ndash; شخص آخر ndash; وما حالة الانتظار هذه إلا تعزيز صورة الحب في موضوع اللوحة. كما نجد في مقدمة اللوحة وقد ظهر نعال ومكنسة، وهذا من الممكن أن يشير إلى نوع وقور من الحب اعتماداً على الموروث الشعبي الهولندي. فالمقشة والنعال في مقدمة اللوحة يرمزان بشكل واضح إلى أن هناك أمر متعلق في الحب، فمقولة quot; الزواج على المقشة quot; مقولة كانت تقال في القرن السابع عشر للعاشقين اللذين يتزوجان بعد قصة حب، علاوة على ذلك فهناك من يقول إن المرأة العاشقة كثيراً ما تترك نعليها في أي مكان وكيفما اتفق، وتلك المقولة متداولة أيضاً في بعض بلداننا العربية حتى يومنا هذا.
تعد لوحة فيرمير quot; رسالة الحب quot; النموذج المثالي لخصوصية فن الرسم الهولندي في القرن السابع عشر، إنه بيت ثري، انطلاقاً من الجلد المذهب على الجدار، والموقد حيث الأعمدة والديكور الأنيق، كذلك الملابس الحريرية التي ترتديها السيدة بالإضافة إلى وجود الخادمة، وكان يطلق على فيرمير وبعض من معاصريه مثل بييتر دي هوغ، بأنه رسام الحياة البرجوازية في هولندا.
إن للمكان الظاهر في لوحة فيرمير ( رسالة الحب ) خصوصية فنية مهمة جداً في تاريخ الفن التشكيلي الهولندي في القرن السابع عشر، فهذا المكان ظهر في أكثر من لوحة لعدة فنانين، كان أهمها لوحة ( في الداخل مع آخرين ) للفنان بييتر دي هوغ 1629-1684 التي يرجح أنه رسمها في عام 1658 والتي أطلق عليها النقاد العديد من الأسماء فهناك من أطلق عليها ( داخل الحانة )، وفي المتحف الوطني في لندن حيث مكانها الآن أطلق عليها ( امرأة تحتسي الخمر مع رجلين ) وهناك من أضاف الخادمة إلى الاسم، ولكن المهم هنا هو أن المكان الذي صور فيه فيرمير لوحته، يبدو بشكل أكيد، هو نفس المكان الذي رسمت فيه لوحة دي هوغ، حيث شكل الموقد والمسافة التي تفصله عن الجدار حيث الشبابيك الواسعة، وشكل البلاط الأرضي وحتى شكل الخادمة القريب جداً من ملامح الخادمة في لوحة هوغ مع اختلاف الملابس، ثم أن المكان وكما يبدو من خلال عدة لوحات رسمت داخله، هو قاعة عامة أو مرسم، وهذا يتضح لو أمعنا النظر في لوحات أخرى لهوغ مثل ( داخل أحد البيوت الهولندية ) التي رسمها عام 1680 وهي بقياس 57.5 x 69.8 cm واللوحة موجودة الآن في متحف بوسطن للفنون الجميلة.
على الرغم من دلالة الثراء في لقب رسام الحياة البرجوازية في هولندا الذي أطلق على الفنان جان فيرمير، إلا أن الحقيقة التي وصلتنا عن هذا الفنان العظيم، تكشف لنا حالة الفقر والعوز الذي كان يعيشه، فلقد مات تاركاً وراءه ديوناً ثقيلة أورثها لزوجته وأولاده.

[email protected]