أن طرق التفكير التي أدمنها العراقيون، بعدما فُرضت عليهم طوال أكثر من خمسة عقود، لن يستطيعوا التخلص منها بسهولة. هذا ما يحدث عادة عند جميع الشعوب التي أصيبت بداء الديكتاتورية وثقافة الأحزاب العقائدية لفترات طويلة. ومن أخطر الصفات الثقافية السيئة الموروثة، أولاً: الاستقطاب الحزبي المطلق!! ثانياً: الخوف من المعارضة!!

لقد ارتبطت هاتان الصفتان الواحدة بالأخرى، بل كانت الثانية نتيجة للأولى. ولئن كانت مؤسسات الدولة في ظل النظام الديمقراطي ذات صفة حيادية تخضع للدستور، فهي في ظل الأنظمة الاستبدادية تصبح مُلكاً للحزب الحاكم!! لأن الدولة برمتها تـُعتبر غنيمة لهذا الحزب!! إن حلول مبدأ ( المحاصصة ) بعد سقوط نظام البعث في 9 - 4 - 2003 محل مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب هو دليل واقعي على استمرار ( ثقافة الغنيمة ) عند أحزاب ( المعارضة العراقية ) سابقاً. ومن هنا استمر الاستقطاب الحزبي المطلق بالنسبة لأعضاء ومناصري هذا الحزب أو ذاك، وما زاد الطين وحلاً هو أتصاف العمل الحزبي في الكثير من الحالات بالاستقطاب الطائفي أو العرقي أو المناطقي!!
ومن هنا تكرست مقولة ( من ليس معنا فهو ضدنا )!! لتُكرس معها الخوف من الآخر المختلف. هذا ما يحدث عادة في النظم الاستبدادية وكذلك في المرحلة الأنتقالية الأولى للتأسيس لدولة القانون، أي على العكس تماماً مما هي عليه الأمور في النظم الديمقراطية المعروفة، حيث تكون المعارضة معلنة ومحمية بالقانون ومدعومة من قبل الدولة، بل هي جزء من مؤسسات الدولة بحكم وجودها في البرلمان (الجمعية الوطنية ) فهي ضرورة لازمة لاستمرار العملية الديمقراطية ولأن غياب أو ضعف المعارضة سيؤدي إلى خلق مغريات للحزب الحاكم بممارسة الاستبداد بالتدريج أي وضع المشروع الديمقراطي برمته على طريق الانقراض.

إذا كان الأستبداد يؤدي إلى استنـزاف الدولة والمجتمع سويةً كما حدث عندنا في العراق بوضوح، فإن الديمقراطية تصبح وسيلة وغاية لأنها ضمانة لوجود دولة حيوية ومجتمع قابل للتطور باستمرار. وإذا كانت الحركة الوطنية، أي مجموعة الأحزاب، في أي بلد هي الرأسمال السياسي للمجتمع، فإن مؤسسات النظام الديمقراطي هي الحاضنة لهذا الرأسمال، ومن هنا نستطيع أن نفهم تصريح أحد أقطاب حزب المحافظين البريطاني عشية انتخابات منتصف التسعينات حيث كان حزب المحافظين في السلطة للدورة الرابعة، قال ذلك السياسي الفذ: (بدأت أخشى على الديمقراطية في بريطانيا بسبب ضعف المعارضة ) ومن الواضح أن هذا التصريح كان دعاية مضادة لحزب المحافظين الذي ينتمي إليه هذا السياسي نفسه!! لكنه في مصلحة الديمقراطية لأن الديمقراطية أهم من أي حزب لوحده فهي سر قوة بريطانيا وتطورها وضمان مستقبل شعبها، ولأن أساس الديمقراطية هو التبادل التداولي للسلطة إلى جانب الحريات الفردية والحريات العامة واستقلال القضاء. وكل هذا لا يمكن أن يتحقق في ظل ثقافة نفي الآخر وإقصاء أو تهميش المختلفين المتبعة في ظل ثقافة الاستبداد أو المحاصصة!!

فمتى نصل نحن العراقيين إلى هذا المستوى من الوعي ؟!
بوسعنا أن نصل وبوقت مبكر إذا أستطعنا أن ندرك نحن ( جمهور الناخبين ) أي غالبية العراقيين، أصول العملية الديمقراطية لنكرسها لمصلحتنا كمجتمع ودولة، وذلك من خلال التخلي عن مفهوم الاستقطاب المطلق لهذا التيار السياسي أو ذاك، وأن نحدد خيارنا الأنتخابي من خلال الانحياز لمصداقية الجهة التي نريد أنتخابها، مصداقيتها من خلال النـزاهة والكفاءة دون أن نهتم للهوية الأيديولوجية أو العقائدية لهذا الأتجاه أو ذاك ما دام يمتلك برنامجاً علمياً وعملياً قادراً على تلبية مطالب وحاجات المواطنين. وهذا يعني أن على الإنسان العراقي أن يتخلى عن عادة الولاء السياسي الدائم لهذا الحزب أو ذاك، والذي كثيراً ما تحول إلى هوس سياسي بالرموز والشعارات ظل يغذي حالة التناحر المعروفة في تاريخ العراق الحديث، ليصبح ولاؤه الدائم لدولة القانون والنظام الديمقراطي، وولاؤه الانتخابي مرهوناً بمن يحقق مصالحه المشروعة أي القادر من خلال برنامج واضح ومحدد على إنقاذ العراق مما يعانيه من أزمات راهنة. ولأن المجتمع أكبر من أي حزب وأكبر من كل الأحزاب مجتمعة، فأن تكريس هذا المبدأ يجعل الأحزاب خاضعة لإرادة العراقيين ومطاليبهم ويحول دون جعل المجتمع ألعوبة بيد هذا الحزب أو ذاك، أي أن نتيجة الانتخابات يجب أن تكون لمصلحة المجتمع العراقي دائماً، ولا يهم أن خسر هذا الحزب أو ذاك بغض النظر عن قربنا أو بعدنا منه لناحية الفكر أو الأيديلوجيا أو الطائفة أو القومية. بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نحقق أفضل مفهوم لشعار ( العراق أولاً ) أي مصالح العراقيين وفي المقدمة منها تكريس الثقافة الديمقراطية على حساب الثقافات الفئوية والطائفية. بهذه الطريقة يكون شعار ( العراق أولاً ) الضروري لمصلحة العراقيين دون أن يعني بأنه موجه ضد أحد سواهم.