قراءة في مجموعة عبور الروبيكون القصصية للكاتبة رقية كنعان

حتى نرى الشمس علينا أن نزاول برؤوسنا بين الجدران، وحتى نتلمس الدروب لأحلامنا الفتية علينا أن نواجه متاهة الحوار القاحل مع الوثن المتجسد في سطوة الشارع الملتف حول قاماتنا، وحتى نتمكن من تدوين حكاية العشق فينا علينا عبور غابة التأريخ الهجري والميلادي، وفي لحظة اعتقادنا الابتسامة نجدنا نبلل شفاه غادرها المطر ونرسم للعيون حيرة أليفة تمدنا بما يجعل من سبيل الهروب يسير، لماذا نلتقي ونحن لانملك خرائط واضحة المعالم ترشدنا لخيوط حيرتنا التالية ، كل شيء فينا يتقاطع مع الآخر، نحضر في أماسينا الباردة حتى نؤكد تلاشينا في بخار فناجين القهوة ، نمد كفوفنا لتصافح لحن البكاء فينا ، ننسج الحلم في دفاترنا مثل طفل بريء وجميل ونطوي أيامنا لنجعل من الحكاية وريقات صفر متكسرة تأكلها خبايا العتمة ، تجمعنا المنافي في خيام المأساة وتفرقنا اللغات التي لم نألفها يوماً ، نخوض المشي فوق جمر الفجيعة لنقترب ، وحينما نتقابل جالسين ندرك عري المسافات في جسد الطاولة التي تلمنا .
كل هذه التساؤلات والهواجس تثيرها فينا تداعيات سرد قصصي يغرينا بالمنطق تارة وبالمشاكسة تارة أخرى ، يوحي لنا بالهناك ، ذلك المكان المتخيل في صفحات إرثنا المعطلة ، مقاهينا ومجالسنا في أعقاب الحروب والهزائم ، أزمنتنا المدونة في حكايات القوّالين، تحثنا لغة السرد على مغادرة مجراتنا المكسوة بغبار الشعارات والتآكل لتجوس فينا وضح اللحظة الآنية ، اللحظة التي طالما بشّرنا بها وتوعدنا ذواتنا في معاقرة الحياة عند تخومها ، لحظة الانسجام مع كينونات تخصنا وتعرّف عنا ، وتكشف لنا حقيقة الفشل الذي دونته لافتات القهر والإلغاء فينا، ldquo;معك أمضي ما دام الشارع يمتد بنا وليته لا ينتهي ldquo;، الذوات تتمنى أن تكون حتى لو كانت الكينونة فوق سطور المجهول الممتد حيث لا نهاية واضحة تختم نشيجه، يأخذنا السرد لحقول دافئة ثم يورطنا في مفازة يحاصرنا فيها كل من الحلم والكابوس، ويدعنا نرتجي أيما لحظة قدسية نختصر فيها هذا الوهن والتردد، يستدرجنا إلى مسرح ضاحك ليمارس ضدنا الكيد، يقتنصنا في خلوتنا ووقوفنا المزمن أمام لوح المرآة ، ويفضح قداستنا الوهمية ، عوراتنا المفترضة وأكاذيبنا المسيسة ، يحثنا لعبور الروبيكون المتماهي في ضواحي مدننا وقرانا ، الوقوف ضعف والعبور حمق ومابين الضعف والحمق تمر القوارب الورقية المحملة بأضغاث أحلامنا المحتضرة .
