ألوان زاهية تخطفني، تحاصر ظلي المتكسر كعيدان قش صنعت بها كوخاً في طفولتي، أزرق.. بهاء ينتشي مع إطلالة سحب أرجوانية رائعة، أحمر كليالي غابرة تقتلني، أخضر نقاء يفترش بقايا مخيلتي، ألوان وألوان تحاصرني، تمتد لتلفح ما يراودني، أراها بهية متداخلة تختلط في قلبي، تتمرد على صمته، تطرأ عليّ فكرة جديدة، أن أرسم ما يطفح في عيني، حب، غروب حتى الغرق، لكن حزني يملأني، أتذكر والمطر يغور في البعيد الذي يطوحني، يقشعر بدني، لا أفكر في الأخضر أو الأزرق أو أي لون آخر، شيء يجذبني إلى نقش آهات المطر على أسوار وطني، عالمي، أتساءل بيني وبيني، لربما هي لوحة القدس تحت المطر من أغرتني، لا ادري، سأحاول أن أرسم، أفكر جدياً بذلك، لكن الخوف يتملكني، هل سأنجح إن فعلت؟ سؤال يؤرقني، أنزع عني روعي، أمسك بالفرشاة " سأرسم " والكلمة تطن في أذني، أفترش ظلي على اللوحة، أغمض كل ما يبعدني عن مطري، تبدأ يدي بالانصهار في بوتقة اللوحة، أضع خطوطاً باهتة لمجازاتي، أرسم سهولاً دون وجه، بيوتاً دون أسقف، وتملأني الحكايا، تبحر بي في دهاليز عواصفي، أسقط قطرة ماء، أسقطها دون أن تؤذيني، وفي اللوحة رذاذ خفيف يطاردني، أصنع عالمي، بيوتاً قرميدية تتكسر مع وجنات الماء النابضة كحزني، أتعثر في شجوني، أمطاري تتساقط بغزارة، قطرات تذكرني بالتيه في بلاد الغرباء، التزلق في ثنايا الأرواح، ألام وانهيارات ساقطة، مبتذلة، لكنها لطيفة، رائعة. أسقط الفرشاة على اللوحة "سأخنقها تلك الساقطة" ووجه عبوس يموت مع كل بذرة ماء تتوالد في سماوات الحب الرابضة، أتأمل اللوحة، تبهرني قدرتي، أجدني قد فعلت شيئاً، رسمت، صنعت ما أدعيه فناً، نعم فعلتها بحق، لا أصدق ما تراه عيني، لم أكن أدرك أني سأنجز ذلك فعلاً، وأطرق جدران عقلي "لقد كانت مجرد فكرة"، أضحك "هل هي من حركتني؟" أضحك بضجيج أنفاسي المتلاحقة،أتوقف، "هل أنهي تلك اللوحة؟" وحبي لسرد لحظات خلدتها نشوتي تستوقفني " أنت بارع حقاً " شيء يرجوني بالتمهل، أسقط كتلاً من الحقد، الثلج، وفوق سطح منزلي تتكاثف كاختناقي، أتعثر مع أخي، نسقط بعد تكسر الألواح القرميدية المتهتكة، نصعد وتصعد اليد لتكمل مشوار الحرث في ضباب الماء الواهن، قطرة أخرى وأشجار السرو تظللني، عجوز تجري كصبية في العشرين من موتها، أتعثر بصورة مخيمي، وأبكي.. تمتزج أمطاري بلوعتي، غربة في وطن، قطرة أنقى من دموعها، حبي أفرشه معها لها، تلك التي باعدت بيني وظلي، أشيح بوجهي عن تلك السقطة من الماء، أغربل بقايا شتائي، الوطن يتلبد بسحب الانفجار "فلسطين تحت المطر" شعور بالغبطة للوطن يحتويني "نعم، هي تحت المطر" كما هي هناك في عالم الأموات، ليست القدس وحدها، هنا أراها تتفجر "فلسطين تحت المطر" كما كل عام، وكل لحظة، كما رأيتها في غربتي الهائمة على وجهها.. وقبل أن أسقط منهمكاً في خوفي وأختفي، يتردد سؤال في قيعان دواخلي، يرهقني، يفجرني كي أنطق به، أكتبه تحت قطار موتي " أ سيراها من هم مثلي كما أراها الآن؟ هل؟.. " ولا أدري كيف الجواب؟