أكثر أنواع الأخطاء الثقافية ضرراً، أن يـجد البعض مصلحته، وربما مصيره الثقافي أو السياسي، في تغذية تلك الأخطاء وإدامتها!! لذلك لا نعدم وجود من يدافع عن الأخطاء الثقافية والسياسية الشائعة في حياتنا، وليس من المستغرب أن يتم ذلك باسم القضية القومية أو الوطنية أو باسم الثقافة ذاتـها!!
ولئن كان تكريس الظواهر السلبية الـمتوقعة وغير الـمتوقعة، لا يأتي اعتباطاً، فأن ما خلق مناخاً يشجع على تكريس الأخطاء الثقافية وترويجها، هو العادات الثقافية السيئة والشائعة عندنا جراء النكوص الحضاري المتوارث وإهمال قضية الثقافة الحقوقية رسـمياً، الأمر الذي خلق اضطراباً في عملية التنافس على فرص العمل والحياة عموماً ( ناهيك عن فرص اقتناص المناصب الإدارية أو السياسية ) ولاسيما فرص تأكيد الذات فيما يخص وضعية الـمثقف في مختلف اختصاصاته. وعلى هذه الخلفية نشأت وترعرعت أول العادات الثقافية السيئة، وهي عادة الخوف أو الحذر من الآخر أو الرأي المختلف، بحيث أصبح مـجرد الاعتراض على إحدى الظواهر أو الـمشاهير في عالم الأدب أو السياسة، يواجه بالاستنكار!! لا استنكار الفكرة ذاتـها فقط، بل وأيضاً استنكار مجرد التجرؤ على طرحها!!
وهذه مشكلة نفسية تدل على النكوص والخوف من مجرد تحريك العقل بعيداً عن الوصايا والـمسلمات!! في حين إن وجهة النظر المختلفة أو الـمناقضة لوجهة نظري حول ظاهرة معينة لا تعني بالضرورة، تـهديداً لمعنى الأفكار التي أؤمن بـها، بل إن بالإمكان أن تتعايش أفكار أو أساليب متباينة أو متناقضة في المجتمع ذاته بعيداً عن الشعور بالتهديد. ولكن هذا المستوى من الفهم وأسلوب التعاطي مع ظواهر الحياة يحتاج إلى هوية مشتركة للمجتمع المعني، والـهوية هنا ليست مجرد ثقافة أو مذهب، بل هي قبل ذلك دولة قانون دستورية تكرس ثقافة حقوقية واضحة ومحددة تضمن وتـحمي حرمة المواطنة ومفهوم العدالة على مختلف الأصعدة، أي ضمانة القانون لحقوق المواطن المدنية والسياسية. هذا ما يعزز ثقة الأطراف الـمختلفة بالدولة ذاتـها وثقة كل طرف بوجوده وضمان مصالحه، ما يعطي بعداً واقعياً وعملياً لإمكانية التعايش مع وجود الاختلاف والتباين. وعلى أساس هذه القاعدة تنشأ العدالة في توزيع السلطة والثروة بموازاة الثقافة الحقوقية التي تحميها، أي تحمي الدولة والمجتمع ككل. وعليه فأن العادات الثقافية السيئة أو الإيجابية، لا تأتي بـمحض رغبة أو تبشير، بل هي ُتكرَّس عبر التحولات السياسية النوعية والعميقة لتفرض حقيقتها على مراكز القوى الاجتماعية لتأخذ لاحقاً طابعها الرسمي. وهنا يكمن مصدر الاختلاف الجوهري مع نسق الأنظمة الشمولية والأحزاب الأيديولوجية التي تحكم أو تعارض عبر مفاهيم مجردة لا يربطها في الواقع وحركته رابط أكيد، حيث يصبح هاجسها الأول هو ( تكييف ) هذا الواقع ليتناسب مع الأطروحة الأيديولوجية كما تشير الى ذلك تجارب كثيرة، إذ مع التأكد من استحالة تكييف الواقع يبدأ الفشل باحتلال الـمشهد، ولأن هذا الفشل هو من طبيعة النسق الذي أنتج السلطة ذاتـها، فهي ستظل أسيرته، أي أسيرة فشلها، حيث سنجد تفسيراً لظاهرة تحريم الوصول الى مصادر الـمعلومات الحقيقية أو إذاعتها وتداولـها واعتماد الكذب والتضليل رسـمياً بـما في ذلك تحويل الهزائم الى انتصارات وهذا ما نجده واضحاً في تجربة النظام البائد مثلاً لا حصراً.
وعود على بدء، يـمكن القول، عندما تتوفر الحماية الحقوقية الكاملة للإنسان بصفته إنساناً ومواطناً وليس رقماً أو جمهوراً أو مادة للاستعمال وقت الحاجة. عند ذلك فقط لا يعود مثيراً للحساسية أو الـمشادات الاختلاف في المذاهب الفكرية أو الدينية أو المواقف الـمتباينة من أساليب العيش أو أشكال التعبير في الفنون والآداب، لأن النسق الذي يُنتج العدالة كثقافة وسلطة، لا ينطوي على قيمة أخلاقية وحقوقية فقط، بل وأيضاً هو الباب الأوسع للتطورات الحضارية التي ترتقي بالـمستوى الاجتماعي العام وبلغة الثقافة في مختلف الـمجالات، وعند هذه النقطة تختفي الكثير من الخلافات والرطانات التي تستهلك وقت وجهود العديدين، مثقفين وسياسيين، في الظروف غير الطبيعية التي يعيشها الـمجتمع، فلا يعود هناك خلافات مضحكة مبكية حول أشكال وأساليب الكتابة الأدبية أو حول القومية والوطنية، على طريقة: هل أنت مع جمال عبد الناصر أم مع الخونة والجواسيس؟! هل أنت مع عبد الكريم قاسم أم مع ( الحرس القومي )؟! هل أنت مع العلمانيين الملحدين أم مع المتدينين الرجعيين؟! حيث يكون الجميع متهم ومدان بنظر الجميع!! في حين إن الحقيقة التي نفتش عنها، قد لا تكون مع هذا ولا ذاك، أو هي عند الجميع بنسب معينة، أو أن هذه المعمعة وتلك الأيديولوجيات لا علاقة لها بروح العصر ولا بمصلحة المجتمع أو حقوق الإنسان، والحال إننا استهلكنا القرن العشرين خاضعين لعادات ثقافية وسياسية سيئة، هي نتاج نسق متخلف قادنا لأسئلة متخلفة وصراعات أكثر تخلفاً، وبدل حوار الأفكار أصبحنا مع حوار البنادق والأحقاد والشكوك المتبادلة!! وفي النهاية ماذا وجدنا؟! وجدنا أننا جميعاً خرجنا خاسرين!! وحين عدنا إلى الوعي من هول الصدمة وجدنا أنفسنا أمام الحقيقة المرة: كل هذه المآسي وكل هذا الخراب الذي أسمه العراق!! فهل يستحق العراق كل هذا؟!