المحير في الأمر.. وجدت نفسي أسير في مستنقع كبير وكبير جدا، ليس له نهاية ولا قرار، ولا أدري لماذا؟ ومع هذا التيه لي شعور تمتد محاسنه إلى آلاف الأجيال السالفة الجميلة، وجدتني أروم الغاية وأدرك انفعالاتها، وادري أن مسبباتها وفوائدها في النهاية تعود بالسلام الذي نطلبه، ومع هذا الأيمان برؤيتي الواضحة للأمور، إلا أنني كنت حائرا ومتوترا وخائفا. كانت تلك الرحلة وكأنها ضباب سقيم ممل ووحشي، وحالي مثل من يسير في حقل الغام، لكن العناد والتصميم لكي اخرج من مأزق هذا المستنقع هو غايتي، وذلك لخلق واقع حر جميل نود العيش فيه بحرية وأمان، وبينما انا في هذا الاتجاه التحليلي الى ما آل إليه وجودي في هذا المستنقع المعيب، ظهر لي رفاق يشاركوني مسيرتي، يقع عليهم ذات الظلم وهم كثر، وكلهم مثلي مسلوبي الإرادة والقدرة على تحقيق آمالهم، لا أنا أستطيع أن أحدثهم، ولا هم أيضا، ومع هذه الوحشة المريبة كنت أرى وعلى مرمى النظر حدود المستنقع الشرقية، أرى اليابسة ونخيلها والأنهار الباسقة، والورود والطيور التي تعزف الحان هادئة ومريحة، ولكني لا أستطيع الوصول إليها، وكأني مقيد، أو حتى كأن تلك الأرض محرمة عليّ، أو لا يراد بي أن أعرف السبب كما أود أن أتبينه.اما في الجانب الغربي والجنوبي للساحل فكانت الظلمة تمتد كريهة ومخيفة، تصدر منها أصوات حيوانات، لم أستطع أن أحدد انتمائها الحيواني، تتسلق تلك الظلمة أشباح رمادية، ليس لها طول أو عرض، أو شكل معين، إنما كانت أجسادها تموج وتموج مثل حركة أميبية، ومنها كانت تصدر أصوات ترعبني حقا، أصوات لم اسمع مثلها من قبل، ومع ذلك وجدت نفسي صابرا على البلوى، ومطيعا لرحلتي التي ليس لها خطة أو قرار معين، ومع هذا صرت أصغي لتلك الأصوات، وأحاول جاهدا أن أميز انتمائها. وبينما أنا هكذا ارتسمت أمامي طفولتي، رحلت بخيالي إلى البصرة، وقتها كنت طفلا قبل العاشرة وبعدها بقليل، أقطع طريقا دائم الظلمة، بين بيتنا الكبير القاطن في ذلك النور، وبين مركز القضاء، وطريقي هذا لا يشبه إطلاقا ذلك الطريق، الذي كنت أقطعه عند ذهابي إلى المدينة ليلا، وقتها كنت أمر عبر أشجار النخيل المقدسة والحشائش العالية، والأنهر المرسومة على الأرض على شكل مستطيلات تفوح بعطرها، ونباح الكلاب الأليفة الذي يصل السمع من هنا وهناك، مع وجود الضفادع التي تخرج من الجداول ليلا للترفيه عن نفسها الغريبة الخائفة، والطريق تغرق في ظلمة خانقة، لم أكن أخافها، بل العكس من ذلك، كنت مستمتعا بالغناء الريفي، الذي أتمتم شجنا به.. بيني وبين رائحة الأرض، كنت أتصور شخصي أحيانا وكأني حسن الشاطر، أو ربما أبا ليلى المهلهل، كانت الطريق في ظلمتها ترعبني قليلا في أحيان معينة، ولكن ليس كما هو على حالي هذا، خاصة بعد أن ظهرت في طريقي دودة فطساء، ترمقني بنظرات حاقدة وكريهة، لها شكل عجيب وغريب، رأس أفطس كبير معقد الشكل والاتجاه، يمتد طولا وعرضا في بعض الأحيان، وفي أحايين أخرى تجده أصغر من خرزة، ومنه يمتد جسد ثخين متموج، وعليه حراشف وأصداف جارحة لامعة، ومنه تنبعث روائح دماء خاثرة متعددة العروق، وينتهي هذا الجسد بذيل كأنه أفعى، والدودة هذه لها طباع همجية، رائحتها تزكم الأنوف، وبين الفينة والأخرى أحس بالإغماء والقيء من تلك الرائحة، وهذا مما جعل الامر اكثر تعقيدا.
