إيقاعات على واقع شرق أوسطي يتغيّر
ثمّة إرهاصات واضحة لاتخطأها عين لتباشير واقع جديد بدأ بالتغيّر تدريجاً في ظل"الهيمنة الأميركية" و"التدخل الغربي في شؤون منطقتنا" الغارقة في الفوضى والتخلف، والمبتلية(إبتلائاً محلي الصنع: أي نابع من خصوصيتنا!) بأصول وإيديولوجيات لاتكرس سوى الإستبداد والديكتاتورية والحروب الأهلية.
ولاأحد يشك، رغم هذا السعي المٌستميت من قبل قوى الظلام والإظلام التي تسعى للحفاظ على هيكلية الإستبداد والديكتاتورية، في أن المنطقة تسير نحو التغيير والإنفتاح بشكل دراماتيكي، وأن الأنظمة باتت تحسب لحركة مواطنيها ألف حساب، وتتردد مرات ومرات في إعتقال أحدهم و"تأديبه"خوفاً من السوط الأميركي و"الضغط" الأوروبي المشرعان في وجهها. ويبدو الأمر، والحال هذه، أن هذه الأنظمة لم تعد تملك سوى التأثير على "جماهيرها" عن طريق إثارة غرائزهم الدينية والقومجية، مستندة في ذلك على إرث ضخم من النرجسية والتفوق غٌرست غرساً في هذا المواطن: الذي باتّ يشعر فعلاً إنه من فئة المتفوقين صحبة الحضارة، وينتمي ل"خير أمة أخرجت للناس" حيث إقتبست البشرية عنها شعلة الحضارة وبنت مدنيتها على إصول وقواعد الفكر والفلسفة المنبثقة من منطقته الصحراوبة:هذا رغم الدهمائية الطافحة في حياة ونتاج هذه المواطن...!
فليس الغريب إذن، أن تخرج جموع المواطنين مٌشكلي السواد الأعظم لرفض "الخطط الإمبريالية في السيطرة على المنطقة ونهب مقدراتها" وإستنكار سعي هذه القوى ل"تجذيّر روح التفرقة والتشتت فيها".كل هذا يتم بمباركة الأنظمة العربية، ولاسيما "الثورية" منها، تلك التي زعقت عشرات السنين بالشعارات "التحريرية" و"الثورية" الداعية للإستعداد للمنازلة لخوض "معركة الأمة الكبرى" ونجحت بإمتياز في تفريغ(بل وكنس...) الوطن من ثرواته ومقدراته وتسجيلها في الخارج (حيث الإستعمار) بإسم رجالاتها "المناضلين" وذريتهم الصالحة المباركة...
لكن مع هذا، لاأحد يستطع إنكار مايحصل من تغيير بطيء في بنيوية بعض الأنظمة والأصول الأيديولوجيا التي نجحت في ترسيخها وسط مواطنيها: في علامة أولية تقول بالتغيير وربما زعزعة بعض المرتكزات والتابوهات الراسخة في المنطقة لصالح الشعوب، وهي أولى ثمار سياسة "العصا والجزرة" الأميركية في المنطقة...
أتاتورك يتغير!
في الأخبار إن مؤتمرا أكاديمياً يبحث مسألة إبادة الأرمن أعوام 1914ـ1917 سٌمحّ له أخيراً، وبعد شد وجذب، في عاصمة الإمبراطورية العثمانية الآفلة إسطنبول!. ويدور المؤتمر عن الدور العثماني (والتركي تالياً..) في إبادة مايقارب المليون ونصف المليون أرمني وتشريد مئات الآلاف في بلدان الجوار في محاولة لتطهير البلاد من العناصر الغير تركية/مسلمة، تعٌد بحق من أكبر المجازر الدموية الحاصلة طيلة التاريخ البشري.
