عندما يغلبٌ الحس القومي على القٌطرية الكردية...
فضلاً على إنها المرة الأولى في التاريخ الكردي، التي يلتقي فيها زعيم كردي مع رئيس أكبر قوة كونية ومصدر "تحديد وتخطيط" السياسات العالمية: الولايات المتحدة الأميركية، والبروتوكولات، التي حملت في طياتها الكثير الكثير من المعاني والدلالات ذات البٌعدين الإقليمي والدولي، فإن زيارة الزعيم الكردي مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان العراق(جنوبي كردستان) للولايات المتحدة الأميركية، ولقاءه بالرئيس الأميركي جورج بوش، أسفر عن إنفراجة عريضة(وبنيوية كذلك...) في العلاقات الكرديةـالكردية المضطربة: ونقصد هنا حصراً العلاقة بين الكرد في شمالي كردستان، ممثلين بحركة التحرر الكردستانية(حزب العمال الكردستاني)، والكرد في جنوبي كردستان(ممثلين بالقيادات الكردية في الحزب الديمقراطي والإتحاد الوطني الكردستانيين). فالتصريحات الشجاعة والمسؤولة للرئيس البارزاني حملت في طياتها توجهاً حكيماً ومسؤولاً فيما يخص القضية القومية الكردية في كردستان تركيا(شمالي كردستان: نصف مساحة وديموغرافية كردستان الكبرى)، كما عبرت بقوة ووضوح عن وجوب حل تركيا للقضية الكردية والبدء في حوار وتفاوض مع الكرد وممثليهم السياسيين هناك. وكذلك تعبير السيد البارزاني من أن تركيا" لن تستطيع حل هذه القضية الكبيرة بالطرق الأخرى التي تركن بالحوار والتفاوض جانباً"ً. كما أشارّ البارزاني إلى ضرورة "أن تصدر تركيا عفواً عن مقالتي حزب العمال الكردستاني ضمن خطة حل وتسوية نهائية ومرضّية"، وأعربّ عن إستعدادهم في "التوسط وبذل كل جهد للمساعدة في ذلك". كما رفضّ التعليق على سؤال يقول "هل تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية أم لا"؟...
والحال، فإن تصريحات البارزاني تأتي في وقت حساس ومرحلة تشكلّية جد مهمة تمر بها قضية الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأربعة بعد الإجهاز على نظام الديكتاتور صدام حسين في العراق. وبشكل خاص في تركيا حيث التعنت التركي الكبير في الوصول لحل ديمقراطي وسلمي عادل للقضية، والإعتماد فقط على "الحل العسكري"، حيث حولت حكومة حزب (العدالة والتنمية) القضية إلى هيئة أركان الجيش التركي والمؤسسة العسكرية لكي تتعامل معها أمنياً: فحركت الأخيرة عشرات الآلاف من عناصر القوات الخاصة التركية المتمرسة في إرتكاب الجرائم الجماعية لمدن وقرى شمالي كردستان للقضاء على المقاتلين الكرد أعضاء (قوات حماية الشعب) الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، والذي يقاتل الدولة التركية منذ عام 1984م لنيل الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في شمالي كردستان.
ورغم تصريحات رئيس الوزراء التركي "بوجود قضية كردية في تركيا وضرورة حلها" أثناء زيارته لمدينة آمد( دياربكر) في 12/8/2005 والتفاؤل الذي خيمّ عقب تلك التصريحات، والذي قويّ بإعلان حزب العمال الكردستاني وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد ولمدة شهرين "لإعطاء رئيس الوزراء فرصة لتفعيل تصريحاته، والعمل على حل القضية الكردية وفق الوعود التي أطلقها"، ومرافقة كل تلك المحاولات ببيانات ومناشدات وردت من مئات المثقفين الكرد والترك لكل من الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني "لوقف الحرب والبدء في الحوار والتفاوض لحل القضية الكردية" فضلاً عن الضغوطات الأوروبية المستمرة، إلا إن "إنتكاسة ما" حدثت جعلّت أدروغان "يلحس" تصريحاته هذه، ويٌطلق نقيضها مهدداً ومتوعداً الكرد بمزيد من القمع والحرب، حيث أردفّ "تهديداته" بعدة إجراءات ميدانية قلّصت