أم الشهـداء جميلــــة أم الشرفــاء نبيلــــة
عبرت بحـر الآلامـــات حفظت بدماها الحق قويمـا
هي كنيسة مصر الأرثوذكسية، القلعة المصرية العتيقة، التي جسدت الهوية المصرية في مواجهة الإمبراطورية الرومانية، ثم رافقها الأزهر الشريف، ليقفا سوياً في وجه جحافل الغزاة التي توافدت على أرض مصر من كل حدب وصوب، لتظل مصر أرض الحضارة، أقوى من الزمن وصروفه.
هي بهذا أكبر من أن تكون مجرد مؤسسة دينية تخص أقلية من المصريين هم الأقباط، كانت كذلك دائماً، وعلى مدى عصور عمرها المديد، وهي بالأكثر اليوم، بعد ما حدث بالمجتمع من تغيرات، تعاظم خلالها الدور الاجتماعي والثقافي للمؤسسات الدينية المصرية، والتي امتد نشاطها ليغطي مناطق، تقع بكاملها في الدائرة الوطنية، وتستحق بل ويجب أن تكون محور اهتمام جميع المعنيين بشئون الوطن.
•في حضن الكنيسة تتربي الأجيال التي تمارس الحياة العامة على هدي خطاب الكنيسة، متأثرة بنظمها وطبيعة العلاقات السائدة فيها.
•وفق خطاب الكنيسة تتشكل عقول ملايين من المصريين، ترى الحياة وتتعامل مع العالم من منظورها، سواء الأقباط الذين تلقوا تلك التعاليم من الكنيسة مباشرة، أو باقي أخوة الوطن، الذين ينتقل إليهم ذلك التأثير بطريق غير مباشر، من خلال التعامل اليومي، والتأثير في المناخ الثقافي العام.
•تستقطب الكنيسة اهتمام جماهيرها ووقتهم، وهي ثروة وطنية يمكن تعظيم الاستفادة منها، ويمكن إهدارها كباقي ثروات مصر المهدرة.
كل هذا قديم ليس فيه جديد في الحقيقة، لكن الجديد والملح في هذه الحقبة الخطيرة التي تجتازها مصر والمنطقة، هي الدور السياسي الذي اضطرت الكنيسة لأدائه تمثيلاً للأقباط خلال الخمسين عاماً الماضية، في غياب ومحاصرة التنظيمات والتجمعات الشعبية، سواء السياسية أم غيرها.
الدور السياسي المتصاعد الذي تلعبه قيادة الكنيسة هو الذي لفت الانتباه في عدة مواقف، ربما بداية من صراع البابا شنودة والسادات، والذي انتهى بنفي الأول واغتيال الثاني، مروراً بتصريحات البابا السياسية في كل المناسبات وبدون مناسبات، وتدخله بعكس الاتجاه المعلن للدولة في قضية التطبيع مع إسرائيل، واستخدامه لعقوبات كنسية عقيدية صرفة، للتحكم في تحركات الأقباط، التي يكفلها لهم الدستور، وتتيحها لهم أجهزة الدولة المعنية، ثم أخيراً وليس الآخر، ما أقدم عليه البابا من مبايعة للرئيس حسني مبارك في انتخابات الرئاسة التي تجري على أرض مصر لأول مرة في تاريخها، بما يهدد بإجهاض احتمالات نجاح التجربة الديموقراطية الوليدة، والتي أطلق شرارتها حسني مبارك نفسه!!
هذا الدور السياسي ليس هو كل الأمر فيما يتعلق بالكنيسة، بل هو الجزء اللافت للانتباه، أو الجزء الظاهر من جبل الجليد كما يقولون، فالأخطر هو نوعية الإنسان الذي يتربى في أحضان خطاب الكنيسة ونظمها، ومدى توافقه مع المواصفات المنشودة في جيل نسعى لانفتاحه على العالم، في أجواء منافسة شرسة وسوق مفتوح، لا يعرف رحمة بالضعفاء وعديمي الكفاءة، هل تنتج لنا إنساناً يقدس الحرية والاستقلالية ويؤمن بالعلم، أم تنتج للوطن كائنات ضعيفة مستضعفة، تستأنس العبودية والطاعة والخنوع للسادة الرعاة الكثيرين؟!
