يُصدر قاضي التحقيق أمر إلقاء القبض على (س) من الناس بعد أن حامت حوله شبهات تهمة أو جنحة أو جناية، يسلم قاضي التحقيق الأمر إلى قوة من الشرطة كي تقوم بالمهمة، ولكن شرطي من هؤلاء الشرط يتحايل على الطلب، يتهرب، يخلق المعاذير الواهية كي يتخلص من هذا الواجب، الواجب الذي يتقاضى بسببه راتبه الشهري...
لماذا؟
هل هو الخوف من بطش هذا المتهم؟
ربما يكون ذلك في بعض الحالات، ولكن هناك ما هو أعمق في دلالته في هذا الخصوص، هناك أسباب تتصل بالمخبوء من ثقافتا وتربيتنا وأدبنا وتراثنا وتقاليدنا...
هذا الشرطي لا يجرؤ على استدعاء أو تجريم أو إلقاء القبض على (فلان) هذا... لا يجرؤ... كيف يجرؤ؟ و(فلان) صاحب (بخت) كبير عند الله، يرفل بنعمة موفورة فيما الناس جياع! تأتيه الأرزاق طيعة مسالمة فيما الآخرون لا يحصلون على لقمة عيشهم إلا ّ بشق الأنفس!
أليس ذلك دليل على أنه صاحب (حظ) عظيم؟
لا يجرؤ...
يده تصاب بشلل، وساقاه لا تحملاه... فأن ما أضفاه الله من (بخت) على (فلان) حاجز، مانع، لا يمكن القفز من فوقه، ذلك إنذار بحرب من الله، من القطر، من الطبيعة...
هل هو رعاية لنسب قريب أو بعيد؟
ربما يكون ذلك، ولكن يثوي في الأعماق سبب أكثر جدية، أكثر بلاء، أكثر فضيحة، أكثر دلالة على ما نريد أن نصل إليه في النهاية...
هذا الشرطي لا يجرؤ على وضع الجامعة في يد (فلان)، صعب، أمر ينذر بالخطر الكوني، تتغير الموازين، وتحل اللعنة الأبدية على الشرطي، وعلى أبائه بأثر رجعي، وعلى أبنائه وبناته، حتى يرث الله الأرض وما عليها وما فيها.
ترى ما الذي حصل؟
أن (فلان) من نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو مصون، لا يُسأ ل عما يفعل، بعيد عن المراقبة و المسائلة و المتابعة..
ليس طمعا في مال، ولا خوفا من يد باطشة، ولا تحسبا لاعتبارات قرابة، ولا هربا من مسؤولية عشائرية، ولا تقديرا لقيم حارة...
الخوف من شارة هذا السيد، أين يذهب من عقاب القدر، وهل هو في غنى عن مستقبل عائلته، بل هل هو على استعداد للدخول في معركة ضارية مخيفة مع ملائكة الله في يوم الميعاد العظيم؟
ماذا يقول غدا لرسول الله؟
وماذا يقول لأهل بيته ا لكرام؟
لكن هذا الشرطي ربما لا مثيل لقسوته في تعامله مع فقراء الناس، لا مثيل لقسوته وغلظته وخشونته وقذارته وهو يتعامل مع (بائعة هوى) مسكينة، مستهلكة، تبيع قسما من شهوتها الضائعة بين السلب والإيجاب إلى مشترٍ هائم على فراش الحرمان رغما عنه.
هذا الشرطي قاس على متمرد يساري، أو شاب متدين يرفض الظلم، أو مثقف يكتب محتجا على استغلال الجامعة الطلابية لدعاية سياسية حزبية ضيقة...
البرجوازي مصون في قيم هذا الشرطي الأمي الجاهل، ثروة هذا البرجوازي بمثابة صيانة إلهية، فيجب أن يحصل على صيانة قانونية، البرجوازي مخلوق سماوي، هناك، لا تمتد له يد القضاء الأرضي، و(السيد بن رسول الله) تحفه ملائكة الحماية الغيبية، تحيطه حجب السماء، لا يجوز اختراقها، لئلا تفور بغضبها الجبار.
