الحقيقة الكاملة: من خطّط ومن قرّر ومن نفّذ، لجريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق رفيق الحريري، الذي انتظرها اللبنانيون، على مختلف مواقعهم وطوائفهم وتوجهاتهم السياسية، ومثلهم، الرأي العام العربي والدولي، طيلة أربعة شهور مضت، وسط الخوف والحذر والترقب، حملت في تقرير ميليس لجنة التحقيق الدولية القاضي الالماني ديتليف ميليس، نصف الحقيقة للتداول الاعلامي و"الشعبي"، وثلاثة ارباع الحقيقة لامين عام الامم المتحدة كوفي انان ومجلس الامن والعواصم المعنية، على اعتبار ان التقرير الذي وصف قبل صدوره بـ "المثير والصاعق"، ترك كشف الحقيقة الكاملة لنهايات المحاكمات التي ستتولاها محكمة دولية، وهي محاكمات قد تطول او تقصر، تبعاً لما يبديه الحكمان اللبناني والسوري من استعداد للتعاون، وأيضا لما قد يتكشف من حقائق جديدة ومفاجآت قد تقلب تقرير ميليس رأساً على عقب، او اقله تطيح ببعض ما جاء فيه، فضلا عما يطرأ من تطورات على الساحتين اللبنانية والسورية من تطورات ومفاجآت تبدو حتى الساعة مرشحة للمزيد من الانفجارات والارباكات.
لم يأت تقرير ميليس "الاعلامي والشعبي" بأي جديد، وما ساقه من معلومات لم يفاجئ اللبنانيين ولا السوريين، وبالتالي لم تقم قيامة لبنان، ولم تتراجع سوريا عن مواقفها المعلنة منذ تفجير سيارة الحريري وقافلته، وأيضاً، لم تعلن الولايات المتحدة وحليفاتها الاوروبيات حالة الاستنفار القصوى، ولا تداعى مجلس الامن الى اجتماع استثنائي... لان ما حصل لم يتعد المزيد من اللقاءات والتحليلات و"الثرثرات" بين منحاز بلا حدود الى "صدقية وموضوعية" وحرفية وعبقرية ميليس في كشف المجرمين، وبين من اتهمه بتسخير هذه المهنية والعبقرية لتسييس تقرير قضائي يخدم مصالح الدول الكبرى، خصوصاً مشروع الولايات المتحدة الشرق اوسطي، التي وجدت في "الجريمة الارهابية"ما يمنحها الحق في اختراق النظام السوري من باب الدفاع عن ديمقراطية لبنان وسيادته واستقلاله، أكان التقرير معززاً بالقرائن والادلة، ذلك ان ما يعني واشنطن بالدرجة الاولى، ان ميليس وجّه اتهامات مباشرة وعلنية الى دمشق، اسماء ونظاماً، وبطريقة تسمح لها بتصعيد الضغوط ضد سوريا واتخاذ ما ترتئيه من خطوات "تأديبية" سياسية واقتصادية وأمنية، لمواجهة نظام تصر على اعتباره "ارهابياً" في دولة مارقة!
وسط هذا الانقسام بين مؤيد بلا تحفظ ورافض بلا حدود، جاء تقرير ميليس ليطرح اشكالية لبنان ما بعد نصف الحقيقة، والارباك السوري ما بعد ثلاثة ارباعها.
والاشكالية اللبنانية ليست وليدة جريمة اغتيال الرئيس الحريري، انما تعود الى عقود طويلة مضت وقبل ان يحقق الوطن الصغير استقلاله الاول، وحيث من حينها يطرح سؤال كبير: هل ثمة شيء تغير، او شيء ما قيد التغيير.
واليوم نحاول طرح السؤال، او نجد أنفسنا على ابواب موسم استقلالي جديد، او انتداب جديد (!) تشير بعض الدلائل الى انه، استقلالياً كان اوانتداباً، قد يكون مميزاً على كل المستويات، ولأن في مثل هذا الطرح تكمن بذور البنية التحليلية لما آل ويؤول اليه مصير الانتاج السياسي في لبنان، وبالتالي حتى نتمكن من تلمس اطراف الجواب، بعيداً عن تلك البكائيات الساذجة والحليلات اليأساوية التي تحاول القول بأن "لا شيء يحدث"، وأنها لا ترى سوى الخراب والموت والدمار، ناهيك عن الفوضى... ومثل هذه التحليلات لا تفيد في شيء، سوى انها ترفع من درجة التحدي امام من يحاول ان يرسم مؤشراً على ما حدث وما يحدث اصلاً في استشراق ما سيحدث. غير ان اي استشراق في هذا المجال لن يتعدى كونه استنساخاً لما كان.
هكذا تبدو الصورة للوهلة الاولى، انما لو نظرنا الى ما وراء السطح، الى جوهر الاحداث السياسية، سنندفع حتماً الى تحليل يختلف كل الاختلاف.