ترددت طويلاً قبل أن أقرر طرق هذا الباب الذي قد تأتي علي منه عظيم الرياح، وذلك لأسباب عديدة:
•عدم تعود الأقباط (شأنهم شأن كل أبناء الشرق) على المراجعة والنقد، خاصة فيما يتعلق بالخطاب أو التقاليد والعلاقات الدينية.
•حساسية الأقباط من مناقشة أمورهم في العلن، وقد علمتهم الأيام أن السلامة في التواري عن الأنظار، وتحاشي لفت الانتباه، الذي قد يجر عليهم ما لا يحبون.
•حالة الاسترخاء والرضى واليقين بين الشعب القبطي، بأنه كنسياً ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، تجعل نظرة الناس إلى الصوت المخالف أنه ليس أكثر من ابن ضال، حرضه عدو الخير إبليس، حتى يعكر علينا الهناء والسلام، وصلوات الكنيسة جاهزة لطلب الهداية أو الفناء لهؤلاء، بعد وصمهم بأنهم أعداء بيعتك يارب (مثل كل زمان والآن، حل تعاظمهم، وعرفهم ضعفهم سريعاً، اجعلهم كلهم كلا شيء، بدد مشورتهم يا الله)، هذه النظرة تجعل الآذان والعقول مغلقة تماماً أمام كل صوت جديد، وكل محاولة لضخ دماء جديدة في عروق الصخرة الأرثوذكسية العتيقة.
•ما تتعرض له الكنيسة من ضغوط خارجية، وتتركز بالأساس في خطاب وممارسات جماعات التطرف الأصولي، يجعل ابن الكنيسة، وكذا المراقب المحايد، يلتزم اللياقة ويبتلع كلماته قبل ريقه، كي لا يضيف إلى الكنيسة أعباء فوق أعبائها، انتظاراً لتوقيت مناسب، عادة لا يأتي أبداً، على نمط شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، والمعارك لا تنتهي، لتظل دعوات الإصلاح ومحاولاته حبيسة الصدور أو الزنازين!!
كانت تلك العوامل كافية بالنسبة لي على الأقل، لأتجنب الخوض فيما أعتبره ملحُّ وخطير، لأكتفي باهتمامي الأساسي، الوطني والإنساني، متعللاً بأن التغيير سيتسرب حتماً وتلقائياً للكنيسة، مع التغيير في مصر والشرق بكامله، فالأقباط ليسوا كياناً خاصاً متقوقعاً في جيتو، بل هم موزعون كخيوط النسيج عبر الجسد المصري، وتسري عليهم ذات القوانين والتبدلات التي تعتري الثوب كله.
لكن هذا التعليل صحيح بدرجة جزئية ومحدودة، نتيجة خاصية التحوصل التي فرضتها على الكنيسة عصور الاضطهاد الطويلة، بما يعني أن الكنيسة ستكون المكون المصري الأقل تأثراً واستجابة لرياح التغيير وفعلها، بما يؤدي لأن تكون عبئاً أو عامل مقاومة للتغيير والإصلاح، في ذات الوقت المأمول منها أن تكون عامل أو قاطرة للتقدم لأبنائها وللمجتمع المصري ككل!!
كان هناك أيضاً أن المحبين لمصر والمصريين، سواء كانوا من مفكري الأقباط، أم من رفقاء الدرب والوطن، رموز الاستنارة من المسلمين، هؤلاء لا يجب أن يتقاعسوا عن مراجعة خطاب كنيسة مصر الأرثوذكسية، كركن من أركان الهوية المصرية، ليس في المسائل الدينية اللاهوتية البحتة، والتي هي أمر خاص في كل دين، وإنما فيما يؤثر ويحدد طبيعة العلاقات داخل دائرة المجتمع المصري ككل، وفيما ينعكس على أداء المواطن القبطي، ضمن منظومة علاقات المجتمع المتنوعة.
لكن الأهم في حيثيات قرار تناول خطاب كنيسة مصر الأرثوذكسية ونظمها، هو أن نظرة متأملة للعناصر التي أوردتها كمسببات أو مبررات للإحجام عن التناول، هذه العناصر هي نفسها أهم أعراض الداء الذي ينبغي على كل مخلص للكنيسة والوطن، البحث عن دواء له!!