الكتابة لحظة هدم أحياناً، ولحظة خبل أحيان أخرى، وفي كلا الحالتين نحدس أننا نتعرى لكثرة الهدم من حولنا حتى لنشك في سقوط قاماتنا، نحاول التمرد على نمطيات التنظير فنمارس الخبل اللذيذ، الخبل الذي يهيئ لنا رؤية حقول الخيبة فينا، نرتجف في أحايين كثيرة ونحن نتوقع لحظات التحول التي تبذر المرارة في مفاهيمنا تحاصرنا، تفضحنا، تمزق كل مقدماتنا الاستهلالية، تسمعنا شيئاً من تعامينا، تغابينا، حتى لتدعنا نفقد لحظة صوابنا ووصايتنا على أبجديات الطاعة في طقوسنا، وحتى نرى البدر لابد لنا من ثغرة في شفة الغروب تمكننا من تعليق مسوداتنا وتناقضاتنا على هدب الليل، ولحظة الكتابة في هذا التجاسر السردي لهي لحظة تعرية للتشويه الذي تراكم وشكل صدأ الخطيئة في رؤية الواقع المرتكز على ملابسات وتلفيقات تداخل فيها الإرثي بالاجتماعي، والأخلاقي بالديني حتى أُنتج التقليدي النمطي الذي يحاكي الآني من خلال منظومة مشوهة معتلة، في زمن تكدس المخطوطات التي ترث الكساد تتطاير عند أفق المجالس المتخمة بالتبجيل والتنكيل صحائف الخوف من الذوات المقهورة، التماثيل المحرمة وخدور الجواري الممنوعات من الصرف، هناك عند مشارف الحواري تبعثر الريح الأوراق الصفر وتسمي الكنى والحقائق، تعلق الرموز والأوثان في مقابض الريح والسراب، وتجعل لحظة الارتجاف مساس حروف عناوين المرارة.
الكتابة في المنطقة الممكنة، حيث التنوجد يؤدي بالفعل لمسرح الحدث، الكتابة في زحمة الأسماع وزحمة اللغط الممسوس بالتعرية ، هنا ، هناك ، التجسس اللذيذ الذي يمازح الذكريات والأشياء ، السخرية المنهمرة في ترويض الكلمات ، العبث ، النداءات المغزولة في سحنات الغبشة ، السواقي المملوءة بالرماد المحفورة في تضاريس وجوه ناحلة أنهكها الصمت والعذاب ، هكذا تلامس وجداننا قصص هذا الروبيكون المتصيد لأحلامنا وكوابيسنا.
بلغة مهادنة مقصودة تجتزئ الوعي المخصب بالتأويل ، تطرق دروب الذاكرة بأنامل التراثي والقدسي ، المحكي المعلن والمخبأ بحياء التكوين، تستلهم الفكرة دون عناء أو ارتباك ، تحادث فينا اليومي المكرور والعبثي الطارئ ، تقترب من حركة أرواحنا في سرد الأمنية والحلم العانس ، تنسل في خيباتنا لترسم كرات اللهاث وهي تهرول أسفل جلودنا ، تسافر مع طفولتنا وتحضر في خريفنا، تتجسس في خبايانا عن خيبة قسرية ، بطولة وهمية ، سذاجة صارمة ، عشق منفي فوق سطوح مغلقة أو في دروب محشوة بالأجساد كل الوقت.
قصص عبور الروبيكون تشبهنا، تحاكي صورنا لحظة انبثاق الخجل ، البكاء ، الندم ، التأرق ، تفند الخرس فينا ، تفضح انكساراتنا في برد التقاليد ، تشتمنا ، تشير إلى ملامحنا المكسوة بغبار التباريك ، تهزأ من كرات الظل المتدحرجة وراءنا ، تبصق في أخيلتنا المحتفلة بأنانا ونرجسيتنا ، ترافقنا ونحن نندس خلسة في هيكل المدينة ، في الأنفاق المهجورة حينما ترفضنا الحانات وتغسل ظلالنا الأرصفة ، قصص عبور الروبيكون تواسينا لحظة فقدان الوضوح ، تشاطرنا البؤس الموروث بصحائف ومدونات أسلافنا ، تنادي فينا ما تبقى منا ، تتحسس خلجات الحزن المؤبن في سكوت ملامحنا ، تسيح معنا ، في ذات الدروب المكسوة بآهاتنا وعذاباتنا ، تشاطرنا رقصاتنا المجنونة ونحن نطارد فراشات الأحلام في الأزقة المخنوقة بأنفاسها ، في الطرقات الهاربة من عويل الكائنات ، في المقاهي والساحات العامة ، في تدوينات العشق المفترضة عند حواف السنين المكبوتة في صناديق التقليد والقداسة ، بجمل مرهفة واسترسالات رشيقة تغرينا هذه التنويعات السردية في ممارسة يوغا التخيل بذاكرة متوثبة مستفزة ، ذاكرة متواصلة دوماً وارتحالنا الأبدي في سفر كينونتنا المتجسد أبداً بذات الفصول والوجوه ، بانوراما الوجع تتجانس وسيمفونية الوجدان في إشراقة أدبية لافتة لا نملك حيالها إلا التواصل.