لابد من بداية!
لا توجد بداية صريحة، ولا توجد بداية خالصة، خاصة على صعيد الحدث التاريخي، وقد أبدع أيما إبداع المفكر الفلسطني أدوارد سعيد في تجلية هذه الفكرة. ولكن كل ذلك لا يمنع من بدايةٍ ما، بداية هادية في حدود ما، ليست خالصة، ليست حدية بشكل فاصل، ولكن بداية قد تتيح لنا أن نتسلسل في عرض الحدث بطريقة هادية، تحمل بعض صفات الموضوعية و المنطق.فمن أين نبدأ ونحن نريد أن نعالج قضية العلاقة بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يهود قريضة ألتي أنتهت بـ (غزوهم) وما ترتب على ذلك من نتائج؟

أين هي البداية؟
أعتقد أن بداية المشكلة تبدأ من لحظة وصول النبي محمد صلى الله عليه وألة وسلم إلى المدينة، حيث هناك كتب وثيقة العهد، وهي وثيقة توافقية بين القوى الفاعلة في المدينة، ومنهم اليهود بفرقهم الثلاث (بنو قينقاع، بنو النضير، بنو قريضة...)، وتنص هذه الوثيقة على موادعة اليهود على أن لا (يحاربوه، ولا يظاهروا عليه أحد، ولا يوالوا عليه أعداءه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم، وأموالهم...) 1 / زاد المعاد ج 3 ص 126، وسيكون من المستحسن أن ندرج بعض فقرات هذه الوثيقة فيما نحن في صدده، حيث جاء فيها (... وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم... وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين... لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم،موالهيم وأنفسهم إلاّ من ظلم وأثم... وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة،وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم... وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة...) 2 / السيرة ج2 ص 148 ـ 151. فهي وثيقة توافق، عهد على السلام، والتواصل من أجل بر المدينة، وحمايتها من الغزو الخارجي، وعهد يحفظ المدينة بالتعاون والتفاهم...
وقد كان اليهود فريقين، منهم بنو قينقاع، حلفاء الخزرج، ومنهم النضير وقريضة وهم حلفاء الأوس،وقد شهدت المدينة معارك بين اليهود تبعا للمعارك بين القبيلتين المذكورتين، سالت فيها دماء عزيرة 3 / المصدر ص 188. ولكن رغم هذه الوثيقة الصريحة لم تكن العلاقة بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يهود المدينة سالكة. ومن مراجعة موقف اليهود من الدين الجديد نستطيع أن نلتقط المشاهد التالية : ــ
الأول : هو التشكيك العقدي بالدين الجديد، سواء فيما بينهم، أو لدى المشركين أو لدى المسلمين، وقد سجل القران الكريم بعض هذه المشاهد التي سوف نقول فيها رأينا بعد قليل.
الثاني : تحفيز قريش للقيام بعمل حربي حاسم ضد الرسول، وكانت معركة الخندق مثالاً صارخا في هذه المجال.
الثالث : إثارة الفتن داخل الصف المسلم، الجسم المسلم، ومن أمثلته إثارة الفتن بين الأ وس و الخزرج التي وصلت مرة إلى حد الحرب المستطيرة الشرر لولا تدخل الرسول الكريم. وكان موقف محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو موقف الحوار الفكري عبر أيات القرآن الكريم، حيث أدان بني إسرائيل عقيدة وتاريخا وسلوكا، ولكن هنا أسجل نقطة مهمة، بل في غاية الأهمية... ذلك أن الإدانات القرآنية لبني إسرائيل بعد قراءة دقيقة تكشف عن أنها ليست لكل اليهود، بل بحق طبقة معينة، هي طبقة علمائهم، وبالذات من وصل إلى الحقيقة ولكن اخفاها، وسوف أخصص في موقع إيلاف يوما لأجلاء هذه الحققية المهمة.
