قبل سنوات، كنا في مسجد الراجحي، وكان أبي مسجيً على خشبة يعلن لي أن هذه هي الحياة، حين انتهينا من صلاتنا كنت أضع نعشه على كتفي، فاجأني شاب يدفعنا بقوة ليحمل النعش، وكان يزاحم بشكل يجعل حنقك وغضبك يختلط مع حزنك وألمك، لم أكن أعرفه ولا هو من أسرتنا، فيما بعد أكد لي الجميع أنه ليس صديق أحد، قلت له : هذا أبي.
لم يكترث، ودفعني، ولأن الأمور تساوت تركته يتسول بعض الحسنات من أبي، فيما بعد قلت لنفسي : معلمه أخبره أن من يحمل نعشا له أجر، ولم يعلمه ألا يؤذي الناس، فحمل نعشا ولست أدري هل كتبت له الملائكة حسنات ذاك المساء؟
قبل أسبوع، كتبت أقول لمن لعنوا واحتقروا (هشام)، لماذا لا تحتووه بدل لعنه؟
لماذا لا تجعلونه يقدم فنا أخلاقيا ومعرفيا، بدل تركه للآخر؟
فجاءت الرسائل مكللة باللعن، هناك من شكك بأخلاقي، وهناك من أكد أني يهودي، وثمة من لم يتقبلني كإنسان واصفا إياي بخنزير، مع أني لم أبرر عمله بقدر ما طالبت أن نحتويه.
لم أكترث كثيرا للعناتهم، وأعرف لماذا يؤمن البقية بعد اللعن، بقدر ما كان يدهشني أن جل من كتبوا لاعنين ينهون رسائلهم بجملة (اللهم قد بلغت اللهم فاشهد).
ما الذي بلغوه، وعلى ماذا يشهد الله تعالى؟
وهل يعتقدون أن الملائكة لن تسجل لهم هذه الحسنات فيشهدون الله عز وجل؟
والأهم هل هكذا ندعوا إلى فكرنا؟
أليست غاية أي دعوة هي تحريك القلوب، ولا يمكن أن تحرك القلوب بالخوف والعنف واللعن، لأن هذا الثالوث لن يولد إلا الكراهية، فكيف يمكن لك أن تدعو إنسان علمته أن يكرهك؟
ثم لماذا يرعبنا كل شيء؟
حتى لعبة صغيرة صنعت للأطفال أثارت خوفنا ورعبنا، أي عقول هذه يمكن أن تجرفها لعبة؟
أذكر حين ثار البعض على لعبة (البوكي مان)، كنت مع صديق لي وكان طفله يلعب بهذه اللعبة، وسألته كل هذا الضجيج حول اللعبة لم يؤثر بك؟
أكد لي أن (الأبواب الجيدة لا تحتاج لأقفال)، وأنه من خلال هذه اللعبة يدعو ابنه إلى الله، وشرح أن طفله سأله لماذا كل الأطفال يحبون (البوكي مان)، وأنه أجابه لأن (البوكي مان) يصلي خمس صلوات، ويساعد الناس ولا يؤذيهم، لهذا أمر الله عز وجل الناس بأن تحبه، وأنت إن أردت أن يحبك الناس عليك أن تفعل مثله.
أعرف أن انفتاح الفضاء علينا أصابنا بالرعب، لأنه كشف لنا أمورا كثيرة أولها أن التخويف يسبب الرعب، وحين يخاف الإنسان إما أن يصبح ذليلا لمن يرهبه، أو يهرب بعيدا عن هذا الرعب.
كشف لنا أن الآخر وإن لم نتفق مع عاداته وتقاليده، يسمح للجميع أن يعبروا عن رأيهم، ولا أحد يجرؤ هناك أن يقول لأي شخص (من أنت حتى تقول رأيك؟)، وهذا ما جعل بعض شبابنا مهدد بأن يبتلعه الغرب، فيما البقية والذين يمارسون اللعن وقذف الناس بأعراضهم مازالوا يتبعون قائدهم بعد أن تخلوا عن عقولهم، قائدهم الذي لديه ثبات في التفكير، لأنه يعتقد التفسير السابق مطلقا والعدل وإن كان إنسانيا مطلقا ولا يتطور، وكل هذا مستحيل لأن المطلق لا يصنعه شخص (ناقص)، والإنسان بطبعه غير مكتمل أو هولا يستطيع أن يكون كاملا.
قائدهم لا يعرف أن الأمور نسبية للإنسان، فالقتل حرام، لكنك حين تقتل دفاعا عن عرضك وأرضك يصبح جهادا، الغناء حرام إن أودى بك للمعصية، ولكن ماذا لو استمعت للموسيقى فهدأتك، هل يصبح هذا مثل ذاك؟
أخيرا.. ألا ترون أنكم أطلتم في البغضاء والكراهية، وهذا ما يجعل الناس ينفرون منكم؟

