الشعب في لبنان كما في معظم الدول العربيَّة محاصر بنظامه السياسي قبل أن يحاصره أيُّ نظام أمني آخر. بل إنَّ النظام الأمني ما هو سوى أداة يستخدمها النظام السياسي لتضييق خناقه على الشعب، عوضًا عن أن يكون نظام أمن للوطن وللشعب عامَّة. ونحن إذ نركِّز في هذا المقال على الوضع في لبنان، فلأنَّه الأكثر تعرضًا للالتهاب إن لم يكن الانفجار، ولأنَّه مرشح لأن يصبح النظام القدوة للعراق تحت الاحتلال الأميركي، وما بعده.
نتأمَّل في المشهد اللبناني، فنرى أربع كتل طائفيَّة متفاوتة الحجم تصطفُّ وراء مَن يدَّعي تمثيلها أو حمايتها. ونراه في معظم الأحيان يثير مخاوفها من الطوائف الأخرى بغية ابتزازها متذرِّعًا بحمايتها لتثبيت مركزه ودوام زعامته وإبقائها في بنيه وذريَّته. داخل كلٍّ من هذه الكتل هناك أيضًا تجمُّعات، هي الأخرى متفاوتة الأوزان والأحجام يتزعَّم كلاًّ منها طامح إلى quot;كرَّازةquot; ndash; أي قيادة قطيع ndash; وهو، ليبلغ مأربه، يعزف على وتر غريزة أقل الناس علمًا، وهم، للأسف على ما يبدو الأكثر عددًا، وعماد quot;قيادتهquot;، فيصبح quot;رقمًا صعبًاquot; لا يمكن تجاوزه!
النظام السياسي اللبناني اعتاد مثل هذه النتوءات الطُفيليَّة، وتعهَّدها، فازداد بها ورمًا خبيثًا يمصُّ كالعلق دماء الشعب الذي أصيب بفقر دم وفقدانٍ للمناعة، تكاد تودي به إلى القبر. النظام السياسي اللبناني هو تحالف العلق على مص دماء الشعب، دائمًا وأبدًا. وهو دائمًا يبحث عن نظام أمن خارجيٍّ يستقوي به شريكًا حاميًا.
بعض هؤلاء العلق إقطاعيُّون معتَّقون وبعضهم إقطاعيُّون عصريُّون.
هل يحتاج الشعب في لبنان، ونعني الناس الطيِّبين الذين يحاولون العيش بكرامة، وتوفير لقمة العيش لأبنائهم لكلِّ هذا الحشد من quot;الزعماءquot; الذين يستعملونهم quot;خرطوشة في مسدسهم!quot; في الواقع، لولا النظام السياسي اللبناني لكان الجواب قطعًا: quot;لاquot;. فهؤلاء quot;الزعماءquot; كالزائدة الدوديَّة لا نفع منها، ولا يشعر المرء بها إلاَّ عند التهابها. والإقطاعيُّون السياسيُّون اللبنانيُّون سريعو الالتهاب لا سيَّما إذا مُسَّت مصالحهم الخاصَّة. الفرق بينهم وبين الزائدة الدوديَّة، أنَّها إذا ما التهبت مرَّة واحدة تُستأصل. أمَّا هؤلاء، فقد جعلوا من التهاب الزائدة فنًّا متجدِّدًا، بل طريقة حياة يعيشونها ويورِّثونها لأبنائهم، جاعلين منها نموذجًا يُحتذى لكلِّ طامح إلى إقطاع.
براعة النظام السياسي في لبنان أنَّه ربط مصير الإنسان ndash; حسب طائفته ndash; منذ لحظة ولادته في مستشفى للطائفة، حتَّى دفنه في مقبرة خاصَّة بها، مرورًا بكلِّ معاملة حكوميَّة، هي في دول العالم حقُّ، وفي لبنان مِنَّة، ربطه برباط مقدَّس لا يُفكُّ quot;بدارةٍquot; هنا أو quot;قصرٍquot; وquot;مقرٍّquot; هناك. هذا النظام يعمل تحت عين كليَّة القدرة، عين الأمن، وعين رؤساء الطوائف. فالإقطاعي عتيقًا كان أم عصريًّا، يسرق الشعب بمسدس الأمن، وبركة quot;رئيسquot; الطائفة.
أرباب النظام في لبنان يدركون أنَّهم لا يستطيعون عضَّ اليد التي تدَّعي صلة مباشرة بالله عزَّ وجلَّ، فنراهم بين الفينة والأخرى، وكلَّما وصل غضب الشعب إلى ذروة، يضحُّون بـ quot;رموزquot; النظام الأمني حماية لـ quot;ساستهquot;. شاهِدنا أنَّ معظم القادة الأمنيِّين في لبنان المعاصر خرجوا إلى المنافي أو السجون، أمَّا النظام الطائفي الإقطاعي فيعيد صوغ نفسه تحت العين الساهرة لرموز أمنيَّة جديدة، تحوطها أدعية رؤساء الطوائف ودخان مباخرهم.
هل يحتاج لبنان إلى هذه الزوائد الملتهبة؟ هل يحتاج سؤال كهذا إلى من يسأله؟