لناحية علاقة الدولة بالمجتمع، ما نقوله حول أي بلد من البلدان العربية، نجده ينطبق في الكثير من الحالات على مجتمعات البلدان الأخرى، والتمايزات في هذا الجانب أو ذاك غالباً ما تكون جزئية، أي أنها لا تغير من حقيقة الأمر شيئاً. فالبنية التحتية متشابهة والطبيعة الثقافية الرثة للنخب الحاكمة متطابقة لناحية الجوهر، وهي مجتمعات تنحدر تاريخياً من نفس الأزمة، أي الانقطاع الحضاري لعدة قرون تحت الهيمنة العثمانية، ثم هيمنة الاستعمار الغربي والتبعية بأشكالها المعروفة.
رغم هذه الحقيقة المعروفة، نجد من يعتقد بأن العراقيين يختلفون عن سواهم، لدرجة تنقلب فيها بعض الحقائق على رأسها!! فمن يستطيع أن يلغي صفة ( العنف ) عن العراقيين وتاريخ العراق هو تاريخ عنف واقتتال؟! ولدرجة أصبح معها الكثير من العراقيين أنفسهم يصدقون ما يُقال عنهم دون تأمل أو مراجعة، بل ويتبنونه في طروحاتهم كما لو كان حقيقة لا جدال فيها!! وسنجد تاريخياً، أن أعداء العراقيين قد ساهموا في ترويج هذه التهمة منذ جريمة مقتل الحسين بن علي على أرض العراق، الجريمة التي نُفذت بقرار من الدولة الأموية وبجيوش هذه الدولة نفسها، ثم أضيفت لها كل جرائم الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي كان قد أشبع أهل الحجاز جوراً وظلماً قبل مجيئه إلى الكوفة، فكافأه عبد الملك بن مروان بتوليته على العراق كي يواصل جرائمه بحق العراقيين!!
ومع استمرار المظالم على أيدي قتلة جدد، قادمين من خلف الحدود أيضاً، لا يقلون جهلاً ورطانة عن سابقيهم، استمرت تـهمة العنف أيضاً!! دون أن يتمكن العراقيون من تحقيق مشروع خلاص ممكن خاصةً في العالم المعاصر الصعب والمعقد.
وبعيداً عن الاستطراد، يمكن القول أن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى التباس المفاهيم في قراءة الظواهر الاجتماعية، سواء قراءة الآخرين لتاريخ العراق أم قراءة العراقيين لحيرتهم إزاء كل ما جرى ويجري في بلادهم!!
وأكثر من كرس هذا الالتباس هو الاضطرابات المستمرة، إذ حتى في الفترات التي كانت تبدو وكأنـها مستقرة، فإن ما كان يحدث في الواقع، هو ليس استقرار المجتمع نفسه بل استقرار هيمنة الدولة على المجتمع بعد أن تكون قد قمعت المعارضة وهمشتها، أو أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة. فالرفض وليس العنف هي الصفة التي ميزت تاريخ العراقيين. وهناك فرق نوعي بين الصفتين، ف ( مشكلة ) العراقيين الأساسية هي عدم قدرتهم على تحويل الذل والمهانة إلى ثقافة اجتماعية عامة كما حدث في العديد من البلدان الأخرى، وهذا ما لم يقله أي مؤرخ تناول تاريخ العراق على حد علمنا!!
لكن تهمة العنف هي التي طغت على ما عداها، وتم تكريسها في العراق المعاصر ليبرر الحاكم مظالمه، وليستمر تشويه سمعة المجتمع العراقي من قبل المستفيدين من حاكم بغداد السابق من الأشقاء العرب!! في حين كرس العراقيون ثقافة الرفض واستمرت التضحيات الباهظة ولكن دون نتيجة!!
علينا أن نعي دائماً أن تداخل السبب والنتيجة، أي التباس المفاهيم والاضطراب السياسي، أصبحا بالتراكم يتبادلان الأدوار فتبقى المأساة قائمة، ويبقى الجلاد والضحية ذاتهما مع تغير في الأقنعة والشعارات!! وهذا ما يمكن أن نسميه بالمأساة. أليس كذلك؟!
وإذا كانت هذه المأساة قد تكررت عند جميع الشعوب التي عاشت التجارب ذاتها، فإن ذروة المأساة عندنا تكمن في ( تضييع الفرص ). وإذا كان بعضنا مولع لسبب أو لآخر بتقريع الذات، سيكون بوسعنا أن نقول هنا: إننا شعب موهوب في تضييع الفرص!!
لقد شهد القرن العشرين أكثر من فرصة مهمة لإنقاذ الدولة العراقية مما تعانيه من رثاثة ثقافية وتخلف في أدائها الحقوقي. والفرص لا تأتي اعتباطاً بل ظل المجتمع العراقي يدفع ثمنها غالياً، لكن عندما تأتي الفرصة يظهر الكثيرون من أصحاب المواهب السوداء لتضييعها، بل وقلب نتائجها رأساً على عقب، وهذا ما حدث بعد ثورة العشرين، وكذلك بعد ثورة تموز 1958!!