فعدم تعود أبناء الكنيسة على النقد الذاتي، ناجم عن ذات النقص أو الداء اللعين، المتفشي في جميع مناحي حياتنا، وهو غياب آلية المراجعة والتصحيح، بما يكفل تدارك الأخطاء، والتطوير المستمر، وأظننا نعرف جميعاً أن الفارق الأساسي بين النظم الاشتراكية والشيوعية المنقرضة، وبين النظم الرأسمالية المنتصرة، كان هو افتقاد والأولى وامتلاك الأخيرة لآلية المراجعة والتصحيح المستمر، وعلينا كمصريين إذا أردنا ألا تتجاوزنا الحياة، وألا يفوتنا قطار الحضارة إلى الأبد، أن نزود أنفسنا ونظمنا باختلاف مجالاتها بآليات النقد والمراجعة المستمرة.
مثلها داء التستر والتكتم، أو ما نسميه "عدم نشر غسيلنا القذر على الملأ"، وعكسه الشفافية والمصارحة، بصفتها الوسيلة الوحيدة لكي يدخل نور الشمس إلى كل بقعة في حياتنا، واستبدال قيمة التستر بقيمة الشجاعة الأدبية في مواجهة الأخطاء والعيوب، لتشجيع أبناءنا على رفض الصمت خشية الفضيحة، حتى صارت الخطايا جزءاً أساسياً من مكونات حياتنا، وقد تأقلمنا على التعايش معها، بل المكاشفة والمجاهرة بالأخطاء، فلسنا ملائكة حتى لو ادعينا ذلك، وما دمنا بشر فإن الخطأ وارد، والتصحيح واجب!!
أول الخيط
من العجيب أن نجد أن نقطة القوة في بنيان الكنيسة الأرثوذكسية، هي ذاتها بؤرة الضعف التي نتج عنها ما نتصوره الخلل الرئيسي في بنيانها الفكري والتنظيمي، فالشطر الأخير من الترنيمة التي استهللنا بها تلك السطور يقول: حفظت بدماها الحق قويماً، وهذه العبارة هي فعلاً مفتاح شخصية الكنيسة المصرية، وكلمة أرثوذكسي تعني الرأي المستقيم، فأعظم خدمة قدمتها كنيسة الإسكندرية للمسيحية، هي أنها استطاعت الحفاظ على الإيمان المستقيم، ولولا دماء أبنائها، وبطولة بطاركتها العظام، وأشهرهم أثناسيوس الرسولي، ما استطاعت الكنسية العبور بالإيمان النقي خلال العشرين قرناً المنصرمة، ولكي تحقق الكنيسة رسالتها، كان لابد أن تتصف بصفة أساسية، هي التشبث بالأفكار والعقائد الأولى، التي أرساها تلاميذ المسيح والآباء الأوائل، ورفض أي تعديلات أو تخريجات، وهو ما اصطلحت الكنيسة على تسميته بالبدع، التي أصبحت في خطاب الكنيسة كلمة بغيضة، لما ارتبط بها من شطحات كانت بالفعل تهديداً للإيمان القويم.
لكن هذا كان يعني بالمقابل ثلاثة أمور في غاية الخطورة:
•الحجر التام على الأفكار، وغلق جميع المنافذ للتجديد والتطوير والمراجعة.
•الرأي الواحد وديكتاتورية النظام الكنسي، فما دامت الحقيقة ثابتة وواحدة، والقائد الأكبر هو الأمين عليها، فإن على جميع الأفواه أن تخرس، وعلى المؤمنين الطيبين أن يلتزموا بالطاعة لكي تحل عليهم البركة.
•التكتم وانعدام الشفافية أو المصارحة، فالكبار وحدهم هم الذين يعرفون كل الأسرار (السمائية والأرضية) وهم الذين يتدبرون أمور الكنيسة بحكمة من الروح القدس.
