لم ينف المسؤولون الأميركيون الأخبار المتواترة عن لقاءات سرية مع الجماعات العراقية المسلحة(المعارضة!)،وذلك، كما قيل، على أمل "التوصل لإتفاق ينهي تمردها ويكون البداية لإشراكها في العملية السياسية". كما صرح الرئيس العراقي جلال الطالباني بإن "هناك إتصالات جارية مع جماعتين واحدة بعثية والأخرى إسلامية لترك العنف والإنخراط في السياسة والإنتخابات"،و تحقيق الهدف الإستراتيجي مرحلياً، وهو "عزل المٌسلحين بعد تحييد الأغلبية السنية"، وكذلك لضمان ولوجها في العمل السياسي بدل الإرتهان على العنف والإرهاب: مثلما هو حاصل الآن في المناطق الوسطى من البلاد.
قبل هذا وذاك، كان هناك حديث، ومازال، عن إنسحاب أو "برمجة إعادة الإنتشار" للجيش الأميركي، بعدته وعتاده من العراق، وجاء الزعم في "أن التقدم في مجال الأمن ولجم الإرهاب والحد من عملياته الدموية ضد المدنيين، يسمح بإجراء إنسحاب جزئي من البلاد وتسليم المسؤولية للقوات العراقية والحرس الوطني العراقي". وكان مؤتمر (الوفاق العراقي) في القاهرة، بعد وساطة من مؤسسة جامعة الدول العربية( تلك الواجهة الرسمية للنظام الرسمي العربي، بكل موبقاته المعروفة) حيث أختيرّ أناس متطرفون وسلفيون، مع نسبة معقولة من البعثيين، لتمثيل العرب السنة والتحدث بإسمهم، بحيث جاء الخطاب "الوفاقي" السني نسخة معدلة ومشذبة عن مطاليب "المجاهدين" وبقية التنظيمات المسلحة التي تفتك بالمدنيين ليل نهار.
والحال، وفي التمعن فيما سبق، فإن التخبط في تسيير السياسة ووضع أسس ومتون العراق الجديد هو عنوان المرحلة الراهنة، والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق الفئات العراقية التي راهنت، وبقت مراهنة،على نظام زال وإنتهى، ورفضت التعامل مع الواقع الجديد والطبيعي الذي لفظته المرحلة الجديدة، وأصرت على إمتيازات زمن صدام، حيث كان الإستحكام برقاب جل العراقيين في الجنوب والشمال، وممارسة الظلم والعسف المعروف بحقهم: مع التركيز دائماً على قيم "العروبة والإسلام" وإدعائهما، ورمي الآخرين "بالشعوبية" و"المجوسية" و"التبعية الإيرانية" و"الإنفصالية"، وهي التهم التي مازالت قائمة لهذه اللحظة...
كذلك تقع المسؤولية على الإدارة الأميركية التي أدارت العراق بشكل سيء بعد التحرير وتهاونت وتراخت كثيراً من دول الجوار، التي بدأت ومنذ لحظة إنهيار الصنم في ساحة الفردوس بإرسال الهدايا المفخخة من بهائم وحثالات الأرصفة العربية، لكي تنفجر بأهل العراق وتقطع أجسادهم أرباً أرباً.
ولكي تصحح واشنطن خطئها الآن، وهو "حل الجيش والإعتماد على ناس جاؤا من الخارج" بحسب بعض الناصحين العرب، فقد قررت التفاوض مع الإرهابيين أنفسهم، ومحاولة "إشراكهم في العملية الديمقراطية، والإنتخابات والدستور" وكل ذلك في العراق الجديد!. واللافت هو إظهار كل هذه الجديّة والرصانة في التعامل مع هؤلاء المجرمين، الذين يقتلون المدنيين العراقيين وجنود الجيش الأميركي كل يوم، والحديث عنهم وكأنهم مجموعة مقاومة عقائدية تلتزم بالمعاهدات والإتفاقات الدولية المعنية بشؤون الحرب وأمور القتال بين الدول، وليسوا بمجموعات مجرمة من منتسبي البعث السابقين، قتلة الشعب العراقي، والإصوليين التكفيريين من عراقيين وعرب، من أولئك الذين جاؤا ليفجروا أجسادهم بأطفال ونساء العراق، وهم لايحملون عدا ذلك أي هدف، أو برنامج سياسي ينشد البناء والنهوض بعيداً عن الدمار والدم...
الولايات المتحدة، وكذلك الحكومة العراقية، ترتكبان خطئاً فادحاً بفتح باب التفاوض مع هؤلاء الناس، وهذه المحاولة ستشجع المجموعات الإرهابية والأطراف الإقليمية التي تسيرهّم لإرتكاب المزيد من القتل والطغيان والولوغ أكثر فأكثر في الدم العراقي. ومن يظن إن هؤلاء سيتركون السلاح وينظموا للعملية السياسية هو واهم أو جاهل بالإيديولوجيا التي تحركهم وتدفعهم للإنتحار والقتل...
