الوضع الراهن الذي يمر به النظام السوري لا يختلف كثيراً، إلا في بعض تفاصيله، عن الوضع الذي ساد العلاقات بين النظام العراقي والمجتمع الدولي في فترة حكم الدكتاتور صدام حسين. وفي الوقت الذي رفض صدام حسين الامتثال الفعلي لقرارات مجلس الأمن ونصائح بعض رؤساء الدول والوساطات الدولية وركب رأسه ودفع بأتباعه وأجهزته إلى تنظيم المظاهرات "الشعبية" احتجاجاً على سياسات الولايات المتحدة والأمم المتحدة دون أن يعي المخاطر التي كانت تحيط بنظامه الدموي من جهة، وبالعواقب الوخيمة على الشعب العراقي من استمرار الحصار الاقتصادي واحتمال نشوب حرب ضد نظامه من جهة ثانية، نراقب اليوم ذات التوجهات والإجراءات السياسية غير العقلانية يمارسها النظام السوري دون أن يعي المخاطر الجديدة التي تهدد المجتمع السوري إن فُرضَ الحصارُ الاقتصادي عليه وأن تعقدت الأمور إلى درجة نشوب حرب ضد هذا النظام الاستبدادي أيضاً وتماماً كما حصل مع شقيقه النظام البعثي في العراق. إنها ذات العنجهية واللاعقلانية والتبجحية السياسية فهما ينهلان من معين واحد، من معين سيدهم اليميني والشوفيني الراحل ميشيل عفلق.
إن سوريا تعيش اليوم بين احتمالين لا ثالث لهما، وهما: إما التجاوب مع الأمم المتحدة في أربع مسائل جوهرية، وهي:
1.رفع اليد عن لبنان كلية ومنع حصول إرهاب ضد القادة السياسيين والصحفيين وغيرهم.
2.التعاون مع ممثل الأمم المتحدة في التحقيق الجاري عن قتلة الحريري وغيره في لبنان.
3.إيقاف أي دعم فعلي، ما يزال مستمراً، للإرهابيين المتسللين عبرها إلى العراق ومنع وصول المساعدات العسكرية والمالية والخبرات الفنية للعصابات الإرهابية في العراق.
4.إجراء تحويل أو تغيير فعلي وحقيقي في الوضع السياسي السوري وإطلاق الحريات الديمقراطية ورفع اليد عن الأحزاب المشاركة في تلك الجبهة القرقوزية أو الكارتونية التي تسمى "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" في سوريا، التي لا يجلس فيها سوى إمعات لا غير، إضافة إلى رفع اليد عن مؤسسات المجتمع المدني،
وإما، في حالة رفض الاستجابة لهذه المطالب المشروعة، سيكون الوضع في سوريا عصيباً جداً على المجتمع، إذ أن سوريا ستكون عندها أمام احتمالات ثلاثة متداخلة مع بعضها ويمكن أن تتحقق جميعها سوية وفي آن واحد:
1.فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية على سوريا، وسيكون الأمر صعباً جداً على الشعب السوري وعلى النظام السوري أيضاً، إذ أن سوريا لا تمتلك النفط الذي كان يتصرف به النظام الصدامي لسنوات طويلة وعبر الأمم المتحدة أو السوق السوداء.
2.احتمال تطور الوضع إلى الحد الذي يمكن أن تنشب الحرب غير المطلوبة ضد النظام من جانب الولايات المتحدة ومن يتعاون معها. إذ رغم ما يتحدث به جورج دبليو بوش بأن الحرب هي الحل الأخير، إلا أنه كان يتحدث بنفس اللغة إزاء النظام العراقي وكان هو الآخر الحل الأخير الذي حصل فعلاً على أرض الواقع.
3.وحال حصول حرب أو تخلخل في الوضع السوري، ستكون قوى الإسلام السياسي المتطرفة في الواجهة الأمامية وستلعب دورها المباشر كما تفعله اليوم في العراق، إضافة إلى دور قوى الإسلام السياسي الأخرى التي تمتلك أرضية واسعة في سوريا كالإخوان المسلمين وكتل أخرى مماثلة، في حين تعيش القوى الديمقراطية أزمتها الحقيقية وضعفها الشديد بسبب ما عانته من قمع وتركيع وإذلال من قبل النظام السوري، بمن فيهم بعض الأحزاب الشيوعية في سوريا، وأن قوى المجتمع المدني هي الأخرى ضعيفة لا حول لها ولا قوة فعلية في البلاد، إلا من جمهرة من المثقفين السوريين.
إن النظام السوري يقف اليوم بين كماشتين لا يريد أن يعي الوضع القائم، وبدلاً من استيعاب دروس الجيران، يلجأ إلى التهريج وإرسال الاحتجاجات وتنظيم المظاهرات "الشعبية" الاحتجاجية التي حشد لها الناس عبر أجهزته الأمنية والحكومية والحزبية، كما يلجأ إلى التحالف مع إيران التي تشاركه العمل في العراق ضد الوجهة الديمقراطية للبلاد.
إن على النظام السوري أن يعمل من أجل تجنب الحصار والحرب وهيمنة قوى الإسلام السياسي المتطرفة وغيرها، ولهذا فمن واجبه أن ينهي هيمنة حزب البعث، وينهي سيطرة الكوادر الحزبية البائسة الحاكمة حالياً وأن يفتح الأبواب على مصراعيها أمام رياح التغيير الديمقراطي ويفتح أبوابه سوريا لاستقبال المهجرين والمهاجرين لأسباب سياسية واقتصادية وغيرها، أن يفسح في المجال لقوى المجتمع المدني الديمقراطي بالتحرك لتعبئة الناس لصالح الحياة الحرة والديمقراطية والحقوق القومية العادلة لمكونات الشعب السوري والتعددية السياسية والحياة البرلمانية السليمة والنزيهة.
أن على النظام السوري أن يتعاون حقاً مع السيد بتلر ميليس بدلاً من الاحتجاج على تقريره، وعليه تسليم الضالعين بجريمة اغتيال الحريري وسمير قصيرة إلى القضاء اللبناني لإجراء محاكمة عادلة لهم، وهو أدرى من غيره بالضالعين بتلك الجرائم من سوريين ولبنانيين أو غيرهم.
وعلى النظام السوري أن يتعاون مع العراق حقاً لإيقاف نزيف الدم في العراق، فسوريا هي المعين الذي لم ينضب حتى الآن لتزويد عصابات القتل والتدمير بالمتسللين وعبر طرق كثيرة، كما أن أغلب المنظمات السياسية الإسلامية والبعثية والقومية غير السورية الموجودة على الأرض السورية تشارك في مد الإرهابيين في العراق بالدعم المتنوع. إذ ما نزال نتذكر خطاب خالد مشعل وتعبيره الصريح عن استعداده إيصال المساعدات إلى "المجاهدين!" الإرهابيين في العراق.
إن التاريخ يعاقب بشدة وعدالة من يتأخر عن إدراك الحقائق في وقتها المناسب ومن لا يتعامل معها بمسؤولية.