شجرة الطاعة
لا بأس بكل هذا، لو اقتصر الأمر على المسائل العقائدية الدينية، لكن المشكلة على الأقل كما نراها في صورتها المعاصرة، أن الملايين من الأقباط يتشكل تفكيرها ونظرتها للحياة، وتتحدد نماذج علاقاتها، في رحم الأم الكنيسة، التي تتسلم الطفل قبل أن يتقن نطق الكلمات، لتصب في أذنه، أو تضخ في رأسه أناشيد الطاعة والخضوع، وعلى أبناء الطاعة تحل البركة، ويتعلم كيف يقبل يد "أبونا"، ويلتمس البركة من يده المقدسة، يعامل الطفل كمشروع لكائن ذليل، كأن الذل والاستضعاف من علامات التقوى، وعندما يصل المرحلة الابتدائية يحفظ حكاية شجرة الطاعة، وخلاصتها أن راهباً قديساً يدعى الأنبا "بموا" جاء إليه شخص ليتتلمذ على يديه اسمه "يوحنا القصير"، وقد رأى الأنبا "بموا" أن الطاعة هي أهم ما يعلمه لتلميذه، وأن أفضل طريقه لذلك هي أن يأمره بأخذ عكازه وزراعته على بعد عدة كيلومترات في الصحراء بعيداً عن مكان إقامتهما، وأن يذهب يومياً إليه حاملاً جرة من الماء ليرويه، وتقول القصة أن بعد عدة سنوات من التعب المضني أورقت العصا وصارت شجرة، وسميت شجرة الطاعة، والجدير بالتنويه أن هذه القصة لا تروى على أساس أنها مجرد قصة خيالية، بل يقول تاريخ الكنيسة أنها حقيقية، وعندما تذهب إلى أديرة وادي النطرون، ستجد من يدلك على جذع شجرة جاف، ويقول لك هذه بقايا شجرة الطاعة!!
هذه القصة ليست مجرد نموذج اخترناه تعسفياً من خطاب الكنيسة الأرثوذكسية، لندلل على رأي ما، لكنها نموذج معبر عن مجمل خطاب الكنيسة، والذي يترسخ في وعي ولا وعي القبطي ليصوغ شخصيته ونظرته للحياة، ونستطيع أن نرصد المعالم التالية لما ينتج عن مثل هذه التعاليم في ذهن الإنسان:
•الطاعة الصماء البكماء العمياء للمعلم أو القائد.
•إطفاء نور العقل أو استئصاله من جذوره، وعدم التفكير في المعقول وغير المعقول، إذ يكفي عقل المعلم أو القائد، فهو بالتأكيد يعلم الحكمة من أوامره، وليس من وظيفتي ولا يتفق مع إمكانياتي أن أبحث بنفسي عن الحكمة المخفية في أوامر القائد، حتى ولو كانت في مثل شذوذ أوامر الأنبا "بموا".
•زرع الإيمان بالخرافة واحتقار العلم، فالعكاز الجاف قد صار شجرة وارفة، ليس بناء على حقائق علمية، ولكن بفضل بركة الأنبا "بموا"، وبفضل الطاعة، التي هي القيمة العليا في الحياة، وهي ضمان النجاح والفلاح!!
التراكم العشوائي
العمود الفقري لنظام الكنيسة هو نظرية "التسليم والتسلم"، فلأن المهمة المقدسة للكنيسة هي الحفاظ على إيمان الآباء المستقيم، فإن آلية الفكر والممارسة تقوم على تسليم الجيل الأكبر للأجيال التالية نص ميراث الأجداد، دون حذف أو إضافة أو تعديل، سواء بالنسبة للعقائد أو الطقوس، أو الأعراف والتقاليد، هي حزمة مقدسة تسلم من يد إلى يد لتعبر الأجيال والعصور، كاملة غير منقوصة ولا مزيدة ولا محرفة.
هذا هو المفروض نظرياً، وما قلنا أنه قد ترتب عليه استئصال الإبداع وغياب المراجعة والفرز، لكن الواقع أمر آخر، فالإضافات مستمرة عبر الأجيال، بشرط أن تتم بهدوء وبلا استفزاز لأحد، وعلى الأخص أحد الكبار العارفين بكل حقائق الإيمان، وهذا بلا شك أمر جيد، لأنه يعتبر بمثابة المسام التي يدخل منها الهواء المتجدد للصخرة الأرثوذكسية المصمته، لكن المشكلة أن هذا يجري في غياب لآلية الفرز والمراجعة، المجرَّمة في فلسفة الكنيسة، بل والمفتقدة أصلاً في ذهن الأجيال التي تربت في حضنها، لتكون النتيجة تسرب حقائق ممزوجة بالخرافات، لتكون ركاماً غير متناسق، يساهم في تغييب العقل القبطي، المطلوب أن يظل مخدراً وفي حالة بيات شتوي دائم، حتى يمكن تمرير كل هذا الركام دون اعتراض أو حتى تململ.