الآمال في إمكانية حل القضية الكردية وفق إسلوب الحوار والتفاوض: فقد إنطلقت حملات عسكرية/إجتثاثية شرسة ضد القوات الكردية في جبال وسهول شمالي كردستان، كما فرضت حكومة أردوغان حالة عزلة شاملة على الزعيم الكردي عبدالله أوجلان المعتقل في جزيرة (إميرالي) النائية في بحر مرمرة منذ سبعة أعوام، وعند كتابة هذه السطور، تكون العزلة على أوجلان ومنع محاميه وذويه من زيارته قد دخلت إسبوعها الثاني والعشرين على التوالي. ويأتي تجريد أوجلان وعزله عن الحياة الخارجية ومجرياتها، رغم كل مشاريع السلام والتسوية الدائمة التي أطلقها أوجلان من السجن، وإلتزم بها حزب العمال الكردستاني والسواد الأعظم من أبناء الشعب الكردي في شمالي كردستان. وكان أوجلان قد شرحّ تلك المشاريع التي ضمنهّا في كتابيه( من دولة الكهنة السومريين إلى الحضارة الديمقراطية) و(دفاعاً عن شعب) وحدد فيمها الخطوط العريضة" للجمهورية الديمقراطية" المٌحددة لنوعية العلاقة مع الشعب التركي، وصيغة(الكونفيدرالية الديمقراطية لكردستان) لتحديد الصيغة الترابطية بين أبناء الشعب الكردي في أجزاء كردستان الكبرى المٌقسمة. كما كان أوجلان هو نفسه وراء تأسيس (حركة المجتمع الديمقراطي) التي تحولت قبل يومين (لحزب المجتمع الديمقراطي) المؤمل أن يقود العمل السياسي المرخص داخل البلاد، بقيادة النواب الكرد السابقين في البرلمان التركي الذين سجنتهم تركيا مدة عشرة أعوام(ليلى زانا، سليم ساداك، أورهان دوغان، خطيب دجلة) وكذلك يضم الحزب أغلب الشخصيات الإجتماعية والسياسية المعروفة في شمالي كردستان، حيث تم إنتخاب كل من النائب والسياسي الكردي المعروف أحمد ترك، والسياسية الكردية ومحامية أوجلان آيسل توكلوك لقيادة هذه الحزب الناهض...
ويبدو أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قد سلمّ الملف الكردي للعسكر مٌجدداً، مرتكباً نفس الخطأ الذي أرتكبته الحكومات التركية المتعاقبة، المسؤولة عن التخلف الحاضر في الإقتصاد والحياة الإجتماعية في البلاد، وبقاء القضية الكردية بدون حل، والتهديد المستمر للسلم الأهلي نتيجة ذلك، فضلاً عن عشرات القتلى و"التوابيت التي تشحن كل يوم إلى المدن التركية" على حد تعبير أردوغان نفسه.
وإمعاناً في التهرب من مواجهة القضية الكردية بالحل والحوار، فقد لجئت الحكومة التركية إلى محاولة تصديرها للخارج، وتحديداً لإقليم كردستان العراق الذي يشهد إستقراراً ونمواً كبيراً، بعد تعاظم الدور الكردي في قيادة العملية السياسية في العراق، والمشاركة الحيوية في تطوير البلد المنهار وإعماره. فتركيا حاولت ومازالت مٌستميتة، في إقناع الطرف الأميركي والحكومة العراقية بتوجيه عدة ضربات كبيرة لمواقع وقواعد (قوات حماية الشعب) الكردية في كردستان العراق، ومازالت تلح على الجانب الأميركي المتردد لتنفيذ رغبتها هذه في ضرب القوات الكردية، أو"الحضور بنفسها لفعل ذلك" مالم تتدخل الولايات المتحدة، كما صرح أردوغان قبل عدة أيام...
والحقيقة أن تركيا تريد من وراء كل هذه التصريحات "الحضور" إلى منطقة كردستان العراق عسكرياً لكي يتسنى لها "الإشراف على العملية السياسية هناك، وعرقلة الفيدرالية الكردية ولجم التمدد الكردي في كركوك والطموحات الكردية في الإنفصال وتشكيل دولة كردستان" كما يردد الإعلام التركي كل يوم. وهو الأمر الذي فشلت فيه قبل حرب تحرير العراق: رغم كل الحجج والأكاذيب التي ساقتها في ذلك الحين من "لجم المهاجرين الذين سيفرون من العمليات العسكرية" تارةً، إلى "حماية الأقلية التركمانية في كركوك"، و إستحضار تركة الرجل المريض في " عائدية الموصل وإتفاقية 5 حزيران 1926 وحصة ال10%" طوراً...