هنا يجب الإقرار بداية بأن لبنان يعيش حقاً فترة انتقالية. فترة امتدت منذ اواسط سبعينيات القرن الماضي وتستمر حتى الآن. ولعل من بديهيات القول، ان فترات الخصوبة السياسية كما في كل القطاعات الاخري، ولدى كل شعوب العالم تتجسد في الفترات الانتقالية، حيث تطرح الأسئلة وتتراكم... إنما في لبنان ودون ان نغرق في تعدد الاسباب والاهداف، نفترض ان معظم ما أنتج سياسياً كان انتقالاً يقولب نفسه. لم يكن في أي من تطلعاته، وفي أي من ظروفه وقطاعاته ومؤسساته العامة والخاصة، نتاجاً منطقياً لتطوير طبيعي لحركة محلية، حتى في استلهاماتها الإقليمية والدولية، ولعل السبب الاساسي في هذا، هو أن الوعي السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي في لبنان، لم يطله تطور ما، بل عمّه اختلاف جذري أصاب النظرة إلى لبنان نفسه الذي كان ينظر إليه على أنه "سويسرا الشرق" و"جسر العبور بين الشرق والغرب" و"حامل مشاعل أوروبا إلى ظلمات الشرق"، هذا اللبنان لم يعد موجوداً، إذ ما إن زال القناع المفتعل حتى تأكدت إشكالية لبنان الوطن ومواطنيه اللبنانيين. بلد يعيش انتقالاً حاداً في بنيته السياسية والاقتصادية والديمغرافية ما يجعله عرضة لعمليات فرز وفرز مضاد. وبفعل هذه التناقضات وتغيّر القيم وسرعة توزع الثروات، تتضخم انقساماته العمودية والأفقية من طائفية واجتماعية وطبقية وسياسية.
انطلاقاً من هذه المعطيات اللبنانية، كانت وتستمر استنساخاً سياسياً، قبل جريمة اغتيال الحريري وبعده، يمكن قراءة تقرير ميليس، الذي مهما حاول مناصروه تنحيه عن التسييس، فإنه غارق في السياسة لأن الجريمة سياسية بامتياز. إنه نتاج سياسي بامتياز، وكان تمكن من وضع نفسه خارج التصفيات القيادة. وبهذا الغموض بين تحقيق إجرائي، قضائي وسياسي، تفقد السجالات اللبنانية القائمة أهميتها، إذ أن وتيرة التغيير المرتقب في لبنان وسوريا خصوصاً والمنطقة عموماً، تبدو أسرع من وتيرة من الآلية القضائية بما فيها وإصرار الأحكام. والسؤال المحوري داخلياً لن تتوقف عن السقف الذي ستبلغه الضغوط المحلية والدولية على رئيس الجمهورية إميل لحود لترك بعبدا، وماذا لو لم يرضخ الرئيس للضغوط؟... إنما أيضاً، وقبل أن يلفظ مجلس الامن قراره، وبينما لبنان يسير خطوة اخرى نحو المزيد من التأزم، يفتح التقرير طريق واشنطن إلى ضغوطات مماثلة على الرئيس السوري بشار الأسد، وبالتالي إلى تهديد النظام السوري بعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية، ما لم تتمثل دمشق للإدارة الدولية.
وهذا ما توافق عليه وزير الخارجية الولايات المتحدة وبريطانيا كوندوليس رايس وجاك سترو أثناء لقائهما الأخير، وإصراراهما على أن اتهامات سوريا "في منتهى الخطورة وهي تتطلب رداً حازماً، خصوصاً أن التقرير يظهر تورط أشخاص على مستوى عال في النظام السوري في اغتيال الحريري".
ويبدو أن دمشق المتهمة الرئيسية كما جاء في التقرير الذي "ينطوي على تناقضات وتلاعب في الحقائق" كما جاء في بيان القيادة المركزية الوطنية السورية، معتبرة أن "الجهات التي تسعى الى النيل من سوريا تستطيع توظيف مضمون التقرير بوسائلها الخاصة ولمصالحها الخاصة"، تبدو على أتم استعداد، رسمياً وشعبياً، للرد على تقرير ميليس مع تأكيد رغبتها بالتعاون، انطلاقاً من أن التقرير يتضمن انتهاكات وأخطاء قانونية خطيرة لأبسط قواعد العمل القانوني، على رأسها اعتماده على الشبهة والظن والاحتمال والافتراء، "فالتقرير سمى فاعلاً تم بحث عن أدلة، وهذا أسوأ ما يمكن أن يقع فيه عامل القضاء من أخطاء"... وباختصار، ودون أن نغرق في تحليل وتقييم صدق الاسماء والوقائع التي اوردها ميليس في تقريره السياسي والقضائي معاً، يمكن التأكد أن لبنان وسوريا يواجهان معاً ومنفردين على السواء، زلزالاً سياسياً جديداً أشد وقعاً وخطراً من فترة البحث عن الحقيقة.
الاتهام أصاب ولو بطريقة غير مباشرة الرئيسان اللبناني اميل لحود والسوري بشار الأسد، وقد يحمل قرار مجلس الأمن تعقيباً على تقرير ميليس اكثر من مفاجأة ليس أقلها ما مفادها أنه إذا وجّه الاتهام الى اي مسؤول رفيع المستوى في البلدين، فلا بد أن يدفع ثمن أعماله بغض النظر عن موقفه.
بقي أن نعرف الاثمان المطلوبة، ففي حال قدم الرئيس لحود استقالته، يكون قد اعترف ايضاً ولو بطريقة غير مباشرة، بما ينسب إليه في التقرير، وكذلك إذا سلّم الرئيس الأسد بعض المسؤولين السوريين المتهمين، فإن سيطرته على السلطة ستهتز، وسيجازف باحتمال تحرك مسؤولية الامنيين ضده. وفي الحالين يستمر لبنان وسوريا في عاصفة هوجاء.