يحضرني هنا موقف من أيام الشباب، حين كنت أمضي بعض أيام الإجازة الصيفية في أحد الأديرة القريبة من مدينتي، وفيما أنا جالس بالمطبخ أنقي الفول من الحصى لتدميسه، مع راهب كان يطبع كتب عن معجزات البابا كيرلس، بادرني بالقول أنه نشر إعلاناً ليرسل إليه كل من حدثت معه معجزة للبابا كيرلس، لينشرها في كتابه القادم، فقلت له ببساطة وتلقائية: وكيف تفرز القصص الحقيقية من الملفقة؟ وكانت الإجابة المذهلة، التي لم أنسها بعد أربعة عقود، قائلاً: أنا بأنشر على طول، فما كان مني إلا أن نفضت يدي من تنقية الفول من الحصى، وقلت له وأنا لن أنقي الفول، فالسيد الراهب الناشر حريص على أكل الفول المدمس خالي من الحصى، لكنه لا يهتم بتنقية الغذاء الفكري للآلاف وربما الملايين، مما قد يتسرب لهم من خرافات وأكاذيب، يجدر التنويه بأنني رصدت بعد ذلك بسنوات أكثر من خمسة عشر كتاباً عن معجزات البابا كيرلس، رغم أن معجزات السيد المسيح تشغل عدة صفحات!!
نكرر أن غياب آلية الفرز والمراجعة في فكر الكنيسة أدى إلى خلود أكوام من الخرافات في تراثها، دون أن يفكر أو يجرؤ أحد على مراجعتها وتنقيتها، وليس هنا مجال التحقيق العلمي الشامل، لكن على سبيل المثال كتاب تاريخ الكنيسة "السنكسار"، الذي يسجل الأحداث الهامة بالكنيسة عبر العصور، يذكر في أحد الأيام حادثة كسوف للشمس، على أنها غضب من الله على خطايا البشر، وأن الله قد أعاد نور الشمس مانحاً عبيده فرصة للتوبة، والآن الكنيسة وكل كهنتها وأساقفتها علماء يحملون أعلى الدرجات العلمية، ما الذي يمنعها من مراجعة مثل هذه الصفحات وتصحيحها أو حذفها، هل لأننا مازلنا نعتقد أن الكسوف إنذار من الله على خطايانا، أم هو غياب آلية المراجعة والتصحيح، أم هو غياب العقل أو ضموره من الأساس؟!!
لا ينبغي أن يتبادر إلى ذهن غير المضطلعين أننا نتصيد هفوات استثنائية، فالكتب الكنسية فعلاً مليئة بالأعاجيب التي تستعصي على الحصر، وتقود إلى نفس النتيجة التي خلصنا إليها، فهناك صلاة للمسافرين تدعو لهم بالسلامة، وتعدد وسائل السفر: بالبر والبحار والأنهار والينابيع، ولا يفكر قبطي واحد كيف يمكن أن يسافر أحد بالينابيع، ونحن في عصر مكوك الفضاء، وسوف أتوقف عن ذكر المزيد لأن الله حليم ستار!!
هنا نسأل سؤالاً بسيطاً، هل القبطي التقي الذي يتربى في أحضان الكنيسة ويتشبع بخطابها، هل هو بعد ذلك سيكون قادراً على التمييز بين الأفكار المتضاربة في الحياة، سياسية كانت أم اجتماعية، وهل سيخطر على باله أصلاً أن يقوم بعملية فرز، أم أنه سيلجأ كما هو حادث الآن إلى الآباء الكهنة وقداسة البابا ليستفتيهم في كل صغيرة وكبيرة، فهذه هي مهمتهم، وكل ما عليه أن يجيد ابتلاع ما يقدمون له؟!
