الشعر، بحر من النور يمتد من أعماق المجهول الكامن في الانسان ويمر في فضاءات المجهول مترامية الاطراف في العالم وينتهي في فضاءات الوجود والعدم معا. لذا فأن الشاعر الأصيل هو من يغترف أمواجا من نور هذا البحر بكف ذهنه ويلقيه في وعاء الروح في لحظة الحضور المباغت للصوت الشعري في رأسه لكي يحول هذه الأمواج الى لغة وصور شعرية محملة بالرؤى والتصورات والاسئلة والاجوبة المحتملة التي لاتقبل اليقين.
من هذا المنطلق فأننا نعتقد بأن الشعر كامن في كل شئ كأسرار الوجود الكامنة في كل شئ. وهذا الاعتقاد يسحبنا الى القول بأن الشعر بالدرجة الاساس هو لغة الوجود ولوحته، وبالتالي سصنف خارج التصنيفات المتعارف عليها كتابيا. فالشعر ليس فلسفة أو علما أو جنسا أدبيا كبقية الاجناس الادبية الاخرى، وأنما هو أسطورة الوجود الأزلية والأبدية. وكتابة هذه الاسطورة تكون حينما يصل الشاعر الى لحظة أشراقية حقيقية. لحظة أنخطاف مبهر. أي أن الشعر أبن الزمن السرمدي وليس أبنا للازمنة الثلاثة المتعارف عليها. بمعنى آخر أن موطن الشعر، هو النرفانا. فحينما يقف الشاعر على أرض هذا الوطن الغامض والسراني، يبدأ بتدوين لحظاته الشعرية الخاطفة بأنسيابية وتلقائية وفطرية عالية جدا من دون صور معرفية او نقدية او تحليلية مسبقة. فالبعد المعرفي للشاعر مهمة جدا كأهمية موهبتة الخلاقة، ولكن يجب على الشاعر عدم أستحضار هذا البعد في لحظة تدوين النور الشعري المهيمن عليه. فالبعد المعرفي سيكون موطنه في اللاوعي لحظة الاشراق الشعري الاولى، وهذا سيعين الشاعر كثيرا على أنتاج نص شعري محمل بجماليات ومعرفيات مميزة ومغايرة. ولكن ما أن يصحو الشاعر من غيبوبته الشعرية هذه، حتى يستحضر معارفه وامكانياته وادواته الشعرية المتعارف عليها، لكي يستخرج من فحمة هذيانه الشعري، ماسة شعرية تناسب مهارته المعرفية والشعرية.

قد يتبادر الى الذهن أن الشعر سيكون بعيدا عن الحياة في هذه الحالة. ولكن الحقيقة هي عكس ذلك. فهناك نوعان من انواع الشعر الذي كتب على مر التأريخ، بغض النظر عن القوالب او الاساليب التي كتبت به :
النوع الاول : هو الشعر الذي يعبر عن علاقة الانسان بالوجود وعلاقته بالاسئلة الكبرى، مثل ( ماهية الوجود ومظهره، كيفية انبثاق العالم من الوجود واسبابه، سر الحياة ولغز الموت، الحرية بمفهومها الوجودي، الحب بمفهومه الصوفي، حركة التأريخ، الزمان بتقسيماته ـ الماضي والحاضر والمستقبل والسرمدي ـ ووووو ).
ومن أهم مميزات هذا النوع الشعري هو أن لغته تكون ذهنية، تأملية وصوره تكاد تكون تجريدية احيانا وسيريالية احيانا كثيرة. وبأمكاننا أيضا ملاحظة ان اهم مفردات القاموس اللغوي المستخدم للتعبير عن هذا النوع الشعري الصعب هي عناصر الكون الاولية ( الماء، الهواء، التراب، والنار ) وتمظهرات هذه العناصر المعروفة مثل ( البحار، الانهار، الخلجان، البحيرات، الامطار، الشلالات، الريح، العواصف، النسيم، السماء، الفضاء، الغابات، البساتين، الاشجار، الطيور، العصافير، الزهور، القمر، النجوم، الشمس، الجبال، السهول، الصحراء، البراري، الحقول، الشموع، المشاعل، المواقد، ووو الخ ).
وبرأينا أن كثرة أستخدام هذه المفردات في هذا النوع الشعري، نابعة من قدرتها على التعبير عن اشكاليات هذا النوع بروحية تؤثر على المتلقي بشكل ساحر وتلقائي. هذا يعني أن أستخدام هذه المفردات هنا، ربما لانها مرتبطة بدلالاتها وبألتصاقها بثيمة النص الشعري، أكثر مما هي مفردات لغوية تريد إيصال ثيمة النص الى المتلقي، سواء كان يعيها الشاعر أم لا.
