لم يعش العرب لحظة حرجة كالتي تمر بهم اليوم، حيث التأزم في أقصاه والتهديد في أعتى مراحله والتفكك التشرذم يبلغ مداه الأعلى. قتامة توحي بالمرارة والأسى والغصة التي تعلق بالضمير والوجدان، لاتفتأ تذكر بتلك الرضة المؤلمة التي فجع بها العرب في حزيران السابع والستين من القرن الماضي.وإذا كان العالم يعيش لحظة التحولات الكبرى والانتقالات المربكة، فإن واقع العرب ما انفك يذكر بتلك السكونية الجاثمة على الصدور، حتى للتتبين وكأنها جزء مكون أصيل وراسخ من المكونات التي تقوم عليها الفعاليات والاتجاهات والرؤى والتصورات.من فعالية الاستشعار التي تبدت واضحة حين بدأ الاحتكاك مع هذا الآخر الغالب المترع قوة، حدد العرب ملامح العلاقة فيها عبر السعي خلف استحضار جدلية المادي والروحي، حتى كانت المحاولة نحو غرس الطمأنينة في النفوس، بين غرب متقدم ماديا لكنه بعاني الخواء الروحي، وشرق يعيش التأخر المدني لكنه يكتنز بالحضارة، لكن هذه المقارنة بقيت تعاني من الوهن والضعف لا سيما حين تم تلمس الوقائع والحقائق، تلك التي راحت تتسلل وبقوة لافتة في صميم العلاقات العربية، حتى راحت تتبدى إشكاليات التسمية للمجمل من الاختراعات التي برع بها الغرب الخاوي حضاريا! والتي لم يقف فيها الإشكال عند حدود تعريب التلغراف والقاطرة والسيارة والتلفاز والراديو، بل تخطاه نحو العناية بأمر الساندويتش، ذلك الذي عبيء بأكثر مما يطيق ليغدو شاطرا ومشطورا والكامخ بينهما.

سلامة النوايا
كيف روعيت الفاصلة بين المدني والحضاري، وماهي الفواصل التي تم الوقوف عليها بين المادي والروحي، وهل أقر العرب بتخلف الواقع الذي يرزحون تحت ظله، أم أنهم عمدوا إلى استحضار بلاغتهم لتخفيف سطوة التفاصيل لتظهر البدائل اللغوية الجاهزة من تراجع وتقهقر وخفوت وانكسار.وإذا كان موجه التخلف قد عولج على صعيد التداول الخطابي، فإن التقدم الغربي ظل بمثابة الموجه الذي لا يمكن الخلاص من ثقل حضوره في الذات الشرقية والعربية على وجه التحديد، هذا بحساب أن تقويم التجارب صار يتم ترشيحه من خلال مصفى الغرب، ليكون الاقتراب والبعد منه بمثابة الغاية القصوى، فيما تراجعت مسألة التحديث والتطوير، وباتت تعاني من تصر أولويات جديدة لم تكن في الحسبان.لاسيما على صعيد الشكل والمظهر الذي تبدى عليه الغرب.ليبرز ثقل وتحميل آخر لواقع التفاعلات العربية، تلك المبتلاة بالركود والتوقف على صعيد المبادرة في المجالاة الاقتصادية والعلمية والتقانية. حيث التطلع الكثيف نحو النهل والنقل المباشر عن الغرب، باعتباره مركزا مؤثرا، يجب الاقتداء به في سبيل الخروج من دوامة التأخر التي حطت على الواقع.ليتركز هذا الاقتداء في التقليد لمجمل المظاهر الغربية، إن كان على صعيد الملبس أو المأكل وتداول المفردات ومحاولة تعميم الرطانة، أو الانشداد نحو توسيع مجال الثقافة الاستهلاكية، تلك التي لم تفلح سوى في ترسيم وتوظيب معالم الغرب المتقدم وبافراط في الذات العربية، التي اكتفت بموضوعة المتابعة لتفاصيل المتغيرات والتطورات التي راح ينشؤها الغرب على أدواته ومخترعاته، من خلال العناية بتفصيلات الموديل التي لاتتعلق بقيمة الأداة المستعملة بقدر ما يتم التطوير في شكلها ليترسخ مضمون الموديل، في ثقافة التصنيع والتدريب والتأهيل والتحديث الذي تلقاه العرب على يد الغربيين.