فلم تكن العلاقة بين اليهود والنبي علاقة ود، أو علاقة صفاء رغم عهد الصحيفة، بل وصل الامر إلى غاية في الخطورة لما نكث اليهود بنود الصلح، فكانت القطيعة، ويلخص لنا اين القيم الجوزية المسالة بعرض جميل مشوق، فيقول (فصالح يهودَ المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريضة، فحاربته بنو فينقاع بعد ذلك بعد بدر، وشرقوا بوقعة بدر... ثم نقض العهد بنو النضير... وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر... وأما بنو قريضة، فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و أغلظهم كفرا...) 4 المصدر ص 127 ــ 129، حيث كانوا قد جمعوا الاحزاب وقريش لقتال النبي، وكانت معركة الخندق...، وكل ذلك أدى الى صدام النبي باليهود، بطوائفهم الثلاث، وكان نتيجة بني قينقاع بعد الصدام، ان أمرهم النبي بالخروج من المدينة، فخرجوا إلى إذرعات من أرض الشام، حيث كانت دارهم في طرف المدينة. وبالنسبة لبنو النضير فقد أجلاهم النبي أيضا، ولهم أن يحملوا كل شي ما عدا السلاح، وكانت قصتهم في ربيع الاول سنة أربع من الهجرة.أما قريضة فقد غزاهم النبي في سنة خمس للهجرة ــ وفي هذه الصيغة من البيان نظر كما سنبينه في وقته ـ حيث وقع فيهم قتل ودماء.
هذه هي بداية المشكلة بين محمد صلى الله عليه وأله وسلم وبين بني قريضة، وهي جزء من قضية أكبر، تلك هي موقف اليهود بشكل عام من النبي الجديد، ومن الدين الجديد، وتنتصب مسألة نقض العهد في صلب القضية كما سنرى أكثر في السطور التالية.

مصادر القراءة
المصدر الرئيسي لقصة الرسول الكريم مع يهود قريضة هي سيرة ابن هشام المتوفى سنة 218، التي هي بالاساس سيرة محمد بن أسحق المدني المتولد في المدينة سنة 85، و المتوفى نحو 152، جده من سبي عين تمر، وسيرته هي التي كتب لها الذيوع والانتشار، وقد ألفها بن اسحق في أوائل العصر العباسي، بطلب من المنصور رغبة منه في تعليم ابنه المهدي تاريخ البشر، منذ أن خلق الله آدم، وقد طلب منه أن يختصرها بعد أن شق عليه طولها وضخامتها، وقد استقرت هذه السيرة لدى بن هشام، فاختصرها، وهذبها، وأضاف إليها... وربما يعتبر بعضهم هذا العمل إيجابي من قبل ابن هشام، فيما هو في تصوري خطا كبير، كان من الأجدر به أن يحتفظ بالنص كما هو، ثم يعمل عملا آخر، بموازاة السيرة الأصلية، فهو بهذه الطريقة فوت علينا علماً كثيرا، تماما، كما هو خطأ عثمان بن عفان لما استغننى عن كل المصاحف واكتفى برسم واحد. وبصرف النظر عن قيمة ابن اسحق الرجالية، لا ن هناك خلافا فيه، فإن روايته لا تخرج بطبيعة الحال عن كونها رواية شفهية، ثم دونت، أي دون ما سمعه، ولم يرجع إلى نص مكتوب، والرواية الشفاهية تعرضت اليوم لنقد حاد، كشف الكثير عن مشاكلها الدقيقة. فإذا كانت الذاكرة الكتابية يمكنها الرجوع إلى (المكتوب) كي تتأكد من سلامة حفظها، أي هناك إحالة مادية مبصرّة فإن الذاكرة الشفاهية لا تملك مثل هذه الإحالة المرئية المثبَّتة. ولقد ثبت أن الذاكرة تعمل إنتقائيا، وعند استرجاعها لخزينها من التاريخ والمعلومات تتاثر في بالواقع الذي يكتنفها في الحال، فهناك ثمة تفاعل بين التذكر الشفاهي والواقع الحي. ومن الطبيعي أن يخضع الحفظ الشفهي حرفيا كان أم غير حرفي للتغيير نتيجة للضغوط الاجتماعية المباشرة. وذلك بصرف ا لنظر عن السند، وعن المتن... من هنا ينيغي ان نحذر بالاعتماد الكلي على الذاكرة الشفاهية في تقرير التاريخ وكتابة التاريخ.