لست أنطلق من صور متخيلة، بل هي صور منتشرة واقعية، صور نعرفها نحن، خاصة أ بناء العراق، وفي مناطق ا لحرمان منه على وجه أ خص... وهي ثقافة شفاهية شائعة، عطلت القوا نين، و عبثت بالأمن الاجتماعي ومزّقت سلام المجتمع.
أليس كذلك؟
الشرطي هذا قد لا يلتزم بأبسط مستحقات شريعة المصطفى، وقد لا يكون ملتزما بأبسط قيم المستحقات السلوكية السليمة النظيفة، ولكن لا يجرؤ أن يحمل كتاب القضاء إلى برجوازي ثري،أو رجل ينتمي لأهل البيت عليهم السلام... خوفا من نصيب هذا البرجوازي من الحظوة الإلهية الربانية، وخوفا من مقام هذا (السيد) في عرش الملكوت!
ليس سرا أن كل هذه المبررات ليست مقبولة، ولا منطقية، لا في قانون، ولا في شرع، فمن المعروف في الأدب الديني أن رسول الله قال قولته الشهيرة (لو أن فاطمة بنت رسول الله سرقت لقطعت يدها)، الأمر ا لذي يكشف عن تناقض صارخ بين الدين بفطرته الأولى والدين بما طرأ عليه، وهل ننسى النصوص الدينية التي تؤكد على المساواة أمام القانون؟
تلك هي ثقافة المجتمع المتخلف، والشرطي في موقفه هذا إنما هو نتاج طبيعي وثمرة طبيعية لهذه المسيرة التي تشكلت عبر زمن ليس بالقصير، مسيرة من عادات، وتقاليد، وموروثات، وقيم...
فما العمل تجاه هذا الواقع المر؟
هل هناك إمكانية شرطي متنور؟
شرطي لا يحابي حظوة برجوازي عند ربه!
شرطي لا تأخذه رجفة بين يدي ذاك المتلفع بخامة خضراء بحجة الانتساب لذلك البيت الطاهر...
شرطي لا يواري الحقيقة عن ملفات الرصد، وعيون الرصد، و أذان الرصد...
شرطي ينقل الحقيقة حتى مع ولي نعمته!
لا يعني هذا بطبيعة الحال نريد شرطيا شرسا، لا يراعي مبادئ وقيم وأعراف المجتمع، تلك من مقومات الشخصية الناجحة، والشرطي في أوربا يتقدم لك بكل احترام، فيما هو يسلمك ورقة كُتِبَ عليها ينبغي أن تحضر إلى المحكمة في التاريخ الفلاني، وللغرض الفلاني، وفي المكان الفلاني...
حقا أن من محن العالم الثالث هذا الموظف الذي يُسمَّى شرطيا، محنة المنبت، و محنة الوظيفة، و محنة الإداء، ومحنة التاريخ، و محنة السلوك، ومحنة السمعة، ومحنة الثقافة، ومحنة الأمانة...
لقد ضاعت حقوق وحقوق بسبب هذه الثقافة الميتة، ودنِّست حقائق وحقائق بسبب هذه الثقافة البالية، وأنتهكت حرمات وحرمات بسبب هذه الثقافة العفنة...
في الحقيقة لابد من ثقافة أخرى نقدمها للشرطي العراقي الجديد...
نعم!
نحتاج لوقت، ا لى زمن، إلى جهد...
وليكن...
فالعراق مستقبل...
أليس كذلك؟
أن وزارة الداخلية في المستقبل تتحمل مثل هذه المسؤولية الكبيرة، وهي مسؤولية تشترك فيها مع وزارة الثقافة، وغيرها من الوزارات ذات الشأن الثقافي والتربوي...
أكتب للمستقبل...
وذاك من ديدني وا لحمد لله.
- آخر تحديث :













التعليقات