إرادة التاريخ
وجد العرب أنفسهم على مفترق طريق التاريخ، بين أن يكونوا موضوعا يتم توجيهه ومجالا لتصريف الرؤى التي يحددها الآخر المتمكن من أدوات التوجيه، وبين الفعل والتأثير التاريخي، والذي لا يأت بالطبع من خلال الاندراج في لعبة النوايا والاخلاص لها، فالأمر يقوم على حضور فاعل يتم التنافس عليه بالمناكب بين الأطراف التي تروم اثبات وجودها، في تزاحم لا يعرف الرحمة أو الشفقة، إذ لا مجال للضعيف والواهن والمتردد. ومن هنا تحديدا تتجلى طبيعة الإشكالية التي يعاني منها الواقع العربي، والتي راحت تتزاحم فيها مكونات التداخل، بين المنظور الأيديولوجي الذي يتمسك به الكثير من المثقفين العرب، ومكنون الرؤية النقدية الصارمة الطامحة نحو تفكيك العلاقات، والسعي نحو توزيعها برؤية، يكون المستند فيها الواقع الحقيقي والأصيل، من دون الوقوع في متاهات التنظير أو محددات التفكير الجاهز.
جاء مفكرو النهضة ليضعوا خطاطتهم الفكرية حول توزيع العلاقة بين هذا الغرب المكتنز قوة وحضورا وفعلا، وبين الواقع العربي الذي يعاني من ويلات التراجع والتأخر، والواقع أن الملمح التداولي لمفردات الخطاب النهضوي بقيت تدور في فلك التخفيف وعدم الاثقال، لكن الكشف عن التراجع المادي كان واضحا بطريقة لا تقبل اللبس أو اللعب على المفردات، إذ لا يجدي معها تخفيفا لمفردة أو كلمة.حتى كان التنادي بأهمية التوجه نحو الأخذ من علوم الغرب، باعتبار ما توفره من وسيلة للنهوض والارتقاء بالواقع العربي. لك ملمح العلو هنا اتخذ منحى مقتربه يجول في الوسيط الثقافي، حيث التأكيد على مسألة أهمية العناية بالجانب التربوي، هذا بحساب العمليات المرتبطة بها في تخليق أسبا التنشأة والإعداد والتأهيل لأجيال العربية الطالعة، ووضعها على الطريق الموازي لمسألة التغيير واستنهاض القدرات والاماكانات، ويبقى الأمر الأهم قد تعالق عند موضوعة الرؤى وبناء محددات التصور، مابين النظرة المستقبلية الساعية للخروج من نفق التأخر الذي فرض بحضوره على العلاقات السائدة، وطريقة النظر إلى المعيقات والإشكالات التي يعاني منها الواقع، حتى كان التشخيص وقد توقف عند مدرجات التخفيف من غلواء أسباب التأخر.وهكذا أفرزت القراءة المباشرة عن إذكاء معالم الصدام مع صورة الغرب الذي حضرت صورته ماثلة في صورة المستعمر، حتى كانت صورة الخلاص وقد تم تلخيصها في أهمية زوال الإستعمار، لتكون بداية الطريق نحو النهوض، حيث الربط بين الحرية ومقومات النهوض.

وعد المستقبل
جاء عصر الإستقلال معبئأ بالطموحات والرغبات والآمال بالمستقبل الواعد.لكن هذه الرغبات سرعان ما اصدمت بجملة من العوائق التي راحت تعلن عن حضورها في وجه طريق التغيير والتحولات، ليتبلور خطاب الثورة الذي تصدر المشهد العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث إعلان الحرب على الإقطاع والرجعية والتبعية والتخلف في ترسيمة لم ينجم عنها سوى افراز المزيد من ملامح الانقسام والتوزيع للقوى الاجتماعية العربية، بل أن القسر والمباشرة العاتية التي تبدى عليها هذا الخطاب، لم يغب عنه موجهات التخوين والتهميش والاقصاء، لتتجلى ثقافة المعاقبة والمراقبة والخشية على مسيرة الثورة من الأعداء المتربصين بها من كل صوب وحدب، وهكذا كانت الحياة الاستثنائية والتي راحت تنتج المزيد من الإكراه والقمع لأحوال المواطن العربي.وأوضاع الطواريء التي تحيط بالميول والاتجاهات والرؤى والتصورات، بل أن الروح الثوري راح يطال الأحلام الفردية والرغبات الشخصية، لتبرز صورة الثورة على ما عداها،حيث الأدلجة في أقصاها وحالة التغييب القسري لأفكار الآخر.
[email protected]