شيء ما يجعلني هذا الصباح اختار عنوانا مستفزا للمقال، مستفز لي اولا بالطبع، غير انه يحاول بلورة فرضية تتعلق بالمستقبل السياسي للعراق، المهمة الاشد غموضا وتعقيدا. جاء القادة الجدد الى العراق من المنافي البعيدة ، وهذه سمة المشروع الجديد الغالبة. سألت احدهم قبل اسابيع وهو يتبوء اليوم منصبا رفيعا بين تحصينات المنطقة الخضراء في بغداد: ألم تحاولوا اعادة النظر في تصوراتكم حول البلد انتم القادمون من المنفى بعد عامين من التجربة المرة؟ كنت اشير تحديدا الى مشكلة البعثيين الذين بدا للكثير ان "اجتثاثهم" من الدولة والسياسة حل سحري يجعل بوصلتنا تعثر على الوجهة الصحيحة. لا تهمني اجابة الصديق العائمة وهو الذي ينعم الان بالأمن في تحصيناته، والامن اندر عملة في بغداد، لكن ثمة حقيقة لا يريد ان يدركها او يعلنها صناع القرار العراقي اليوم بينما ندفع نحن ضرائبها الباهظة.
لقد انقسم الشيعة والاكراد خلال العقود الثلاثة الماضية الى معسكرين، احدهما بقي في العراق واضطر الى التعايش مع ظروف الحياة في ظل نظام الزعيم الاوحد، بينما ضرب المعسكر الاخر خيامه في المنافي، نشأ وتكون بعيدا عن السلطة المحسوسة للبعث، او تسلق الجبل وتمترس في كهوف كردستان مع البيشمركة. وحين عاد هؤلاء الى البلاد لم يكن لا الشيعة ولا الاكراد بحاجة ماسة طبعا الى "كردي بعثي" او" شيعي بعثي" لتمثيلهم في مؤسسات السلطة ولوائح الانتخابات، فجماعة المنفى فيها الكفاية وهي ترصع وتطعم ببعض جماعة الداخل غير الفاعلين في العادة، ولا اريد ان اشبه بالزوج المخدوع، او عنترة الذي ظل يغني: هل غادر الشعراء... هذا ما جرى رغم قسوته. اما العرب السنة فلم تكن لديهم مضارب او مخيمات في المنافي، الغالبية الساحقة منهم بقيت في العراق واضطرت الى التعايش عادة مع النظام، دخلت مؤسساته وحزبه وتجارته وحتى حماقاته احياناً.
سواد السنة من الاعظمية حتى تكريت والموصل ومن منطقة الدورة حتى الفلوجة بل حتى في البصرة جنوبا، تربطه اواصر جغرافية وقرابات عائلية مع رموز كبار في العهد السابق، كل هذا ساهم في ادخالهم بشكل اكثر بروزا في اجهزة دولة صدام حسين طيلة ثلاثين عاما. فضلا عن نفوذهم الاكبر في لحظة تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الماضي حين كان الشيعة يحرمون ((المشاركة في العملية السياسية)) حسب تعبير هو الاكثر شيوعا في العراق اليوم.
حين تريد ان تسأل معظم النخبة السياسية السنية التي تعمل اليوم في العراق ويؤيد معظمها المقاومة، عن خلفيتهم السياسية، لا تسألهم عما اذا كانوا بعثيين ام لا، عليك ان تسألهم: متى تركتم حزب البعث؟ معظمهم ابتعد عن الحزب خلال التسعينات وانشغل بالتجارة او المهنة، كثيرون تعرضوا الى الفصل من الحزب لأن اقارب لهم تورطوا في مشروع انقلاب او مؤامرة على صدام، او غضب منهم "الرئيس" لسبب او اخر، شيوخ عشائر كانوا ضباط مخابرات او قادة عسكريين... الخ. كل ذلك طبيعي وأؤكد انه طبيعي في اجواء النخبة الاجتماعية التي بقيت في معسكر الداخل ولم تنزح نحو المنافي ولم يكن صدام ليرضى ان يبقوا خارج دائرته السياسية (اعني بالنخبة الاشخاص الذين كانوا يديرون الدولة تحت دائرة الضوء بعيدا عن الهامش المهني او الاجتماعي او الاقتصادي)

اجتثاث البعث... اجتثاث السنة
هذه الصورة تترجم بوضوح مبدأ اجتثاث البعث وحظر العمل السياسي عليه، حيث سيعني ذلك حكم اعدام سياسي على مجمل النخبة السياسية في غرب العراق وأعالي الفرات، فلم تكن لديهم مضارب او سرادقات في لندن او الرياض او دمشق يمكن ان تؤثر الان في الوسط الاجتماعي. (اين تأثير الدكتور عدنان الباججي مثلا؟)
ازمة الموقف من البعث في بعض جوانبها جزء من اشكالية ((داخل - خارج)). القادمون من المنافي سيطروا على اهم مفاصل الدولة وحين يجري ترشيح اي عنصر من الداخل لمنصب، يبدأ السؤال: هل كان بعثيا؟ وبالمناسبة ادعو المهتمين الى استخدام نموذج (داخل - خارج) لقراءة العديد من الظواهر المستعصية، بما في ذلك مقتدى الصدر وميليشيا المهدي، ربما سيسمعون حينئذ ترنم هؤلاء بأبيات عنترة عن رحيل الشعراء وبقائهم هم بين كثبان العراق المميتة لبضعة عقود. (كاتب السطور من جماعة الخارج طبعا مع فارق انه لم يدخل مفاصل دويلات العراق الحالية ولا يريد ذلك).