رواية ابن هشام هي العمدة في حرب بني قريضة ـــ بل في كل سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ــ نقلها عنه الطبري، وابن كثير، وغيرهما من المؤرخين الكبار. على أن هناك مصدرا أخر، ذلك هو (مغازي الواقدي)، لصاحبه مولى بن سهم، محمد بن عمر بن واقد المولود في المدينة سنة 130،والمتوفى سنة 207، والرجل متهم بمدى واسع من النقد والتجريح، ويستغرب الكثيرون عدم رواية الواقدي عن ابن اسحق، حيث يعلل بعضهم أن ذلك قد يرجع إلى كون أهل المدينة كانوا يشككون بنزاهة بن اسحق، وعلى رأسهم الامام مالك، فيما يتهم علماء مستشرقون الواقدي بانه سرق من السيرة الهشامية، نتيجة لتطابق النصوص بين السيرتين الى حد كبير. وفي الحقيقة أن قراءة متـأنية لمغازي الواقدي تكشف عن حس تأريخي أنيق، فهو يتدرج بالحدث زمنيا، بل يحرص على التتابع المنطقي للحدث، ويشفعه بمعلومات جغرافية، وبيئية، وقبلية... ومن الملاحظ حقا، أن الطبري ينقل عنه المغازي مباشرة، فيما كان يحرص على نقل أخبار الجاهلية عنه أيضا، ولكن بواسطة تلميذه ابن سعد، وسر هذا التباين يكمن في ثقة الطبري بالواقدي في هذه المادة خصيصا، أي المغازي. وقد نسبه بعضهم إلى التشيع ولكن لم يصح ذلك لدى الكثير من العلماء.
أن حسن الكتاب، وتسلسله، ودقته في العرض... كل ذلك لا يكفي اعتماده مطلقا، بل لابد من نقد السند ونقد المتن، وقراءة الظروف التي تحيط بالحدث، ومجرياته، ولابد من مقارنة ما جاء في رواية الواقدي بغيره الروايات، خاصة السيرة الهشامية، وطبقات بن سعد، فإن بن سعد هو تلميذ الواقدي الوفي.
ويأتي كتاب الطبقات لان سعد (168 ــ 230) مصدراً مهماً في السيرة النبوية، خاصة الجزئين الأوليين، فقد خصصهما الرجل لهذا الغرض بالذات، وابن سعد من تلاميذ الواقدي صرفا، فقد أفاد من (المغازي) حتى يمكن ألقول أنه ابن سعد قد ضمّن كتابه (الطبقات) كتاب استاذه ! ورغم ما حصل عليه ابن سعد من توثيق ومدح معتد به من قبل علماء الرجال، إلا أن يحي بن معين ضعّفه، وآخرون. على أن عيباً كبيراً يسجله الناقدون على ابن سعد، واستاذه الواقدي، ذلك أ نهما يجمعان أسانيد كثيرة لمتن واحد، وإدخال روايات الرجال بعضها ببعض، وهذا يخل بموضوعية الرواية شئنا أم أبينا.
إن مطالعة المغازي لا تغني عن مطالعة كتب التاريخ المعتمدة، كتاريخ الطبري والمسعودي واليعقوبي وغيرها، كذلك ما ورد من خبر في كتب الحديث والسنة. ولا يكفي نقد السند والمتن، بل ينبغي القيام بجهد جبار، يشكل نقد السند والمتن أحدها، كما سنرى في هذا البحث.

دقة القراءة
اللغة تشكل عقل الرواية، روحها، باطنها، هناك تختفي اشياء وأشياء، تختفي ثقافات وذكريات، تختفي مطامع ومطامح، وعليه، يجب تفيت اللغة بدقة، وسوف نرى أن خلافا يبدو بسيطا بين كلمة وأخرى من رو اية لأخرى، فيما بعد قراءته بدقة يكشف لنا عن اسرار مهمة، وغايات ليست بريئة. كما أن الاختيار العشوائي أو الاختيار السائد مجتمعيا، الطاغي عرفيا لهذه الكلمة أو تلك قد توقع في لبس تاريخي خطير...
أن مفردة (غزو...) قد تفيد قصد الحرب ابتداء، هذا ما يرد على الخاطر عندما نقرأ مثلا (غزوات النبي / غزوة بني قريظة) حيث يسند الفعل ضمنا، أو سياقا، أو عنوانا إلى الرسول الكريم، فيما ليس الأمر كذلك بالضرورة، فقد تكون الغزوة ردا على غزوة، قد لا تكون ابتدائية، وفي هذا يقع لغط كثير.