ازدهار العقلية الخرافية
من منطلق ذات نهج هذا الاستعراض لنتائج خطاب الكنيسة، المتمثل في بحث مواصفات وصفات القبطي المتشبع بتعاليم الكنيسة، وليس بحث الصحة العقائدية لهذا الخطاب، نأتي إلى الاعتقاد في "شفاعة القديسين"، وهو الاعتقاد الذي تؤيده نصوص الكتاب المقدس، لكن المشكلة في إساءة استخدامه من قبل الكنيسة، تحت سمع وبصر رعاتها، وفي معظم الأحيان بمبادرة أو تشجيع منهم، لتكون النتيجة ازدهار العقلية الخرافية، فنسمع عن عمليات جراحية أجراها القديسون قبيل ذهاب المريض إلى المستشفي لإجرائها، وهذا قبر قديس حفنة من ترابه، إذا ما أذيبت في الماء، فإنها تشفي الأمراض، ويوزع هذا التراب على زوار ذلك الدير، دون أي إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير، عند من يفعل ذلك في السذج من المؤمنين، والذين أصبح كثير منهم يحمل شهادات الدكتوراه!!
قديس آخر شاله إذا ما وضع على مريض يبرأ، أو على صاحب أمنية تتحقق أمنيته، والأيقونات في الكنائس والبيوت تنضح بالزيت المقدس، وأخري تتحرك، ومياه في ماجور بكنيسة في دلتا مصر، مازالت كما هي لم تنقص منذ أن استخدمتها السيدة العذراء أيام زيارتها لمصر، وكان من الطبيعي أن تجمع تلك الكنيسة ألوفاً مؤلفة من أموال المؤمنين الفقراء، ليهرب بها الأسقف إلى بلاد لا تركب الأفيال، ومع ذلك فالنقود المسروقة لا تعنينا رغم ضخامتها، فالذي يعنينا هو تدمير العقل المصري، تحت سمع وبصر ومباركة سادتي الآباء الكهنة والأساقفة، فيما قداسة البابا المعظم مشغول بعودة القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية، كأن مجهودات السيد عمرو موسى وحماس والجهاد غير كافية لتحقيق المراد!!
سلبية وبلادة وطغيان
يتدرب القبطي في الكنيسة على المواظبة على حضور الطقوس الكثيرة الطويلة، المورثة لنا من عصور الزراعة والفراغ، وليست تلك المشكلة، إنما في أن المؤمن يتدرب أن يقف بالساعات الطوال والكاهن يصلي نيابة عنه، وحتى المقاطع في الصلوات المفروض أن يؤديها بنفسه، هناك من يقوم بذلك نيابة عنه، وهو كورس المرتلين وقائدهم (المعلم)، وكل ما على المؤمن التقي فعله، هو أن يقوم ويجلس مع الكورس، ويردد بين الحين والآخر "آمين"، ونظرياً على المؤمن خلال تلك الصلوات الطويلة أن يتأمل في رحمة الله ومحبته، وأن يحاول أن يتابع الصلوات مستعيناً بكتاب، ويفعل البعض هذا فعلاً ، لكن الأغلبية تتدرب على قول "آمين"، وعلى عدم الإحساس بالوقت، هو تدريب ناجح بامتياز، على البلادة والانقياد، وترديد "آمين"، وهي الكلمة الأكثر طلباً في جميع مؤسساتنا، بداية من المنزل حتى مجلس الوزراء!!
والانقياد الذي يتلقنه القبطي في الكنيسة ليس فقط للأحياء من الكهنة والأساقفة، لكن أيضاً للقديسين الذين رحلوا عن عالمنا، فهو يستشيرهم في الهام من أموره، وقد يتحدث إليهم مباشرة أمام أيقوناتهم الخاصة، أو يرسل لهم خطاب يدسه من زجاج الصناديق التي تحوي رفاتهم، والتي يوجد عدد منها في كل كنيسة الآن، وهذه الظاهرة انتشرت في الربع قرن الأخير، وهي الفترة المسجل عنها الردة والتدهور الحضاري في الفكر المصري بصفة عامة.
نعيد التأكيد أننا لا نعرض الأمر لنقرر صحته من الوجهة الدينية، فهذا الأمر متروك للقادرين عليه والمهتمين به، لكننا نتحدث من وجهة نظر علمانية محضة، عن تأثير تلك الأفكار والممارسات على أداء المواطن القبطي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعلمي، في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات، ولكي أكون واضحاً، أنا لا أحاول التشكيك في سلامة وصحة العقيدة القبطية الأرثوذكسية، لأنها عقيدتي وعقيدة أهلي، لكن هذا لا يمنع بل يدفع لمراجعة تأثير كل ذلك على عقل وأداء الإنسان المصري، المتعثر على عتبة التاريخ، والمهدد بالاستبعاد من ركب الإنسانية إلى الأبد!!