لسنا بحاجة الى المزيد من المعطيات للبرهنة على فرضية هذا المقال، فكما تهيمن احزاب الاسلام السياسي اليوم، بفضل دعم رجال الدين والامكانات المالية ووجود الميليشيات والعلاقات الاقليمية، على وسط العراق وجنوبه (مناطق الشيعة) رغم وجود الكثير من التيارات الاخرى الضعيفة حاليا، تجد ان الغالبية العظمى من النخبة السياسية التي لها صوت مسموع او وجاهة مؤثرة في المناطق السنية هم اشخاص كانوا يحتلون برغبتهم او رغم انفهم، مراكز (عضو فرع، عضو شعبة في الحزب الاوحد، قائد عسكري،...الخ)

خشية المعرفة، تعالوا نحدق في المشهد
ما لا يريد الزعماء الجدد ان يدركوه او يعلنوه اليوم ان اشراك العرب السنة في العملية السياسية سيعني بالضرورة السماح للكثير من البعثيين بالعمل السياسي، والترشح في انتخابات مجلس النواب القادم، ودون ذلك سيتم اقصاء العرب السنة حقا، يمكن ان نفهم حينها ماذا تعني شكوى السنة من التهميش مع ان لا احد منعهم في الظاهر من المشاركة.
اذا اراد الزعماء الجدد الافصاح عن هذه الحقيقة فإنهم سيفتحون بابا لتزايد الشركاء على الكعكة العراقية المحدودة في مناطقهم كذلك، جنوب العراق مثلا، حيث يوجد شيعة كثيرون بالطبع، شاركوا في مؤسسات النظام وأجهزته وربما حماقاته ايضا اسوة بالعديد من نخبة الداخل التي كانت مرتهنة بمعادلات الداخل وظروفه الصعبة، بعد ان قام الزعماء الجدد باقصاء العديد من كوادر الدولة بذريعة انهم عملوا مع صدام مع ان الكثير منهم بريء من الدم العراقي ولم يكن لهم حول او قوة. ومع ان
محاكمة المجرمين الحقيقيين ممكنة جدا ومهمة لأنها ستؤدي الى تبرئة الكثير الكثير من اعضاء حزب البعث ربما وهي تضع حدا فاصلا بين عقوبة على انتماء للحزب كان بدوافع غير اجرامية، ومن ارتكب جريمة سواء كان داخل الحزب او خارجه.
كل هذا يفسر لنا لماذا يبدو السنة وكأنهم يدافعون عن البعث، انهم يدافعون عن نخبتهم السياسية التي لا بديل حاليا لها، في وجه كتل سياسية تمتنع بشدة عن السماح بذلك. قال لي سياسي شيعي انه لو طبق مبدأ اجتثاث البعث على الاعضاء الخمسة عشر السنة في لجنة الدستور (وهم الذين جرى اشراكهم بضغط امريكي مباشر) فإن الكثير منهم لن يكون له حق الترشح في الانتخابات (بعثيون) كان يمكن ان يكون سكوت الشيعة عن مشاركة هؤلاء في لجنة الدستور غض نظر ايجابي بضغط من كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية، وربما يمثل بداية للمصالحة بين نخبة سنية جرى تبعيثها خلال العقود الماضية، ونخبة شيعية وكردية كانت تعارض البعث. لكن اصرارا على تثبيت مبدأ الاجتثاث في الدستور جعل السنة يتساءلون: من يضمن اننا لن نمنع من الترشح في الانتخابات بعد ان دخلنا لجنة الدستور بضغط امريكي، او يمنع مئات الشخصيات السنية التي بقيت تراقب او تراهن على ما يمكن ان نعمله. (هذا هو احد اهم الخلافات حول الدستور اليوم). السفير الامريكي زلماي خليل زاد يردد دوما: علينا ان نطبق العدالة دون ان ننسى استحقاقات المصالحة الوطنية، انه يدرك خطورة اقصاء النخبة السنية الحالية بمادة من الدستور. يقال ان الرئيس بوش طلب من زعماء الائتلاف موقفا اقل حدة من البعثيين، لكن لا احد يمكنه ان يحدد اليوم المساحة التي يمكن للدور الامريكي ان يكون فاعلا فيها امام ضغوط الشيعة واوراقهم القوية، وربما لذلك صلة مباشرة بتلويح عبد العزيز الحكيم بإقليم شيعي كبير في الجنوب.