لقد سميت الحرب ين محمد وبين ويهود بني قريظة بـ (غزوة بني قريظة) ! حيث صُنِّفت تحت (غزوات النبي)، ويستفيد كثير من الناس لعدم وعيهم اللغوي، وبسبب تطورات المعنى بمرور الزمن، وربما لغاية في نفس يعقوب... يستفيد من الصياغة الاخيرة، أي صيغة (غزوات النبي)، ان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان هو البادئ بهذه الغزوات، لأنها مضافة إليه، فيما لم يكن محمد يبتدأ الحرب، بل كان يرد عليها ! والتحليل البسيط لغزوة بني قريضة يفيد أن محمدا لم يبدأ حربهم، بل هم الذين بدأوا، وهم الذين شرّعوا لأصل الغزوة ! فمن المعروف أن النبي قرر غزوهم بعد أن ثبت له أنهم وراء حرب الخندق، أو الاحزاب، وقد جاء ذلك بعد عهد المدينة، الذي تصالحا بموجبه، وقررا الدفاع سوية عن المدينة تجاه أي اعتداء، فهم من هذه الناحية يكونون قد ارتكبوا مخالفتين أبتدا ! مرة التخطيط للحرب، ومرة خيانة العهد !. وكانت حرب الخندق من أشد الحروب التي هددت محمدا وأصحابه، فقد أجتمعت فيها (قريش) و (تهامة) و (كنانة) و (غطفان) و (نجد) في عشرة ألاف مقاتل، كانوا قد أعدوا كامل العدة للقضاء على محمد بضربة قاضية... نعم، كان قتلى الطرفين على عدد الأصابع، ولكن لو تم لقريش الظفر أنذاك، لكان الإسلام في خبر كان، ولكنْ شاء القدر أن يسلم الإسلام ونبيه من هذه الحرب التي حشدت لها قريش بفضل وتخطيط بني قريضة فرسان العرب، وأبطالهم. ولي كلام طويل حول قصة الخندق، سوف أتناوله يوما من الأيام إن شاء الله تعالى. فغزوة بني قريضة هي نقض عهد بمن نقضه، وليس حربا من الرسول على نحو الابتداء. فأن رسول الله لم يؤقت عهده مع يهود المدينة، بل أطلقه ما دام الأخر ملتزم به، غير محارب، ولا ناكث.
نقرا في السيرة مثلا أن سعد بن معاذ حكم في أسرى قريضة [ أن تُقتلَ (الرجال) وتقسّم الأموال... ] 5 / السيرة 3 ص 251، ولكن نقرا نصا أخر ورد في البخاري ينص [ تٌُقتل (المقاتلة) وأ ن تسبى النساء والذرية ] 6 البخاري غزوة الاحزاب ح 4122. وقد يتصور البعض أن لا خلاف بين النصين ! فيما هناك خلاف كبير، فأن النص الأول يفيد حكم سعد بقتل كل رجال بني قريضة الذين وقعوا في الأسر، فيما يفيد خبر البخاري أن القتل جزاء (المقاتلة) فقط، أي الذين قاتلوا فعلا. من هنا نذكر على أهمية دقة القراءة، وما أكثر الذين يكتبون الذين يغفلون هذه النقطة المهمة الحساسة.
ولم تقتصر دقة القراءة على النظر داخل النصوص والمقارنة بينها، فنحن نعلم أن الشافعي مثلا إنما خص نقض العهد بمن نقضه فعلا، ولا يسري ذلك إلى من لم ينقضه، وإن كان ضمن جماعة ناكثة، وهذا الموقف من الشافعي إذا كان له سند من رواية أو سيرة أو آية يجعلنا نشك برواية ابن اسحق التي يقول بها (أن تُقتل الرجال) ويجعلنا نرجح ا لرواية التي يرويها البخاري والتي فيها يقول (أن تقتل المقاتلة).
أن دقة القراءة تتعدى لآفاق مهمة، فإن النظر إلى موقف النبي الكريم من يهود قريضة هنا يجب أن ندرسه ليس في ضوء نقضهم العهد وحسب، وليس في ضوء تجييشهم قريش وغيرها على النبي والإسلام، بل على ضوء مقتربات أخرى لا تقل أهمية عما سبق، من ذلك خطورة الحرب، وما يمكن أن تؤول إليه من نتائج لصالح العدو، فقد كان باتفاق الأراء ان حرب الخندق كانت حرباً مخيفة في شكلها، في الإعداد لها، في ما ألقته في روع المسلمين، وقد كانت أشبه بالمصيرية بالنسبة للطرفين كما تفيد الأخبار، وبالتالي، يجب أن نقيس موقف المسلمين من صناّع هذه الحرب في ضوء هذا المقترب المهم، ذلك نحن نتعامل مع حقائق بشرية،وليس مع حقائق ملكوتية.