والآن!! الآن يعيش المجتمع العراقي فرصة كبيرة بل أهم فرصة في العصر الحديث، فرصة بناء دولة الدستور والنظام الديمقراطي، وهي فرصة دفعنا ثمنها غالياً، دفعنا ملايين القتلى والمعوقين والأرامل والأيتام والمشردين، وملايين من الأجيال المختلفة ممن ضاعت حياتهم بين الحروب والإرهاب والمنافي. ما يجعل من الضروري القول بأن من واجبنا وحقنا معاً، أن لا ندافع فقط عن حقنا في تأسيس الدولة العادلة بل وأيضاً علينا أن ندافع عن تضحيات الشعب العراقي الهائلة. نعم علينا أن ندافع عن تلك التضحيات كي لا تذهب هدراً أي دون ثمن، فنكون بهذه الحالة قد ارتكبنا خطيئة مضاعفة، خطيئة تضييع فرصة الانعتاق والتحرر وخطيئة إهمال أو تناسي تلك التضحيات المؤلمة وتركها تذهب أدراج الرياح مثلما ذهبت غيرها من قبل!!
كانت الفرص تضيع بسبب تناحر الأحزاب الثورية وتنافسها على فرض أيديولوجيتها وشعاراتها، وقد أثبتت تجارب النصف قرن الماضي بأن ثقافة الأحزاب ثورية أحادية الجانب وهي إن اتسعت إنما تتسع للادعاءت المثالية والانفعالات، لذلك فشلت جميعها، سواء كانت داخل السلطة أم خارجها، وإذا كانت حال تلك الأحزاب خارج السلطة أصبح معروفاً، فإن تلك التي استلمت السلطة عبر الانقلابات حولت فشلها إلى طريقة حكم غريبة في أفضل وصف.
والآن: ماذا جرى وما الذي يجري؟! لقد تم تدمير العراق بالديكتاتورية ثم بالاحتلال ومعه الارهاب!! وفي خضم المواجهات نشأ البديل الصعب ولكن الذي لا بد منه، دولة القانون والنظام الديمقراطي!! وكان الثمن مزيداً من التضحيات ومزيداً من الاستعداد لتضحيات جديدة من أجل السيادة والأمن والسلام الاجتماعي.
إن المجتمع الذي يقدم كل هذه التضحيات من أجل السيادة والأمن والسلام لا يمكن أن يكون عنيفاً. ولكن أيضاً لا يمكن القول بعدم وجود فئات لها مصلحة باستمرار العنف والارهاب. إنها فئات السلطة المهزومة وثقافة السلطة المهزومة. أولئك الذي عولوا على إشعال الفتنة الطائفية كآخر بديل متاح للمهزومين أمام العدال وأمام إرادة الشعب العراقي المسالم. فانتدبوا أنفسهم ممثلين لطائفة معينة دون أن يخولهم أحد بذلك. وقالوا إن هذه الطائفة أكبر من تلك!! وكأن المشكلة بالعراق تكمن في كبر هذه الطائفة أو تلك!! وعندما تحرك البديل الديمقراطي وبدأت الاستعدادات للانتخابات العامة، فكانت فرصتهم ليثبتوا حقيقة ما يدعون، لكنهم، ولأنهم يعرفون الحقيقة، رفضوا المشاركة بالانتخابات وحرضوا ضدها بحجة وجود الاحتلال. وبعد أن انتصرت الإرادة الخيرة عبر صناديق الأقتراع، إنكشفت هزيمة منطقهم ملحقين ضرراً واضحاً بالطائفة التي يدعون تمثيلها، بل يريدون اغتصاب تمثيلها!! حيث حرموا محافظات عديدة من حقها المشروع في أن يكون لها من يمثلها في الجمعية الوطنية!!
وحين انكشفت ألاعيـبهم الواحدة تلو الأخرى، قالوا نريد إنسحاب قوات الاحتلال من المدن، وحيث بدأ الحديث مؤخراً عن خطة لسحب قوات الاحتلال من المدن كمقدمة لجدولة الانسحاب النهائي، سمعنا من يقول: لا نريد انسحاب قوات الاحتلال من المدن فقط بل من العراق!! وكأن الأمر بيد العراقيين. بهذه الطريقة المجانية التي تريد القفز من فوق حقائق الواقع يريدون الاستمرار بالترويج للعنف وتبرير الأرهاب الأسود الذي يذهب ضحيته يومياً عشرات العراقيين الأبرياء!!
فهل العراقيون يتصفون بالعنف أم أعداء العراق الداخليين والخارجيين؟!