يبدو أنَّ قَدَرًا كبيرًا من الحكمة قد دخل على خط الأزمة المفتوحة في لبنان والشام منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والفضل الأكبر فيه للمملكة العربيَّة السعوديَّة. إنَّ نوعية اللقاء بين العاهل السعودي والرئيس الأسد، والأجواء الإيجابيَّة التي رافقته ndash; عناق وغداء - والبيان المشترك الذي تناول مجمل القضايا باستثناء لجنة التحقيق، تدلُّ على أنَّ ثمَّة انقلابًا في موقف السعوديَّة من معظم القضايا الساخنة في المنطقة اليوم.
حتَّى الأمس الأوَّل، كانت جميع المؤشرات تدلُّ على أنَّ جهات مقرَّبة من السعوديَّة تقود حملة لتغيير النظام في سورية، لم يكن حديث السيِّد عبد الحليم خدَّام إلى قناة quot;العربيَّةquot; آخرها. على حواشي هذه الحملة، قامت حملة لبنانيَّة داخليَّة قادها الأستاذ وليد جنبلاط طالبت الولايات المتَّحدة باحتلال سورية وتغيير النظام فيها، واتَّهمت جهات شيعيَّة بالمشاركة في مسلسل الاغتيالات موحية بأنَّ منظَّمة quot;أملquot; وquot;حزب اللهquot; يعملان لصالح جهات أجنبيَّة.
الترجمة العمليَّة الأولى لإيجابيَّات اللقاء السوري - السعودي تجلَّت في عدم استضافة الأستاذ وليد جنبلاط على قناة quot;العربيَّةquot; في مقابلة حيَّة مساء الأحد، والاكتفاء بتسجيلها وحفظها، ربَّما لاستعمال لاحق. وكان قد رشح عن مسؤولين سعوديِّين بحسب وكالة quot;فرانس برسquot;، استياء الرياض quot;من الأصوات التي تنادي في لبنان بإسقاط النظام السوريquot;. الترجمة الثانية، والتي نعتقد أنَّها جاءت نتيجة قناعات أساسيَّة للمقاومة العراقيَّة ولمباحثات إقليميَّة كانت في رفض المقاومة مقولة quot;الحرب على الشيعةquot;، لا سيَّما بعد التفجيرات التي أعلن تنظيم الزرقاوي مسؤوليَّته عنها في كربلاء والأنبار. تركيز المقاومة على حرب تحرير قوميَّة وليست طائفيَّة تلاقي قبولاً من معظم الأطراف العراقيَّة، وارتياحًا من العواصم العربيَّة كافَّة، وفي طليعتها الرياض والقاهرة ودمشق. لماذا؟
إنَّ الاتِّجاه الذي كان سائدًا حتَّى الأمس الأوَّل كان ينذر فعلاً بحرب بين quot;هلالينquot;: هلال شيعي تحدَّث عنه العاهل الأردني الملك عبد الله منذ أشهر، ويمتدُّ من إيران إلى لبنان مرورًا بالعراق وسورية، يواجهه quot;هلال سنُّيquot; يمتدُّ من لبنان إلى العراق، مرورًا بالمملكة العربيَّة السعوديَّة. حملة خدَّام من جهة، وتصريحات جنبلاط الاستفزازيَّة، وتحرُّكات بعض القوى المحسوبة على السعوديَّة في لبنان، كانت في رأينا، من ضمن التمهيد لقيام هذا الهلال السنُّي. استبدال النظام الحاكم في دمشق بآخر يقوده خدَّام، بدعم من quot;تيَّار المستقبلquot; وquot;القوَّات اللبنانيَّةquot; في لبنان، وبعض الدول الأوروبيَّة، كان خطوة أولى على هذا الطريق. خطوة تهدف إلى عزل حزب الله، وتقويض النظام السوري مقدِّمة لضربة توجَّه إلى إيران وبرنامجها النووي، دون أن يكون لها حلفاء في غرب الهلال السوري الخصيب وجنوبه.
يبدو أنَّ السعوديَّة أدركت أنَّ تغيير النظام في سورية وضرب quot;حزب اللهquot; دونهما حمَّامات من الدماء، وأنَّ المستفيد الوحيد منها سيكون التطرُّف الديني. ولعلَّ استعجال مراقب الإخوان المسلمين العام الذي أبدى استعداده quot;للعمل مع خدَّام لتغيير النظام في سوريةquot; كان إشارة أخرى للسعوديِّين، إنَّ quot;قديمًا تعرفه، خير من جديد تجهلهquot;، وإنَّه لا ضمانة إذا قام نظام خدَّامي ndash; إخواني في سورية، ألاَّ يصادره التيَّار الزرقاوي، ويمتدُّ منه إلى الأردن، فيصبح خطر هلال سنُّي quot;أصوليquot; يمتدُّ من العراق إلى الأردن أكبر بكثير من خطر هلال شيعي يمتدُّ من إيران إلى لبنان.
إنَّ مبادرة السعوديَّة هي انقلاب واعٍ على انقلاب مجنون. فهل لكاتبي quot;البلاغ رقم واحدquot; في لبنان أن يتبلًّغوا!