وتتطلب القراءة الدقيقة النظر الواعي في الاختلافات ذات المسافة البعيدة، فنحن نقرأ في سيرة بن هشام مثلا أن النبي حاصر قريضة (خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار...) 7 / المصدر ص 246، فيما نقرأ مثلا في طبقات أبن سعد أن مدة الحصار كانت خمس عشر ليلة في رواية، وفي أخرى أربع عشر ليلة، وفي مغازي الواقدي خمس عشر يوما (ص 496 من الجزء الأول)، وفي رواية بضع عشرة !
هل نمضي دون سبر حقيقة هذا الاختلاف؟ هل نمضي دون سبر سند كل رواية من هذه الروا يات؟ لا بطيعة الحال، فقد نكشف بعض الخفايا المهمة تكبير العدد أو في تنقيصه، وهو الامر الي يصادفنا أيضا في خصوص عدد من ضُرِبت أعناقهم من بني قريضة، فالمكثر يقول بين الثمان مئة والتسع مئة، والمقل يقول بين ستة مئة أو سبع مئة 8 / المصدر ص 252.

سرديَّة ابن هشام
يبدأ ابن هشام القصة بقوله (فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني الزهري، معتجرا بعمامة من استبرق، على بغلة عليها رحالة، وعليها قطيفة من ديباج، فقال : أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال : نعم، فقال جبرائيل : فم وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن من طلب القوم، أ ن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريضة، فإني عامد اليهم، فمزلزل بهم...)... ويستمر بالسردية على شكل حكاية متسلسلة، يقطعها بين الحين و الأخر بخبر عن شخص أو حدث له علاقة بالغزوة بشكل وأخر...
الزهري كما نعلم تابعي مكي، فالسردية هنا من بدايتها مرسلة... وتستمر السردية الشفاهية فتحدثنا عن (دحية بن خليفة الكلبي) الذي تمثله جيرائيل عليه السلام تنفيذا للوعد الذي قعطه جبرائيل في البداية للنبي بأنه مزلزل الأرض بقريضة تشجيعا له على قتالهم.
تمضي السردية الهشامية لتقص علينا بأن يهود قريضة بعثوا على رسول الله بأن يرسل لهم أبا لبابة ــ وهو : أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري المدني، واختلف في اسمه، فقيل رفاعة، وقيل مبشر، وقيل بشير، وهو أحد النقباء،عاش إلى خلافة علي ــ ليستشيروه في أمرهم، فارسله لهم، فاستشاروه أن ينزلوا على حكم محمد، فكان جوابه أن : (قال : نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح...) فكأن أبا لبابة أشار إليهم أن لا ينزلوا على حكم الرسول الكريم. ثم نلتقي بكسرٍ حادٍ في السردية، حيث تحكي لنا ندم أبي لبابة واعتزاله ومن ثم توبته، ويستمر الكسر في داخل السرد ليتصل بأوله من جديد، حيث تقول السردية (... قال : فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا يا رسول الله، أنهم موالينا ــ لقد كانت قريضة حليفة الاوس، وبنو قينقاع والنضير حلفاء الخزرج ــ دون الخزرج، وقد فعلت في موالي أخواننا بالامس، ما قد عملت ـ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريضة قد حاصر بني قينقاع،وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فساله أ ياهم عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له ــ فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟...) وتسمتر السردية لتقول لنا تم الاتفاق بين الرسول الكريم والأوس، على أن يحكم فيهم سعد بن معاذ الذي جرح في معركة الخندق. وتقول السردية أن يهود بني قريضة أقدموا مع سعد إلى رسول الله وهم يقولون (يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فأن رسول لله صلى الله عليه وسلم إنما ولاّك ذلك لتحسن إليهم، فلما أكثروا عليه قال : لقد آنَ لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريضة، قبل أن يصل إليهم سعد...)، وتستمر السردية لتخبرنا أن الجميع إنتهى الى رسول الله، فقام الأنصار والمهاجرون إلى سعد يقولون له (أن رسول الله قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا : نعم... قال : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتقسَّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء...) 10 ص 250، ثم يكسر السارد الحكاية ليروي (حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبعة أرقعة) أي السماوات ! وقد ضعفه العلماء.