هل يمكن للدور الامريكي ان يبدأ بجدية خطوات المصالحة ويعيد النظر في قانون الاجتثاث الذي اصدره السفير السابق بول بريمر؟ (وهو لم يعد اليوم ملكا لبريمر او رايس بل مسطرة بيد الحكام الجدد يقاس بها هذا السني فيرفض ويأخذ بواسطتها قياس ذاك ليقبل على اساس دستوري هذه المرة بعيدا عن قانون بريمر). ويظل التساؤل حول دور اقليمي ودولي قائما فيما يتصل بهذه القضية الاساسية التي يمكن لحلها ان يمثل ((طائفا)) عراقيا للتصالح.

تاريخ مجهول للمصالحات الكبرى
هذا ما عنيته في عنوان المقال، حيث سيظل الموقف من البعث يساهم بفاعلية في رسم شكل المستقبل السياسي للعراق وتحديد العلاقة بين كتله الرئيسة، حقيقة اتمنى ان يعلنها بوضوح زعماء السنة قبل زعامات الشيعة، دون لف او دوران، لأن الوقت يمضي ونحن نحترق، والأهم منا احلام الاجيال العراقية. قلت لصديقي بعد ان نجت زوجتي من سيارة مفخخة في بغداد، هل تذكر قبل عامين حين كنا نكتب بحماس للتحول التاريخي والديمقراطي والانخراط في عولمة القيم الحديثة، بينما انتكس الطموح
اليوم ولم نعد نحلم الا بشارع يمكن ان يتجول فيه احدنا مع حبيبته بأمان، حتى لو كان الثمن دكتاتورا مخففا!
يبقى على الجمهور الشيعي تحديدا ان يتحرر من عواطف غير منظمة (وهي عواطف رسمتها لوعات الامهات على ابنائهن ودماء ضحايا الابادة دون شك) يستثمرها زعماؤه الجدد لصالح احزابهم، ويقرأ تاريخ المصالحات الكبرى في العالم، ويدرك ان خيار العيش مع سبعة ملايين سني تقريبا في بلد واحد، يعني ان يقرأ تاريخ الصراعات والمصالحات، وهو تاريخ مجهول في عراق يكثر من استخدام تعابير المجاملات التاريخية: "وحدة وطنية، قبائل متصاهرة عبر الزمن، كلنا اخوة" على طريقة السيدة التي تتحدث عن الشرف كثيرا. اقول ذلك كي لا يدفع الشيعة اصهارهم السنة الى احضان الزرقاوي فيتحول هذا الى صهر او اخ بديل، يجد بينهم المخابئ والحاضنة المحلية في العديد من المناطق ويهدد مستقبلهم السياسي، ولكي يؤمن العرب السنة بعراق جديد ويطمئنوا اليه، وأقول هذا حتى لا تؤدي مواقف الشيعة الى دفع السنة نحو حمل صور صدام حسين التي رموها قبل عامين كما حدث اكثر من مرة، في مشهد يعيد الى ذاكرتي ما فعله صدام قبل عشرين عاما حين كان يتهم الشيعة بالخيانة والعمالة لايران حتى دفع بعضهم الى حمل صور الخميني عنادا والارتماء في احضان الاصولية الايرانية كملجأ وحيد، وهو امر ندفع جميعا ضرائبه حتى اليوم ليس في مدينتي (البصرة) وحسب بل في بغداد ذاتها.
يظل على الجمهور السني ان يقول بوضوح لطمأنة اصهاره الشيعة ومخاوفهم التي هي مبررة في كثير من الاحيان، لم يعد العراق صالحا لشريحة من البعثيين ترادوهم حتى هذه اللحظة احلام الاستيلاء السهل على القصر الجمهوري.
هذا هو ((طائف العراق)) الذي لم يتفوه احد بمعناه في بغداد بدرجة الصراحة المطلوبة رغم اننا نتهامس به هنا وهناك، وحين اخشى ان ينزلق كل العراقيين في تدافع المصالح السياسية على جسر الائمة ويغرقوا في دجلتنا الغاضب دوما، كما حصل لسيئي الحظ نهاية آب الملتهب، اسمحوا لي ان انادي السيد بوش وربما السيد كوفي عنان ايضا: يا (معوّد) يا خواجه، انني احترق.

[email protected]
كاتب من العراق