أن هذه الدودة تمتلك من العداء مالم يمتلكه مخلوق لا في العصور الغابرة ولا في عصرنا هذا. فجأة بدأت الدودة بنشر سحاقاتها المقيتة، فأخذت تلب وتموج حولي، وتضربني بذيلها الأملس، ثم تبتعد قليلا، وتبدأ في ممارسة حياة آدمية، أشبه إلى حد بعيد حياة عاهرة أمريكية، حتى أنها تطلق أصوات عجيبة، أشبه بمواء قطة شباطيه، وهكذا أمتد بنا الطريق، صرت أفهمها رغم عدوانيتها لي، وتحرشها المقيت والدائم بي، وفي الحين ذاته تجدني ذكيا في محاورتها، استخدم ذات الحيلة التي تهاجمني بها، أخذني الخوف إلى أن الدودة الفطساء سوف تلتهم أبناء بلدتي في أية لحظة تشتهي، ولي شعور أكيد وصادق إن تلك الدودة ترتوي عظمة بكرهها لي ولأمتي، وتتقد شوقا لإنزال الأذى بنا، صرت احاينها الحيلة والرضى وأناور ودا، مع ثقتي الكاملة بنفسي انها كانت تسخر مني، وهي تنظر لي نظرات معيبة، ثم تستدير بمؤخرتها السوداء نحوي، فتطلق عليّ روائح كريهة ومسموعة. اللعينة تعرف قدرتها وتعي استهتارها، ذلك البغي المستمد من حضارة رعاة البقر، تستطيع أن تمرغني في الوحل، الذي هو طريقي في هذا الضياع الهائل، تستطيع أن تعظني بأسنانها المفترسة، وكارثتي أنني أرى وبوضوح تام تلك الأسنان المدببة الصفراء التي تثير الاشمئزاز والتذمر في نفس من رأى، ولكن لا أحد يمتلك القدرة والشجاعة على التصريح بذلك، وهذا مصدر القرف والاشمئزاز في نفسي المسكينة، والكارثة الأعظم إنها تستطيع أن تبتلعني مثلما أنا متى شاءت وهوت، مجرد أن تميل برأسها نحوي، ولا من معترض. ولكن الواضح لي إنها تناور محاولة إذلالي، لذا تجدها تلطمني بذيلها بين الفينة والأخرى، أو تبصق عليّ في أحايين أخرى. وفجأة رأيت الدودة تجفل ويدب الخوف في عينيها وتغيب، في البدء فرحت في سري، ثم صفقت نشوة، وقفزت طربا معتقدا إن الدودة خافت مني، بعد أن أبديت بعض المقاومة المختلفة المألوف، ولكن الحقيقة التي عرفتها بعد تفكير وتحليل، إن الدودة كانت تنظر ناحية الضفة الاخرى من المستنقع، درت بنظري حيث كانت تنظر، رأيت امرأة تلبس الابيض تسير بين كروم الزيتون، وفي عينيها بريق أخاذ وجميل، قلت في ذات نفسي سبحان الخالق الوهاب، ما أجمل تلك العنين، إنهما أجمل من حور المها في نزهة ربيع، وذلك القوام الخيزراني الجميل إلهم نفسي هدوءا، وانسام باردة تلطف أحوال مشاعري، حاولت أن أناديها لكني عبثا أستطيع، فقد اختفت المرأة أيضا، وما أن اختفت بارعة حسن العينين، ظهرت الدودة الفطساء ثانية تستفزني، لا بل تستفز جميع رفاق الطريق.