وعلى الرغم من أننا نرى ان التعبير عن الشعر المتمحور حول قضايا الوجود يجب أن لايقتصر على هذا القاموس اللغوي حصرا او على أي قاموس لغوي آخر فقط من دون غيره، ألا ان مفردات هذا القاموس، هي مفردات الوجود الاولى في تكوين العالم والانسان، لذا هي تكاد تكون أقرب من غيرها من المفردات عن التعبير عنها. ولكي نقترب من هذه الفكرة اكثر دعونا ان نتخيل علاقة الانسان البدائي الاول بعناصر الطبيعة الاساسية، وعلاقته بالقمر والشمس والنجوم. أظن أن علاقة ذلك الانسان البدائي هي اكثر عمقا من علاقة الانسان الحالي بها، على أعتبار أنه نتج منها تواً. أي ان الانسان البدائي أبن الطبيعة الحقيقي، بينما الانسان الحالي هو أبن الانسان لأنه صار بعيدا عن أصوله الاولى، او عن المواد الاساسية التي خلق منها. بل أن احساسه بها وتفاعله معها صار أقل من السابق. دعونا نتخيل علاقة الانسان البدائي بالبحر وبالتراب وبالنار وبالهواء. أعتقد أنها كعلاقة الابن بأمه، لأنه ولد من رحمها مباشرة أي أنه نتاجها المباشر، لذا هو ربما يفهم لغتها ويسمع تنهداتها وموسيقاها الخفية أكثر من الانسان الحالي الذي لجأ الى وسائل عديدة لكي توصله الى معرفة عناصر الطبيعة الاولى ومن ماهيتها وجوهرها. ولكن الشئ المحزن في هذه الوسائل او صور التعبير البشرية التي ارادت وصف هذه المواد او وصف العلاقة بين الانسان وبينها، وبالاخص وسيلة أو صورة العلم بأبتكاراتها المعروفة في هذا المجال، قد أبعدتنا عن حقيقتها بالدرجة التي قربتنا منها. أي ان المفاهيم البشرية المتأخرة عن الطبيعة وبالتالي عن الوجود برأينا، صارت منفذا لنا للوصول الى حقيقتها ولكنها صارت حاجزا بالوقت ذاته تبعدنا عنها. ومن هذا المنطلق كما نرى أن رؤى الشاعر تحاول خلق العلاقة بين الانسان وبين الوجود من خلال سعيه الى خلق التفاعل بين الانسان وبين الطبيعة بالشكل الذي كان عليه التفاعل في بداية نشوء الكون والانسان. بمعنى أن الشاعر، هو الجسر الذي يربط بين فطرة الانسان وبين عقله. بين الانسان الحالي والانسان البدائي، وبين الانسان والطبيعة بالتالي بين الانسان والوجود. ولهذا السبب برأينا، صار الشاعر يفضل أستخدام هذه المفردات للتعبير عن علاقته بالوجود أكثر من غيرها من المفردات. مع أننا نرى أن القضية الاساس للتعبير عن علاقة الانسان بالوجود أو التعبير عن الشعر بشكل عام، يجب ان تدور حول طبيعة العلاقات بين كلمات الجملة الواحدة وبين الجمل فيما بينها، وبين الصورة الشعرية وبقية الصور في النص الشعري. هذا هو الاهم.
بصورة أخرى، أن أنشغال الشاعر الاساس في تكوين النص الشعري من ناحية اللغة يجب أن يتمحور حول كيفية بناء الجسور والدروب الرابطة بين كلمات الجملة الواحدة وبين جمل النص وبين الصور الشعرية كلها، بغض النظر عن نوعية وطبيعة الكلمات المستخدمة بها، ومن دون التضحية بالمفردات اللغوية المشار اليها انفا، بل على العكس اننا نؤيد الاستمرار في أستخدامها هنا، ولكن على شرط ان لاتكون الاولوية لها في ذهن الشاعر حينما يدون نصه الشعري، وانما الاولوية هي لشكل ولبناء العلاقات بين عناصر النص الشعري المعروفة.

اما النوع الثاني : فهو الذي يتحدث عن علاقة الانسان بتفاصيل الحياة المعروفة، أوعن علاقة الانسان بالمجتمع أي عن موضوعات الحياة المعروفة مثل ( الحرب، الحب بمفهومه الاجتماعي، الحرية بمفهومها الايدولوجي، المنفى، الفقر، الجهل، ووووو الخ ). ويكاد يكون غالبية الشعر المكتوب على مر التاريخ ينتمي الى هذا النوع الشعري. ولن نجازف لو قلنا أن الغالبية الكبرى من الشعر المكتوب بهذا النوع هو الذي يتحدث عن مظاهر هذه الموضوعات اكثر من الذي يتحدث حول جوهرها. فكما هو معروف، ان للحياة مستويان او وجهان : المستوى البراني او الظاهري، والمستوى الجواني او الجوهري. والشعر الذي يعبر عن المستوى الجوهري للحياة هو الشعر الاكثر اصالة وخلودا من الاخر. لأنه شعر يعي مفهوم الشعر ويدركه بالمستوى المطلوب. فالشعر الذي يتحدث عن الحياة يجب ان يكون إشاريا، ايحائيا، مختزلا. وعليه أن يتحدث عن الحياة الافتراضية التي من الممكن وقوعها ولكنها لم تقع بعد. وعن الحياة بشكلها الاسطوري او الخرافي، وايضا عن الحياة المجهولة والمهملة، وهكذا.