يعود السارد ليحكي لنا (ثم أستنزلوا،فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة بني النجار، ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أ عناقهم في تلك الخنادق، يُخرج بهم أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب....) 11ص 253، وتستمر السردية بعد إنكسارات حادة لتقول (قال أبن اسحق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم...) 12 ص255. ثم يكسر السرد بالرواية التالية (قال ابن ا سحق : وحدثني شعبة بن الحجاج،عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرضي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم، وكنت غلاما،فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي...) ص 255. ثم يستمر السارد ليحكي عما جرى لنساء بني قريضة فيقول (... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسَّم أ موال بني قريضة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين...) 12 ص 256.
كل هذا برواية محمد بن اسحق،عن أبيه، وهو اسحق بن يسار، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري... والرواية مرسلة، لأن معبد بن كعب تابعي.
رواية ابن اسحق سردية تفصيلية، ليس لنا شغل بمستهلها الذي يتحدث عن هاتف جبرائيل الذي يدعو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعوه إلى قتال بني قريضة، فذلك كان صدقا أم هو حكاية لا مجال له في التاريخ، لانه ليس زمنيا، كما أن قصة تمثل جبرائيل بـ (دحية الكلبي) هي الأخرى لا تهمنا...

موقف الطبري من سردية ابن هشام
أورد الطبري سردية ابن اسحق برمتها، تحت عنوان غزوة بني قريظة، بسند محمد بن إسحق،عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم كسر السرد بروايته عن وكيع قال : (حدَّثنا محمد بن بشر، قال : حدثنا محمد بن عمرو، قال : حدَّثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت (لما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد قبة في المسجد، ووضع السلاح ــ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ يعني عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ــ ووضع المسلمون السلاح، فجاءه جبرائيل عليه السلام، فقال : أوضعتم السلاح، فوالله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، إخرج إليهم فقاتلهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلأمته فلبسها، ثم خرج وخرج منه المسلمون، فمر في ببني غنم، فقال : من مرّ بكم؟ قالوا : مر علينا دحية الكلبي،وكان يشبه سنَته ولحيته ووجهه بجبريل عليه السلام ـ حتى نزل عليهم وسعد في قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فحاصرهم شهرا ــ أو خمسا وعشرين ليلة ــ فلما إشتد عليهم الحصار قيل لهم :أ نزلوا على حكم رسول ا لله صلى الله عليه وسلم، فأشار أبو لبابة بن عبد المنذر إنه الذبح، فقالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنزلوا على حكمه،فنزلوا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمار بإكاف من ليف، فحمل عليه. قالت عا ئشة : لقد كان برأ من كلمه حتى يرى منه مثل الخرص) 13 الطبري ج 3ص 181. ثم يعود الطبري للإستمرار بسردية ابن اسحق ليورد ما تبقى منها كاملة !
ولم يعلق الطبري على سردية إبن اسحق بشي، بل أوردها بسندها المرسل، وهو يعلم بأنه مرسل، و كسرَ السرد بروايته المتصلة عن ابن وكيع و التي ينتهي بها إلى عائشة رضي الله عنها.
لم يرد الطبري قول سعد في سردية ابن اسحق (فأن أحكم فيهم أن تُقتل الرجال...)، واستبدلها بروايته (قال ابو جعفر : فإني أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم...) 14 ص 185، فالماذا أعدل عن رواية ابن اسحق بهذه القعطة المهمة من الرواية؟ فأن (المقاتلة) مصطلح يعني الذين يشاركون في القتال فعلا، والذي يبدأون به، فيما مفردة (الرجال) كلمة عامة !
ابن اسحق ثقة عند الطبري، ولكن ليس بالضرورة إرساله ثقة أيضا لدى هذا المؤرخ الكبير، ومن ثم، أن الطبري قد لا يتعامل مع سيرة ابن هشام بلا نظر، لكونها تعرَّضت لاختيار واختصار ابن هشام.

في مغازي الواقدي
قال الواقدي (... قال إبراهيم بن جعفر، عن أبيه... قال سعد : فإني أحكم فيهم أن يُقتل من جرت عليه المُوسَى، وتسبى النساء والذرية، و تقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حكمتَ بحكم الله عز وجل من فوق سبعة ارقعة... ثم غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق، فأمر بخدود فخُدَّت في السوق... وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عِلْيَة أصحابه، ودعا برجال بني قريضة، فكانوا يخرجون رسلا رسلا،تضرب أ عناقهم... فلم يزالوا يُقتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذي قتلهم علي والزبير...) 15ص 511.