من الطبيعي وفق ما تقدم، من حرص الكنيسة على "التسليم والتسلم"، وما ترتب عليه من استبعاد الإبداع والمراجعة، أن تكتمل المنظومة شديدة المحافظة تلك بالطغيان، فالشعب قسمان، رعاة ورعية، والرعاة ينبغي أن يتقنوا دور الراعي، وهذا جيد وجميل، لكن الرعية عليهم أيضاً أن يتقنوا دور الخراف المهذبة، التي تتوجه تلقائياً إلى حيث تشير عصا الراعي، ولغير المسيحيين أوضح أن الكلمتين راعي وخراف ليستا من عندي، إنما هما مستخدمتان وبإفراط في خطاب الكنيسة، بما يرسخ في ذهن القبطي فعلاً روح القطيع، وروح الانصياع لتعليمات الراعي، حتى لا يكون كالابن الضال، وقد تكون العلاقة بهذا الشكل هي الصحيحة دينياً، لكن ماذا عن تأثيرها على مجمل حياة الإنسان؟!!
أدت فلسفة الكنيسة ورؤيتها لدورها في الحفاظ على العقيدة أيضاً، إلى أن تصور الرعاة لدورهم أنهم في خدمة العقيدة، وليسوا في خدمة الرعية، ورغم أن السيد المسيح كان في خدمة الناس العاديين، خطاة وأبرار، ورغم أنه لم يكتب عقيدة ولم يملي على أحد وصايا، بل كان كما يقول الإنجيل "يجول يصنع خيراً"، والخير بالطبع هو خير للناس، إلا أن الرعاة الأرثوذكس معنيون بخدمة العقيدة، التي صكها الآباء الأوائل، ولا يعنيهم تخفيف معاناة الإنسان القبطي مع قوانين الزواج والطلاق الأرثوذكسية، وغير معنيين بالتأثيرات الاجتماعية المدمرة، بل وما تسببه في أحيان كثيرة من حالات تحول عن الدين، تضع البلاد على شفا فتنة طائفية!!
كم أحزنني كإنسان أولاً وكقبطي ثانياً، وأنا أشاهد برنامج تليفزيوني عن زواج الأقباط، ونيافة الأسقف وقد حاصرته المذيعة الجميلة اللامعة، ونصبت له فخاً وقع فيه، معلناً أن العقيدة تفرض هذه القوانين، لتجاوبه المذيعة بابتسامة دهشة واستهجان: والناس، ماذا يفعلون؟!!
هذه هي رؤية رعاة الأرثوذكسية لدورهم، وهم أكثر الناس حديثاً عن المحبة، التي من الواضح أنها محبة نظرية لتدبيج العظات وتأليف الكتب، أما عند الممارسة العملية، فإنهم يتجهون لما يرونه دورهم في الحفاظ على العقيدة وليس الحفاظ على المؤمنين، رغم أنهم يعرفون أن الكتاب يقول: "أريد رحمة لا ذبيحة"!!
أرجو أن يكون من الواضح أننا لا نتحدث عن أشخاص نوجه إليهم الاتهام، فلو كان الأمر كذلك لكان علاجه بسيطاً وفي متناول اليد، لكن المشكلة في النظام، في فلسفة الكنيسة وتقاليدها الممتدة عبر العصور، تلك الفلسفة التي أعانتها على مهمتها المقدسة في حفظ الإيمان القويم، لكنها في المقابل أدت إلى ما نستعرض بعضاً منه.
خطاب الكنيسة والعظات التي لا يملون من تكرارها، وقلبها على كل وجه، تحريض سافر وغير منطقي على السلبية، وعلى الوقوف من العالم موقف المتفرج، مستخدمين بعض الآيات استخداماً شائهاً، بعد اقتطاعها من سياقها، مثل: "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم"، "ليس لنا هنا مدينة باقية، لكننا ننتظر العتيدة"، "الرب يحارب عنكم وأنتم تصمتون"، "لو كنتم من العالم لكان العالم يقبلكم، لكنكم لستم من العالم"، "ملقين كل همكم عليه، لأنه هو يعتني بكم"، "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم".