بينما أصبحت الدودة الفطساء عدوة الحسان ممن حولي، تلقي عليهم غضب ليس بعده غضب، وتذيقهم مثلما أذاقتني طعم المرارة والهوان، تجدها تفزع وتختفي مثل نيزك، مجرد أن تظهر المرأة، والتي أصبح برفقتها رجل وامرأة. وهكذا كلما تظهر الدودة الفطساء لتفترس أحدنا، كلما يزداد عدد الجميلين من البشر بين الهضبات والكروم، وهم يرتدون ملابس سوداء يحملون على اكتافهم ضحايا الدودة، وفي عيونهم ذات البريق الجميل الأخاذ، صرت أعتقد أن هذا البريق هو الشمس المقدسة، تشرق في عيون هؤلاء القوم ليلا، هي ذات الشمس التي تشرق في النهار، والتي يجب أن تحرق الدودة الفطساء، ولكن بما إن الدودة تتمتع بدعم جيف المستنقع المحيط، أخذت تظهر علينا من بعيد، تستدير ناحيتنا ترمي علينا برائحتها النتنة من مؤخرتها السوداء، وكلما يكثر القوم ذات العيون الجميلة، كلما ينهار ويتمزق دعمها، تجدها تبتعد عنا أمتار وأمتار.
والغريب في الأمر، أنني كلما أقترب من الصباح الذي طال انتظاره، كلما تظهر الدودة الفطساء علينا بدعم من المستنقعات الأخرى الممتدة بعدا في جسد هذا المعمورة، فتعود الحياة علينا بعقاربها الى بداية الظلمة. وبعد صراع دام وقته مع الدودة، ظهر علينا من وسط القوم ذات العيون الباهية، الذين يلتحفون سعيف النخيل رداءً، والليل سهاما، حلق على المستنقع صقر مجنح وعملاق لا يمكن وصفه، وجدته يبتسم لنا، ويهاجم الدودة، فرحت أنا في سري، وتمنيت لو أن هذا الصقر يأكل هذه الكريهة، وللمرة الثانية رأيت الدودة تخاف، والصقر يحتال عليها، مرة ينقرها في مقدمتها، ومرة أخرى في المؤخرة، ومرة هنا وهناك، صار يناور ويختلف في مهاجمتها، حتى إنه طبق حرب الحكمة القائلة quot;العين بالعين والسن بالسنquot;، أخذ يبيض بيضة حسناء، يزرعها بين حراشفها القميئة، فتفجر البيضة نفسها، والدودة ترتعد خوفا، وهكذا أخذ يتساقط منها الكثير من الصدف المزروعة في كياناتها، وأستمر العراك طويلا وطويلا، وكان الصقر يستمد قوته الهائلة من ذلك الجمع الذي كان يتكاثر فرحا على الكرم الشمالي، وللنظرات المقدسة فعلها الأخاذ على نشاط الصقر، وهؤلاء القوم تزايدوا وأصبحوا جيشا. بينما نحن نتراجع ونولول كثيرا.. حتى إننا ولا أدري لماذا أخذنا نسخر من الصقر، نبتعد بفعل قوة خفية عن أولئك القوم الذين دافعوا عنا، خطوة أثر خطوة.
الغريب في الأمر، أننا نحن الذين نسير في المستنقع، ونحن الذين وقع علينا العذاب من الدودة الفطساء بالتساوي، وتذوقنا المعاناة طيلة هذه الرحلة، وما زلنا، وعندما ظهر العون والدعم لنا، لم نبد أية مساعدة مادية ومعنوية للصقر، وللجيش السائر على مبادئة بحكمة، والتي أصبحت أهدافه واضحة لجميع من في المستنقع، كنا ننظر لهم بعين العطف، ونصفق.. نصفق فقط، هكذا قال لنا المستنقع، أن نصفق ونبدي لهم حب كاذب ليس إلا، وفي داخلنا طاعة مطلقة واستسلام كبير للمستنقع، والمصيبة الأعظم تبين لي إن للدودة الفطساء أعوان منا، وهذا ما كنت أخافه، هو العيب وهو الشواذ الذي زرعه المستنقع بيننا، ونجح في صناعته، ومع هذا فإن الصقر الهائل نتف أصداف الدودة الكريهة وقلم أظافرها وأرهق قواها، إلا إن البعض منا سيبقى ملام على صدق محبته وتلازمه الاخلاقي في رحلتنا،والبعض يستمد بلواه من الواقع المحيط المؤثر فيه، ومن المحيط القابض عل عنق قضيتنا، ومنهم من تعاون ومد الدودة بالمال والوقود، ونحن بقينا وكأننا تميتنا شكوانا التي لا طائل لها، فكم مرة قلت لهم أحرقوا الحراشف الفطساء، تضامنوا مع الصقر لأنه الصادق الوحيد على حدودنا، كي لا تشربوا من الكأس الأرعن ثانية. انتهت

[email protected]
- لندن-