والحال،أن الحديث في تركيا عن مجازر الأرمن ودرو العثمانيين فيها، وكذلك المطاليب الدولية حول ضرورة أن تعترف الحكومة التركية بحدوث هذه المجازر والدور الإمبراطوري فيها، كان من المحرمات التي من دونها السجن والتنكيل والطرد في تركيا مصطفى كمال باشا أتاتورك.ورغم إتهام وزير العدل التركي(الغير عادل أبداً) جميل جيجك للأكاديميين الأتراك المشاركين فيه "بالخيانة وإستهداف بلادهم" و"الإنخراط في الضغط عليها تنفيذاً لأجندة خارجية" كما تتبجح أنظمتنا العربية في تخوينها لأبنائها عادة، إلا أن المؤتمر أنعقدّ أخيراً في إنتهاك لعادة و تابو ثابت من تابوهات أتاتورك التي سنّها للحفاظ على طابع جمهوريته العلمانية/القومية المتشددة.
وهذه الخطوة تحسب لحكومة السيد رجب طيب أردوغان الذي قال معلقاً على قرار محكمة محلية بمنع المؤتمر"إن هناك قوى داخلية وخارجية تجتهد في عرقلة جهود تركيا في الإصلاح في إطار السعي للوفاء بإلتزام الحكومة لمطاليب الأتحاد الأوروبي". وكان السيد أردوغان قد أطلق قبل بضعة أسابيع تصريحات شجاعة فيما يخص القضية الكردية واعداً الكرد بحلها،هذا طبعاً قبل أن تتدخل القوى الخفية النافذة في البلاد من عسكر وقوميين متشديين لإفراغ هذه الخطوة من مضمونها الجريء..
تركيا تشهد تغييرات حقيقية، فالحديث عن الكرد والأرمن جهاراً نهاراً كان مستحيلاً قبل مدة وجيزة، وكان المتتبع لنقاش البرلمانيين الأتراك في جلسة طارئة لبحث (القضية الكردية) أندهش حقاً من إنطلاقة النقاش بدون حواجز أو مراعاة لتابوهات أتاتورك: وبشكل خاص حينّ أتهم نواب أتراك نائب رئيس المجلس "بالوقوع تحت تأثير" أفكارالزعيم الكردي عبدالله أوجلان، وترديده لمقولات أوجلان في "الحضارة الديمقراطية" وغيرها من المصطلحات المقوضة لأسس جمهورية أتاتورك الأحادية القهرية تلك...
علوان العائد للإيديولوجيا...
أما في دمشق،"قلب العروبة النابض" مثلما تسمي نفسها، فقد نقلت مراسلة (إيلاف) الزميلة بهية مارديني عن تجمع ألف سورية تنديداً "بالتهديدات الأميركية التي تتعرض لها بلادهم في مسيرة لاجل التضامن مع العراق" وقد رفع المتظاهرون شعارات مختلفة {العراق عربي وسيبقى عربي، لاللضغوط والتهديدات الاميركية، كلنا مقاومة} ، ووزعوا قصاصات ورقية ضد الولايات المتحدة الاميركية وحمل المتظاهرون صور جيفارا ويوسف العظمة وحرقوا علم اميركا ، واكد المحامي رجاء الناصر امين سر لجان نصرة العراق في تصريح لـ"ايلاف" على ان المخطط الذي يستهدف العراق هو جزء من المخطط الذي يستهدف سورية"....
هذا طبعاً بدون كلمة واحدة تقال عن أفاعيل وجرائم "المقاومة" التي تفتك كل يوم بعشرات المواطنين العراقيين الأبرياء، ولاجرائم أسراب الجراد الأحمر من الإرهابيين وطرود الموت التي ترسلها المافيات المتنفذة في ذلك "القلب النابض" بعد تفخيخها هدية لأطفال العراق ونساءه...
وشاركّ في المظاهرة العقيد جاسم علوان أحد رموز الإنقلابات العسكرية في سورية، والعائد للتو بعد أربعين عاماً من المنفى للبلاد، وكان العقيد علوان قد حكم عليه بالإعدام عام 1963م، لقيامه بمحاولة انقلابية عرفت باسم حركة «14 يوليو 1963» ضد حكم الرئيس العسكري أمين الحافظ، وهو من التيار القومي العربي:المؤمن بالعروبة كفكرة شمولية إحتوائية لاتختلف كثيراً عن الأفكار البعثية المعروفة التي أدت إلى خراب بلدين عربيين هما العراق وسوريا،كما هو ظاهر الآن..
