منذ ما يقرب من خمسين عاما ولبنان ساحة للصراعات وتصفية الخلافات بين قواه المختلفة، وطوائفه المتعددة. ولا يكاد يختفي عن السطح خلاف حتى يظهر اختلاف آخر أكبر وأعمق. ولو كان للفرقاء اللبنانيين مرجعية واحدة لهان الأمر واتفقوا على أجندة تتضمن حدا أدنى من القضايا والمطالب التي يتشاركون الرؤية إليها، وتوحدهم، وابتعدوا عما يختلفون فيه ويفرقهم. لكن المرجعيات عديدة، ومصالحها متناقضة متصادمة، تنعكس للأسف الشديد سلبا على لبنان واللبنانيين.

اللاعبون كثر في لبنان، والخلافات اللبنانية كثيرة وعميقة. حتى ليكاد المراقب أن يقول أن اللبنانيين- بسبب هذه الخلافات والاختلافات- غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، وهم وإن كانوا قد أظهروا حتى الآن، منذ انتهاء الحرب الأهلية، القدرة على تأجيل اشتعال نيران هذه الخلافات، لكنهم لم يستطيعوا في الماضي، وأخشى أنهم لن يستطيعوا في المستقبل منع اشتعالها، واجتثاث أسبابها من جذورها. فهم يختلفون حول كل شيء يتعلق بحياة وطنهم ومستقبله، من الهامشي إلى الجوهري، دون اهتمام للأسف بالمواطن اللبناني وتطلعاته وهمومه وحياته اليومية. وهذه الخلافات المزمنة منها ما هو ظاهر للعيان ومنها ما هو خفي لكنها جميعها مترابطة متشابكة بعضها ببعض.

فهم يختلفون أولا حول رسالة لبنان، وعروبته، وسياسته في المنطقة، وعلاقته بالولايات المتحدة، وأوروبا. كما يختلفون حول دور لبنان في النزاع العربي الإسرائيلي، هل هو عسكري، أم سياسي، أم الاثنين معا؟ ويختلفون أيضا حول الموقف من السلطة الفلسطينية، والموقف من الفصائل الأخرى المسلحة مثل الجهاد وحماس، وحول السلاح الفلسطيني على الأرض اللبنانية خارج المخيمات. ويختلفون بقوة أيضا حول الموقف من إيران وملفها النووي، ودورها في المنطقة والبلاد العربية، والموقف من صراعها السياسي ضد القوى الغربية (أمريكا، بريطانيا، .. الخ). كما يختلفون وهنا بيت القصيد حول القرار (1559) ونزع سلاح حزب الله والفصائل الفلسطينية الأخرى، ودور هذا الحزب، ومستقبل سلاحه بعد تحرير مزارع شبعا، وعلاقته بالسلطة اللبنانية، وهل هو حزب مقاومة أم ميليشيا مسلحة. ويختلفون أيضا حول العلاقة مع سوريا من حيث الشكل والجوهر، وتوقيت ترسيم الحدود معها، وبخاصة مزارع شبعا. وحول إزاحة أو استقالة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود، وطبيعة المحكمة الدولية ومهماتها، وتوسيع صلاحيات لجنة التحقيق، وحول الموقف من تقرير ميليس الأول، وحول تفسير بعض مقررات الطائف، خاصة المتعلقة بنزع سلاح الأحزاب، وآلية اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء. كما يختلفون حول الأقلية والأكثرية، وروح الدستور، وربما الدستور نفسه، وأخيرا وليس آخرا حول المساعدات الأمريكية والأوروبية للبنان، ودوافعها، وأثمانها.
إن هذه الخلافات الكثيرة، وتباين الآراء حولها، قد لا يجعل من السهل إيجاد حل لها على المدى المنظور، في ظل الصراعات والأجندات الدولية والإقليمية الحالية، ومصالح ممثليها. وقد يكون السبب الرئيسي لهذه الصراعات والاختلافات تعدد المذاهب والأديان في لبنان التي إن ترافقت مع الجهل واستغلها أمراء الطوائف والزعماء تتحول إلى حقل من الألغام قابل للانفجار بدون إنذار، لكنها إن ترافقت مع التسامح واحترام حرية الآخر ومعتقداته، والرغبة في العيش المشترك في وطن واحد، بعيدا عن الأجندات الخارجية، أغنت لبنان وطورت حياته الفكرية والفنية والسياسية والاقتصادية، فماذا يهم المواطن اللبناني العادي سوى الأمن والأمان، وزيادة الدخل وتوفير فرص العمل، والاطمئنان على مستقبل الأبناء والبنات، وتعليمهم، والرعاية الصحية له ولهم، والعيش الهني واللقمة الطيبة.

إن استمرار هذه الخلافات التي لا تخدم الوطن والمواطن اللبناني، بل تجعله في قلق وخوف وعوز دائم، سيشل الحياة السياسية في لبنان، وهي مشلولة الآن، ويقضي على السلم الأهلي ويفجر الوضع إلى ما لا تحمد عقباه، ويخشاه الجميع.

[email protected]