السيف والتاريخ

كنت دائما أؤكد أن التاريخ يبتلع الكثير منا، ويخفينا عن الواقع الذي وقع علينا، فنبدأ بطرح أسئلة تدفعنا للتاريخ : ما الذي حدث لنا ولماذا واقعنا أصبح هكذا ومنذ متى بدأ السقوط ومن المسئول تاريخيا عن هذا السقوط، وهل تخلينا عن الدين هو سبب أم تقييدنا بفتاوى قديمة هو السبب؟
ثم نذهب للتاريخ، فنتوه في التاريخ، ثمة أمر آخر يغوينا في التاريخ، وهو البحث عن تاريخ شخص ما يتحاور معنا، فتاريخه يفيدنا في الانتصار عليه إن كنا ندخل للحوارات بروح المنتصرين، هذه الروح التي تؤمن بالنظرية الصفرية والتي مفادها لا يمكن لوجهة نظرك أن تكون على صواب ما لم تلغ فكرة الآخر أو تلغيه هو، لأن القارئ هنا ابن المجتمع والمجتمع لا يغفر لك خطأك، لهذا لا يعترف أحد بخطأه لأن لا أحد يرحم.
وتاريخك يمكن له أن يقلل من فكرتك، فأن تكون لاعبا هذا يعني أن رأيك لا يعتد به، والسبب تلك الفوقية التي يزرعها المجتمع فينا وكأننا شعب الله المختار، لهذا تجد الكثير لا يناقشك بفكرتك، فقط يقول لك : (من أنت حتى أناقشك؟)، لهذا يغوينا أيضا تاريخ الأشخاص الذين نختلف معهم.
وهذا ما كتبه الأخ محمد السيف في زاويته (بلا ضفاف)، ذهب للتاريخ وتاه في التاريخ، فمراجعه التي اعتمد عليها في سيرتي الذاتية أني كنت حارسا للهلال، كانت ذاكرته (وأظنه لا يعرف أن الذاكرة تخون)، فأنا لم أكن حارسا للهلال، ومع هذا سأقبل بتزوير التاريخ ولن أصحح له، حتى لا أتوه معه في التاريخ.
وسأجيب عن سؤاله الاستنكاري (ما الذي استفدناه من هشام؟)، بالنسبة لي لم أستفد شيئا فأنا لم أتابع البرنامج إلا جزءا من حلقة كان التنافس بينه وبين الكويتي، وراق لي ما قام به الشابان بعد أن أعلنت النتيجة فوز السعودي هشام، وكيف انتهى بينهما التنافس بالغناء (كلنا للخليج) وأن الشاب الكويتي طالب معجبيه بأن يصوتوا لصديقه هشام، مع أن المتعارف عليه بيننا نحن أبناء الخليج، أن تبدأ المنافسات الرياضية واجتماعات مجلس التعاون بالغناء (كلنا للخليج)، ثم في النهاية تهدد قطر بالانسحاب وكأن المعنيين بقطر يتعاملون مع الأمور كساكن في عمارة ضايقه جاره فقرر أن ينتقل لشرق آسيا، أو تؤجل كل الأمور لاجتماع قادم؟
ورغم هذا لم أتابعه ولا هو البرنامج يروق لي، لأني لا أستسيغ فكرة (الفن للفن)، فأنا مؤمن أن الفن لابد أن يصلح علاقتك مع الآخر، أو يصلح داخل الإنسان ويجعله أكثر إنسانية وأقل شرا.
ورغم عدم الاستفادة الشخصية، لا أجد نفسي مضطرا لطحن هشام، لمجرد أني لا أستسيغ مثل هذا الفن لأن هناك من يروق له هذا والتصويت الذي وصل إلى 70 مليونا من السعودية فقط يؤكد هذا، بل أنا طالبت من يرجمونه بأن يحتووه ويجعلوه يقدم أفكارهم، بدل من لعنه واتهامه بالتفاهة والحقارة، ووصف كل من صوت له بالحمق كما قال صالح الشيحي في مقاله والذي يستنكر به.
أما عن الغيرة قد تبدو جلية في المنافسات الرياضية لأن الوسط الرياضي أقل ثقافة، وهذا ما يجعل هذا الوسط أقل تمثيلا، أي يظهر الإنسان بشكل أوضح، والغيرة طبيعة بشرية لا يمكن إخفاؤها، بل هي سبب مباشر لتطور الإنسان، أو سبب لتدمير الآخر ورجمه بالحجارة أو تزوير التاريخ لإسقاط فكرته.
يسألني الأخ محمد عن موقعي بين المثقفين العرب والخواجات، أنا يروق لي صفة إنسان أكثر من أي صفة أخرى، فهي تذكرني بالآخر وأن من حقه أن يعيش كما يريد طالما لم يؤذ أحدا، وأن نفي هذا الإنسان جريمة وإن كان من يريد أن ينفيه مستشارا ثقافيا.
بقي أن أقول : كنت أتمنى من الأخ محمد السيف ألا يتوه في التاريخ فيتورط بعدم وجود مساحة حين قال : (تضمن المقال كثيرا من المغالطات التي أتجاوزها لضيق المساحة).
لأن أي قارئ يمكن له أن يسأل محمد السيف (ما الذي استفدناه من مقالك إن لم تناقش المغالطات لتصحح لنا وللكاتب أفكاره؟)، وبالأخص أن معلوماتك التاريخية غلط.

[email protected]