وفي الحديث عن المظاهرة حيث "أعتبر علوان الامين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي السابق في تصريح لايلاف ان المقاومة العراقية اشرف مقاومة ظهرت حتى الان وهي لاتدافع عن العراق فقط وانما عن الامة العربية ونحن كشعوب مع هذه الثورة". طبعاً علوان لم يفصح عن أي مقاومة يتحدث، ويعتبرها "أشرف مقاومة ظهرت حتى الآن دفاعاً عن الأمة العربية". هل هي مقاومة (الزرقاوي) ورهطه المجرم الذين يفخخون الأطفال والمساجد ويسفكون دماء الناس كل يوم،أم هي بطولات البعث العراقي في تفجير المنشآت النفطية وإمدادت مياه الشرب والصرف الصحي وإغتيال الشخصيات العراقية المنخرطة في بناء بلادها؟.
والحال إن الجو الآسن الذي أوجدته السلطة السورية تجعل من أفكار علوان التدميرية هذه مقبولة لدى قطاعات واسعة من الشارع الذي يسيطر عليه ويسيره الدهماء من منتفعي حزب البعث ومنظماته الشعبية(الثورية!!) الكثيرة هنا وهناك. لكن يبقى السؤال المهم للسلطة في دمشق: أليس في الأمر خطورة في لعب هذه اللعبة الغير محمودة العواقب، ومع ناس "حريفي إنقلابات" مثل علوان وغيره،إذمّا أتجه هؤلاء بغوغائيتهم الشعاراتية صوب النظام السوري وطالبوا بإسقاطه،ولأكثر من سبب يجدونه وجيزاً؟.
حماس والحرب المقدسة
وحركة المقاومة الإسلامة (حماس)كما تحب أن تسمي نفسها ورغم إنسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة مراهناً على الحرب الأهلية الفلسطينية، فإنها مازالت عند خطابها السلفي التعبوي المدمر، متحدية بذلك السلطة الوطنية الفسلطينية صاحبة الشرعية الدولية في إدارة المناطق الفلسطينية، لكن تصرفات (حماس) التصعيدية تتخطى كل الثوابت الوطنية لتتوقف أمام ثابت واحد هو "الجهاد ضد الكفار" وتعبئة المجاهدين(كما تسميهم دائماً) لخوض الحرب والخراب، محتلة الأرض أو كانت محررة...
(فحماس) حركة مسلحة خلقت لتحارب، وهي صاحبة خطاب ديني أصولي، تعوّد أن لايولي كثير إعتبار للأجندة الوطنية، بل تتخطاها بخطاب أممي إسلاموي، درجّ أن يسمي المقاتل من أجل رفع الظلم عن أبناء شعبه ب(المجاهد) والآخر الإسرائيلي المحتل ب"اليهودي الغاصب"(الذي تسانده القوى الصليبية: تأكيداً على الطابع الديني للصراع) وهذا هو الخطاب الإسلامي الكارثي الذي سيقود المنطقة للمواجهة والدم، ويٌغيّر من قواعد اللعبة والمواجهة: ليصبح الجلاد ضحية والضحة جلاداً...
وفي سياسة (حماس) العسكرية وإصرارها على السلاح والمقاومة رغم وجود سلطة وطنية وإتفاقات دولية ملزمة، يوحي بمدى الإفلاس الفكري والسياسي الذي تعانيه تنظيمات الإسلام السياسي المسلح، فخطابها يكاد يقتصر على مفردات (المواجهة والعنف) وتقديم المزيد من الضحايا لماتسميه بتحرير الأرض. ولاأجدني هنا أختم به مقالي أفضل من تعبير الأكاديمي الفلسطيني الصديق أحمد أبو مطر في مقاله الإيلافي المعنون(من نصدق في مجزرة جباليا؟) حينما قال" ليس مهما إطلاق الرصاص، الأكثر أهمية هو دراسة النتائج وهذا ما لا يحدث في داخل حركة حماس تحديدا، لأن سنوات الإحتلال أوجدت قدسية مبالغ فيها للسلاح رغم أن السلاح ليس دائما مقدسا فهو في حالات عديدة، غاشم و ظالم!!!. وكافة تصرفات وسلوك حماس لايوحي أنه من أجل التحرير وطرد الإحتلال بقدر ما هو صراع من أجل من يحكم دولة غزة بعد الإنسحاب الإسرائيلي."...
صحافي كردي مقيم في ألمانيا
[email protected]
التعليقات