هذه الرواية مرسلة !

في طبقات أبن سعد
(أخبرنا عمرو بن عاصم، أخبرنا سليمان بن المغيرة،عن حميد بن هلال قال... فنزلوا على حكم سعد بن معاذ من بين الخلق... فحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم...) 16 2 ص 77. في السند حميد بن هلال، قال القطان كان ابن سيرين لا يرضاه، وفي أحاديث القهقهة من السنن للدار قطني من طريق وهيب عن إبن عون عن إبن سيرين قال : كان أربعة يصّدقون من حدَّثهم لا يبالون ممن يسمعون، الحسن وأبو العالية، وحميد بن هلال 17 تهذيب التهذيب ج 3 رقم 87، والرواية مرسلة.
ابن سعد يقع في تناقض كبير في روا يته، ففي هذه الرواية يقول (فحكم أن تقتل مقاتلتهم...) فيما في روايته المرسلة التي بدأ فيها كلامه عن القضية يقول (... فحكم فيهم ـ حكم سعد على بني قريضة ــ أن يُقتل كل من جرت عليهم المواسي، وتسبى النساء...) 18ص 75.

في البخاري
في البخاري، باب المغازي نقرأ (حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة،عن سعيد قال : سمعت أبا إمامة قال سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد قال للانصار : قوموا إلى سيدكم ـ أو إلى خيركم ــ فقال :هؤلاء نزلوا على حكمك فقال : تُقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم. قال : قضيت بحكم الله، وربما قال : بحكم الملك) 19 البخاري ح 4121.
في البخاري أيضا (... عن أبي سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه... فأني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. قال : لقد حكمت فيهم بحكم الملوك) 20 المصدر ح 3043. وللحديث أطراف كلها برواية أبي سعيد الخدري.
وفي صحيح مسلم (... تُقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قضيت بحكم الله، وربما قال : قضيت بحكم الملك...) 21 ح 1786.

دقة القراءة مرّة أخرى
والآن، وبعد هذه الجولة من الروايات في كتب السيرة و الأحاديث، نسال وببساطة،من الذي كان مورد الحكم بالقتل في قرار سعد بن معاذ من أسرى بني قريضة؟
المقاتلة؟
أم الرجال؟
أم من جرت عليه المواسي؟
في كتب السيرة يتراوح القول بين هذه الصور الثلاث، فيما كتاب البخاري ومسلم تشخص الصورة الأ ولى، أي المقاتلة منهم، وهم الذين يقاتلون فعلا، بدلالة الصرف، من مفاعلة، وليس من شك ان الرجوع إلى كتب الحديث هنا أرجح من الرجوع الى كتب التاريخ والسيرة، وذلك لأن كتب الحديث مهما قيل عنها ذات سند متصل، بينما كتب السيرة فيما نحن فيه، وكما رأينا حسا، ثمة مسانيد مرسلة ! ثم كتب الحديث ذات نزعة فهقية، حكمية، أما كتب السيرة في موضوع البحث فعلا، ذات نزعة سردية، وربما حكائية، تحتوي على كثير من عناصر التسلية، والموعظة، وصور الخيال و المبالغة. وأما من جرت عليه المواسي، فهو مشكل جدا، لان ذات المصطلح عليه خلاف كبير، يتعلق بنوع الشعر وكثافته وغزارته !
وبنو قريظة لم يحنثوا العهد كلاميا،بل حنثوا العهد عمليا، ذلك أنهم جيشوا قريش والأحزاب على المسلمين، وكانت حقا معركة تنذر بخطر جسيم على الإسلام والمسلمين، وأثناء محاصرتهم تراشقوا مع المسلمين بالنبال، وقتلوا من المسلمين، وكان من القتلى (خلاد بن سويد) 22 الواقدي ص 529، فهم دخلوا في قتال فعلي، لم يستسلموا، وبذلك يسجل القوم سلسلة من المواقف التي تدينهم، وأنا أسجل هذه الملاحظات بصرف النظر عن أي اعتبار ديني او عقيدي، بل من منطلق الواقع، الواقع الفعلي، لا علاقة لذلك بدين أو حق أ و باطل.
ويحدثنا الواقدي أن يهود خيبر كانوا يتحسبون خبر يهود بني قريظة، فلما بلغهم خبر حصارهم قالوا (الشر ! قُتِلت مُقاتلة قريظة...) 23 المصدر ص 530.