يجوز أن نقول أن الشرق قد وجد نفسه فجأة في مواجهة العالم، وفي مواجهة الحداثة، نقول يجوز لأن لا شيء في حياة الشعوب يأتي فجأة ودون مقدمات وإرهاصات، مهما بلغت قوة الأحداث المفصلية، التي تدفع بالأمور إلى نقطة اللاعودة، مع ذلك فإننا لا نرتكب إلا القليل من التجاوز إذا قلنا أن الشرق قد وجد نفسه بعد 11 سبتمبر في مواجهة حادة لا مهرب منها، مع العالم المتحضر ومع الحداثة، مواجهة صار الاستقطاب فيها حاداً، بين العالم المتقدم وأطرافه التي تسعى بثبات على طريق الحداثة في شرق وجنوب شرق آسيا، وبين جيب كبير يمتد من باكستان شرقاً إلى مراكش غرباً، ومن سوريا والعراق شمالاً إلى الصومال وأريتريا والسودان جنوباً.
تشير جميع التقارير الدولية والإقليمية، بجميع المقاييس والمؤشرات، أن هذه المنطقة متعثرة منذ قرون على أبواب الحداثة، تعجز عن ولوجها، رغم وقوعها في منتصف العالم، وتعرضها لتياراته الحضارية، ما كان يتصور أنه كفيل بتناغمها وتزامنها مع مسيرة البشرية، لكن هذا لم يحدث، بل ونتج عن تعرض المنطقة لتلك التيارات، الدفع بالأمور إلى ظاهر حداثي لم تتوفر مقوماته على أرض الواقع، فكان أن صارت دول ومجتمعات المنطقة أشبه بالمسخ المشوه، بما تضمه من تناقض داخلي، أفرز تقلصات داخلية، شكلت مع معوقات التخلف الأصلية ملامح المأساة الحضارية، التي جعلت شعوب المنطقة ومحاولات التنوير تتعثر وتتخبط في دائرة مغلقة، تتحرك من سيئ إلى أسوأ، بحيث تتحول أي حركة للأمام إلى تدهور نحو قاع لا نهاية له، وهي النتيجة التي نراها جلية للعيان، بعد ما سمي بمرحلة الاستقلال والتحرر الوطني في الخمسينات والستينات، لتأتي الألفية الثالثة ونحن نستجدي الاستعمار (ولو تحت تسمية الأمم المتحدة)، لتنقذ ما يمكن إنقاذه!!
كان يمكن أن تظل المنطقة تتمرغ في تخلفها بتأثير عواملها الذاتية، لتشب فيها صراعات محدودة لا تلبث أن تخمد، في حالة يمكن وصفها بالاستقرار، حتى وإن كان استقراراً هابطاً نحو القاع، بمعنى تفاقم الأزمة الحضارية، ولكن في حدود داخلية، لا تتعدى تدهور أحوال المعيشة، والزيادة الانفجارية في النسل، وما شابه من معالم ومآسي داخلية، نقول كان يمكن أن يظل الأمر أزمة داخلية فقط، لا يمتد من تأثيراتها إلى العالم الخارجي إلا لقليل، الذي يستطيع العالم أن يتجاهله أو يتحمله، بعد فشل مشروعات الإنقاذ العالمية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وأهمها مشروع حلف بغداد، الذي أسقطناه بجدارة واقتدار، لولا أن أخذ التدهور الداخلي المنحى الذي أدى بنا إلى إنتاج ما يمكن تسميته بفكر تنظيم القاعدة ورجاله، وهو الإنتاج الذي ساهمت فيه، أو أنتجته في تزامن رائع جميع شعوب المنطقة، ويقتضي إرجاع الفضل إلى ذويه، أن ننوه هنا بنجاح جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر في ثلاثينات القرن الماضي، في خلق قاعدة ممتدة باتساع المنطقة، ساهمت في هذا التناغم والتزامن، لتنامي هذا الفكر والكوادر الحاملة له، ليطور إلى طالبان في أفغانستان، وجماعات الجهاد المختلفة في فلسطين ومصر ولبنان والسعودية والسودان والجزائر، وفي أنحاء المنطقة عموماً، المهم أن هذا الإنتاج الجهادي أو القاعدي، والذي تطور كماً وكيفاً، استشعر القدرة على تجاوز الحدود الإقليمية لدائرة إنتاجه، فكان أن امتد إلى العالم الخارجي، ليصل ذروة أدائه بغزوة 11 سبتمبر 2001، ليبدأ العالم بعدها ضغوطه الهائلة الساخنة، لتحديث منطقة غير قابلة أصلاً للتحديث، لسبب نراه بسيطاً وهو عدم اكتمال مقوماته!!
نقول في مصر quot;الضرب في الميت حرامquot;، من منطلق أن الضرب غير مقصود لذاته، وإنما من قبيل التأديب والتهذيب، لكن إذا كنت تضرب ميتاً عاجزاً عن التأدب والتهذب، فإنك بهذا تكون فقط ترتكب ذنباً بلا أي جدوى حقيقية، وهذا ما تفعله أساطيل وقوات أمريكا والتحالف العالمي معها!