ويلاحظ أن المفردات اللغوية المستخدمة في هذا النوع هي خليط من مفردات عناصر الطبيعة الاولى وصورها ومن مفردات المدن الحديثة التي احاطت الانسان في الزمن الحالي. بل أن العديد من الشعراء وبدافع التجديد والتجريب، راحوا يميلون تماما الى استخدام مفردات المدينة ومظاهر العصر الحديث التقنية والانتاجية والاستهلاكية، على حساب مفردات القاموس اللغوي الطبيعي او الريفي متناسين أن النسبة الاكبر من الكرة الارضية هي الطبيعة والريف والقرى والصحراء والبحار، أي انهم لم ينتبهوا ان حجم المدينة قياسا بعناصر الكرة الارضية الاخرى هي صغير جدا.
ومع أن الاشتغال على مفردات الحياة المعاصرة اضافت أشياء مهمة ونكهة جديدة للغة الشعرية وبالتالي للنص الشعري بشكل عام، ألا أن مجرد الانشغال بهذا الامر بطريقة بعض الشعراء الذين حاولوا طرد الطبيعة او مفردات الريف والقرى من قصائدهم، لايعني أن النص الشعري الذي كتبوه هو اكثر أبداعا او اكثر شعرية من غيره من النصوص. لماذا ؟ لان هؤلاء الشعراء أهملوا جوهر الابداع اللغوي في النص، واهتموا بمظهره فقط. أي أنهم لم يعودوا منشغلين بكيفية خلق علاقات لغوية جديدة بين الكلمات وبين الجمل وبين الصور الشعرية. ومن هنا برأينا أعاد بعض الشعراء التنظير لقضية أن اللغة وسيلة وليست غاية، متناسين أو ناسين أن أستخدام أو أجتراح مفردات لغوية جديدة في الشعر ستكون اجمل واكثر ابهارا لو أن هذه المفردات كانت محملة بذاكرة او بدلالات عديدة قابلة للاستخدام الشعري بمواضع مختلفة. وستستحق ان يقال عنها لغة شعرية أذا أنشغلت بالأساس بمسألة خلق شبكة جسور وعلاقات جديدة بين الكلمات والجمل والصور كما أسلفنا، وبالتالي نستطيع القول بأن النص الشعري الفلاني، نصا جميلا او نصا ابداعيا صاحب لمسة ابداعية جديدة.
ومن جهة أخرى، فلو طردنا الشعر الذي يتحدث عن شكل الحياة او مظاهر الواقع من دون الغوص بأعماقها، خارج العملية الابداعية، على أعتبار انه دخيل على الشعر ونابع من سوء فهم كبير لمعنى الشعر الحقيقي، فأننا بهذا سنطرد غالبية المنجز الشعري العالمي الذي أنجز على مر التأريخ، ولن يبقى لدينا من الشعر المنشود سوى القليل قياسا بما أنجز منه. ولو تمعنا اكثر فأكثر في المنجز الشعري العالمي أيضا، فأننا سنرى أن أقل النوعين الشعريين انتاجا هو النوع الاول، على أعتبار انه اصعب وأعقد من النوع الثاني، مع ان كلا النوعين يحتاجان الى شعراء أصحاب موهبة فذة وثقافة شعرية ومعرفية وقدرة تأملية راقية جدا. أي أن قلة الاشتغال على النوع الاول لاتعني أن النوع الثاني من الشعر الذي يتحدث عن علاقة الانسان بالحياة كما اسلفنا سهلا وبسيطا وسانحا لكل من أراد التورط في الكتابة الشعرية او أعتقد بأنه مؤهلا للكتابة الشعرية. كلا بالطبع لانقصد ذلك. لان كلا النوعين بحاجة الى القدرة الذهنية المتوهجة. فالنوع الاول يحتاج الى ذهن يغوص في أعماق الوجود والثاني يحتاج الى ذهن يغوص في اعماق الحياة. اما الشعر الذي يتحدث عن مظاهر الحياة واشكالها فقط، هو شعر يقع خارج الابداع الشعري أو خارج أختصاص الشعر برأينا. لان مظاهر الحياة واشكالها كما نعتقد هي من اختصاص الاجناس النثرية المعروفة فقط. وهذا هو الفرق الاساس بين الشعر والنثر وليس كما كان مطروحا سابقا، أن الاوزان الشعرية والقوافي هي معيار الفصل بين الشعر والنثر. ولهذا الامر مجال حديث آخر لسنا بصدده الآن.
وبعيدا عن هذا وذاك، أننا نرى أنه على الشاعر أن يلجأ الى ذاته فقط في لحظة الكتابة وبعيدا عن اي صور أو مؤثرات شعرية سابقة له، وذلك بعد أن يجد المناخات الخلابة التي تستفز ينابيع الرؤيا والشعر والجمال الكامنة في اعماقه. فحين ذاك سينتج لنا الشاعر جوهرة باهرة الجمال، أسمها الشعر، سواء كانت تنتمي هذه الجوهرة الى النوع الاول او تنتمي الى النوع الثاني.

[email protected]