مراد قره يلان، القائد الميداني الكردي وأحد كبار قيادات حزب العمال الكردستاني قال في تصريح له، "إن الحكومة التركية تهدف من وراء سياستها التدخلية والإحتلالية هذه إلى تخريب الفيدرالية في جنوبي كردستان، والنيل من مكتسبات الشعب الكردي هناك بالدرجة الأولى، وهي تتحجج بوجود قوات حزب العمال الكردستاني في جنوبي كردستان لتنفيذ هدفها هذا، رغم إنها تعلم بوجود المقاتلين الكرد في كافة مناطق شمالي كردستان: في جزيرة بوتان، ديرسم، هكاري، بينغول وآمد". كما حَيا قره يلان تصريحات رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني في واشنطن، ووصفها بالمهمة جداً، وقال إنها "تصب في خدمة الحل السلمي والحوار لحل القضية الكردية"، كما ناشدّ قره يلان كل من مسعود البارزاني(رئيس إقليم جنوبي كردستان) وجلال الطالباني( رئيس جمهورية العراق الفيدرالية) بالعمل "لحل القضية الكردية في بقية أجزاء كردستان، وبشكل خاص في شمالي كردستان"، لأن "حل القضية الكردية في جزء واحد فقط غير كاف ولن يجلب الإستقرار والسلام للمنطقة" وطالبهما "بتوظيف كل صلاتهما وعلاقاتهما الدولية مع القوى النافذة من أجل ذلك"، وأن "الشعب الكردي يتطلع لدورهما في هذه المرحلة التاريخيةو المصيرية"...
تركيا بدورها، إحتجت بشكل كبير على زيارة البارزاني لواشنطن ولقاءه مع الرئيس الأميركي جورج بوش، وجنّ جنون الأتراك حينما شاهدوا بالصوت والصورة مراسيم لقاء بوش بالبارزاني، ووصف الأخير للأول بصفة "السيد الرئيس" ومدحه لشخصية البارزاني و"دوره في تحرير العراق وتوطيد الإستقرار في ربوعه".فقد إستدعت وزارة الخارجية التركية الأربعاء الفائت نائبة السفير الأمريكي في أنقرة وأبلغتها "قلق تركيا بشأن الزيارة التي يقوم بها الزعيم الكردي مسعود البارزاني رئيس اقليم كردستان إلى واشنطن وإجتماعه بالرئيس الأمريكي جورج بوش. وبحسب صحيفة {حرييت} التركية، فإن نائب وزير الخارجية التركي نبي شانصو أبلغها بقلق واحتجاج تركيا حيال إطلاق صفة {رئيس} إقليم كردستان على مسعود البارزاني من قبل المسؤولين الأمريكان، واعتبرت استخدام هذه الصفة {تهديداً لوحدة الأراضي العراقية}. وكان البارزاني، الذي يزور الولايات المتحدة بدعوة رسمية من الحكومة الأمريكية، قد التقى الرئيس الأمريكي جورج بوش في البيت الأبيض وأجرى معه محادثات تركزت حول مستقبل العراق وكردستان. وخلال المؤتمر الصحفي المشترك، أعرب الرئيس الأمريكي عن ترحيبه بقدوم {الرئيس بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق} وأضافّ {...والرئيس بارزاني رجل شجاع جداً واجه القمع والظلم، وجاءنا اليوم يرتدي ملابسه الكردية، وهذه الملابس لو كان يرتديها قبل فترة قليلة لكانت عصابات صدام وجلاديه يعتقلونه ويقتلونه(...)، والآن هو هنا بيننا مطمئن لأنه في بلد حر، وهو كذلك مطمئن في بلده لأنه بدوره أصبح بلدا حراً}. ووصف الرئيس الأمريكي المحادثات المشتركة {بالبناءة} مشيراً إلى {الدور الكبير للرئيس البارزاني في مساعدتنا أثناء النقاشات حول صياغة الدستور، واستمعت إلى آرائه حول مستقبل العملية السياسية في العراق}. وأكدّ بوش على أنه {طمأن البارزاني بأن الولايات المتحدة تدعم كل من يتطلع إلى عراق حر وديمقراطي}"( أنظر في ذلك وكالات الأنباء العالمية)...
لايبدو الإحتجاج التركي هذا غريباً، فتركيا التي إعتادت على معاداة ومحاربة أي شيء كردي لن ترعوي عن فعل أي شيء للنيل من المكتسبات الكردية في كردستان العراق، والتي تحققت بفضل السياسة الناجحة والتعاضد التام( رغم بعض الرتوش هنا وهناك) بين القيادات الكردية الجنوبية. ويأتي تصريحات البارزاني القوية والواضحة هذه لكي تظهر للحكومة التركية موقفاً كردياً صلباً من القضية الكردية في شمال كردستان، وإلماماً قومياً متقدماً بالعمق الكردستاني وهي النواة الصحيحة لظهور تحالف كردستاني شامل، تشترك فيه القوى الكردستانية الكبرى الثلاث: حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني، على قاعدة الإحترام والإعتراف وإتخاذ المصلحة القومية الكردية فوق أي إعتبار آخر: كما فعل مسعود مصطفى البارزاني في زيارته الأخيرة لواشنطن...
صحافي كردي مقيم في ألمانيا
[email protected]
التعليقات