الإعلام العربي الرسمي، وبعض قنواته التي رضت مجانبة الملثمين وبث عملياتهم، وفي المقدمة قناة الجزيرة القطرية التحريضية، يٌطبل ويزمر ليل نهار "لمايجري وراء الكواليس" وإعتبار أن "التفاوض هو بداية الإعتراف بالهزيمة"، ومن ثم "نهاية المشروع الأميركي في المنطقة برمتها". وهناك من ديناصورات هذا الإعلام، وكبار مٌنظري الإستبداد والديكتاتورية، من الذين حولوا الهزائم والخراب لإنتصارات وإنجازات، يدلون بدلوهم كل يوم، ويضعون السيناريوهات المختلفة في "إندحار الأميركان ومن يرتبط بهم"، وبعد ذلك "عودة العراق إلى الحضن العربي الإسلامي"..!
المسلحون في العراق، لايحاربون أميركا أو الحكومة العراقية لأنها أقصتهم من العملية السياسية وإستبعدتهم مثلما يقول بعض الكتاب الغربيين، كلا..فهناك جمعيات وأحزاب تنادي "بالمقاومة" وطرد الأميركان علناً ولاأحد يتكلم معها. وهناك أيضاً مظاهرات يومية (على شرف محاكمة صدام التي طالت وإستطالت في عبثية ملفتة للنظر) في تكريت وبعض مدن الوسط، تنادي بعودة صدام وترفع صوره الكبيرة أمام أنظار الأميركان والحرس الوطني العراق. لكن هؤلاء المسلحون يحاربون أميركا وبقية العراقيين المنخرطين في بناء العراق الجديد على أساس إنهم "محتلون أعداء، صليبيون، كفرة، ومرتدين عن الدين{الحرس الوثني!!} يجب قتلهم وتطهيربلاد الرافدين منهم" كما تقول بيانات الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي.
لقد نجح الإرهابيون والأصوليون، بمعية الإعلام العربي المسٌيس وأنظمة العربان الديكتاتورية في عزل الفئات السنية الوطنية والعلمانية والليبرالية في العراق: فحل من هم في الساحة الآن، محل الباجه جي والجادرجي والشريف الحسين وغيرهم من العرب السنة الذين رفضوا صدام ورهطه وإرهاب المجموعات المسلحة الوافدة لتدمير العراق.
ثمّة سؤال هنا، والحال هذه، مع من يريد الأميركان والحكومة العراقية والسيد الطالباني التفاوض؟.هل أولئك هم حقاً أناس"لم تتلوث أيديهم بدماء الشعب العراقي" كما تفيد بيانات الحكومة العراقية يومياً؟. وما الدليل القاطع الذي يٌبين عدم تلوث أيادي هؤلاء بدماء العراقيين؟. من هم وماهي مطاليبهم وشروطهم، والساحة السياسية مفتوحة على مصراعيها لإستقبال كل من يود المشاركة في السياسة، على قاعدة الديمقراطية والإنتخاب الشعبي. فيما عدى ذلك، ماذا يريد هؤلاء؟.
أيريدون رحيل القوات الأميركية(التي تمنع بعض العراقيين من إشعال حرب أهلية طاحنة) وسحب البساط من تحت أقدام الشيعة وإعادة الأكراد للمركز مع تأديبيهم؟.
في العراق الآن حرب بين الديمقراطية والمشاركية والحضارة ضد الإرهاب والتخلف والبربرية، وإذما خسر الأميركان أو العراقيين هذه الحرب، فإن هذا يعني إنتصاراً للإرهاب وتنازلاً بخساً وخطيراً عن كل التضحيات والدماء التي ذهبت أثناء السعي لتصحيح مسار التاريخ في الشرق الأوسط وتحرير شعوبه من إحتلال أنظمتها المديد.
يأتي ذلك في وقت ما زال الغموض فيه يكتنف مصير عالمة الآثار الألمانية سوزان أوستوف المختطفة في العراق بعد انتهاء مهلة الإنذار الذي وجهه خاطفوها صباح الجمعة الماضية( تذكروا هنا موقف المستشار الألماني السيد غيرهارد شرويدر وحزبه المعارض لحرب تحرير العراق)، كما مازال كل من الأميركي توم فوكس والبريطاني نورمان كيمبر والكنديين جيمس لوني وهارميت سنغ "الناشطون في حركة تعارض الحرب في العراق" والمقيمين على الأعمال الخيرية رهن الإختطاف والتهديد بالموت وقطع الرقاب، أمع هؤلاء تريد الإدارة الأميركية التفاوض ياترى؟.
صحافي كردي مقيم في ألمانيا
[email protected]
التعليقات