إن قلب عملية الإصلاح المنشودة هو تكوين دول حديثة ديموقراطية تقوم على أساس المواطنة واحترام حقوق الفرد والأقليات، وتفتح أبوابها للعالم أخذاً وعطاء، والمعضلة التي نتصورها بلا حل، هو أن المنطقة لم تصل إلى المستوى الحضاري الذي يجعلها مؤهلة لذلك، فنحن أساساً لسنا أمام دول حقيقية تحتاج إلى تطوير وتحديث، بل شعوب في مرحلة القبائل والطوائف والعائلات، فرض عليها شكل الدولة فرضاً تعسفياً، لهذا جاء مشوهاً بالأساس، الدولة الحديثة كما نعرف جميعاً هي وليدة الثورة الصناعية والطبقة البرجوازية، الممثلة لأمة قد انصهرت في واحد، سواء من حيث نمط الحياة والأفكار، أو من حيث المصالح المادية، فكانت الدولة الواحدة والديموقراطية والحرية وصناديق الانتخاب، فنحن نعرف المواطنة بأنها انتماء متخيل، حيث يستشعر الفرد بانتمائه إلى كل أكبر هو الوطن الواحد، وبأن مصالحه ممتدة إلى جميع تخوم هذا الوطن، ومتماثلة مع جميع المشتركين معه في ملكيته، فعند هذه المرحلة فقط تتكون الدولة الوطنية الحديثة، وعندها فقط يكون الشكل متطابقاً مع المضمون، وعكس هذا هو ما حدث مع المنطقة محل النظر.

لقد توقفت منطقة الشرق الكبير عند مرحلة القبائلية والطائفية، وعجزت عن تجاوزها لما بعدها من مراحل حضارية، ولا ننتوي في هذا المقال التعرض لأسباب هذا التعثر أو التحجر، لكننا نركز على أن وجود المنطقة في مهب رياح التأثيرات العالمية، قد أضر بها ربما أكثر مما نفع، إذ عجل بظهور الدولة الوطنية دون توافر مقوماتها على أرض الواقع، فكان التناقض الحاد بين الشكل والمحتوى، بين المظهر الوطني والباطن القبائلي الطائفي، وكان أن حكمت الدولة بمنطق القبيلة، وكان أن عجز الفرد عن تصور نفسه كمواطن متساو مع باقي المواطنين في الحقوق الواجبات، وبقي أسير تصور نفسه ضمن الانتماء العشائري أو الديني.

ألم يحكم صدام حسين - مدعي القومية والعلمانية ndash; العراق بمنطق طائفة السنة، فكان تهميش الأكراد والشيعة، إلى حد الاضطهاد والتنكيل، بل وحكم السنة بمنطق عائلته التكريتية، التي احتلت جميع المناصب الحساسة والمؤثرة؟!

وعائلة الأسد العلوية في سوريا، والتي تملأ الجدران بشعارات البعث القومية، هل أسست فعلاً دولة قومية ولو على مستوى الوطن السوري محدود المساحة، أم أنها تقود مجموعة طوائف بثياب دولة قومية؟!

حتى لبنان، الديموقراطية الوحيدة التي نتباهى بها، هل هي دولة وطنية حقيقية، يستشعر كل فرد فيها بانتمائه إلى وطن ومواطنيه، أم أن الفرد فيها أسير انتمائه الطائفي والعائلي، فالسنة عائلات، والشيعة عائلات، والموارنة عائلات، بهذا تصبح الديموقراطية ملهاة، وصناديق الانتخاب مهزلة، وتكون الدولة مسخاً، لأنها لا تنسجم مع الواقع على الأرض، أي مع المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع، وكان أن حدث ومازال ما يتحتم أن يحدث لحالة كهذه، فبدلاً من أن تتطور التجربة الديموقراطية وتتعمق، تسقط لبنان في دورات من التمزق والفرقة، كما حدث في النصف الثاني من الخمسينات، ثم في السبعينات، لتسقط بعدها في براثن البعثية العلوية الممسوخة، ليحاول العالم المتحضر الآن إقالتها من عثرتها، ليصنع منها دولة حديثة بحق، لكن أيضاً دون توافر الشروط اللازمة لتكون الدولة الحديثة الحقيقية!

والأسوأ أن امتدت موجة التشرزم القبائلية إلى أقدم دولة قومية في العالم، وهي الدولة المصرية، فقد أصابها فيروس الطائفية الدينية، كأنما لتحجز مكانها عنوة في قطار التخلف الراحل إلى الضياع، فنجد رئيسها يدعي على نفسه بما ليس لموقعه، حين يعلن السادات في مكابرة ونفاق جديرين بالدهشة، أنه يحكم مصر كرئيس مسلم لدولة إسلامية، لقد خلع ببساطة وغباء رداءه الوطني، ليقفز في بركة التخلف الموحلة!!
نفس هذا يمكن أن يقال عن جميع دول المنطقة، فالقاسم المشترك واحد، أن مشكلة النظم الحاكمة ليس في النظم نفسها، بقدر ما ترجع إلى عدم مناسبة النظام الوطني لمجتمعات تعيش بعقلية وظروف القبيلة والعائلة والطائفة، ومحاولة حرق المراحل هنا، وربما في حالة هذه المنطقة بالذات، ضرب من خداع الذات، أو مناطحة الصخر، وهذا بالضبط ما تفعله الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها، فليس عبثاً قال نزار قباني، في قصيدة هوامش على دفتر النكسة:
خلاصة القضية توجز في عبارة قد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية

[email protected]