كل هذه الآيات يمكن فهمها بطريقة مختلفة غير التي تقدم بها في خطاب الكنيسة، فقط لو كان لدينا الوعي بما يحتاج إليه الإنسان في عصرنا الراهن، أيضاً لو قرأنا كتابنا المقدس بطريقة مختلفة تكشف لنا عما نتجنبه من آيات تدفعنا لتعمير العالم، ولجعله مكاناً أفضل لنا ولأولادنا!!
لحسن الحظ فإن خطاب الكنيسة في هذا المجال لا يحدث تأثيراُ كاملاً، لأن اهتمام الناس بتدبير معيشتهم يتغلب على أناشيد الزهد والسلبية التي تصب في آذانهم خلال ساعات الصلوات والعظات التي لا نهاية لها، ومع ذلك من السذاجة تصور انعدام تأثيرها، فهناك فرق بين أن يكون الفكر عامل دفع للأمام، وبين أن يكون فرملة لاندفاع الإنسان لتحقيق ذاته، كما أن الموقف السلبي من الحياة يتبدى في مساهمة القبطي في الحياة العامة، السياسية والاجتماعية، وفي مساهمته المادية في إنشاء المدارس والمستشفيات مثلاً، بدلاً من السير على ذات نهج أجدادنا الأوائل الذين لم يخلفوا لنا غير المعابد والمقابر.
من الممكن أن يكون الإنسان سلبياً تجاه الحياة، وهو يعرف أنه مخطئ، وربما يعدل عن موقفه إذا ما أتيحت له الظروف المناسبة، لكن السلبية التي يتربى الإنسان عليها في الكنيسة ترتدي ثوب القداسة، ومدعمة بالنصوص بذات الطريقة التي تسيء القراءة والتفسير، وبالتالي يكون الحض على الإيجابية مؤثماُ، باعتباره بمثابة إلهاء النظر عن الحياة الباقية السمائية!!
الشفافية المفتقدة
هي أيضاً كما سبق وأوضحنا، من لزوم ما يلزم للمنظومة الأرثوذكسية، فالتكتم جنة المحافظة والجمود والطغيان، ففيه تستتر أخطاء الكبار، ويتم التعتيم على أسباب الحرمان والقطع من الكنيسة، وتكون حسابات أموال الكنيسة بمنأى عن الرقابة المالية الحقيقية والجادة، ويكون الحديث عن الأخطاء، جريمة وخطية على مرتكبها أن يستغفر، وكعادة رجال الدين دائماً، يسهل استدعاء الآيات لتوظيفها لأغراض أبعد ما تكون عن معناها وغرضها الطبيعي، لكن من يتجاسر أو حتى يفكر في الصياح أو التمرد، وسيف الحرمان مسلط على الرؤوس، والقطيع مدرب جيداً على تقبل كل شيء، والأصح أنه غير مؤهل أصلاً لعملية النقد والفرز والمراجعة، لقد تم استئصال كل هذه الملكات الخبيثة من رأسه، ليصير رأساً مقدساً، مثل رأس "يوحنا القصير"، الذي سقى عصا معلمة حتى أورقت.
أثناء زيارته لأقباط سويسرا، سألوه هناك عما تكتبه بعض المجلات، عن سرقة أقاربه لأموال الكنيسة، فأجابهم: لماذا تقرأون مجلات وحشة؟! لن أقول لكم من الذي سألوه، تأدباً!!
المؤمن التقي الذي تأقلم مع التكتم في كنيسته، المفترض أنها بالنسبة له المدينة الفاضلة، هل نتوقع منه أن يناضل سياسياً من أجل الشفافية على المستوى الوطني؟!
هل نتوقع منه أن يرفض التعايش مع الفساد أو التغاضي عنه، ثم إذا كانت هذه هي قواعد اللعبة التي يعرفها الجميع، هل نتوقع بعد ذلك أن يكون الفساد المالي والإداري مجرماً اجتماعياً، أم أن الطبيعي أن يكون الأمر مستساغاً، رغم أناشيد الطهارة والأمانة التي نتقن عزفها في المناسبات!!
التغيير يا سادتي يبدأ من هنا، فالتخلف الذي نرزح تحت نيره صناعة محلية، نصنعها في البيوت والمعابد والمدارس، كما تصنعها لنا وسائل إعلامنا الموقرة.
لا تغيير حقيقي يبدأ من قمة الهرم، ولن يزول الطغاة قبل اختفاء صنف العبيد، فلنكف عن صناعة العبيد، ليرحل الطغاة طوعاً!!
التعليقات